سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الأحد، يونيو ٢٢، ٢٠٠٨

صلاحيتك التي ليست لمدي الحياة


صلاحيتك التي ليست لمدي الحياة
هاني درويش

يقول إعلان إحدي شركات التليفون المحمول الكبري" دقائق مجانية ...صلاحية مدي الحياة"، هكذا يصفحك الإعلان صباحا في كل الطرقات فتطاردك الفكرة لدقائق، ثم تلح عليك من وقت لآخر طوال النهار، يأتي الليل فتنطبع علي سقف الغرفة في ساعة الأرق التي تودع بها اليوم، تقوم صباحا فتكتبها علي شاشة الكومبيوتر وتنتظر....، تنتظر تلك الدقائق المجانية التي وفرها الإعلان كي تفكر فيه، لكن هل مايؤرقكك منذ أمس حقيقة الدقائق المجانية أم نصف العبارة الثاني؟ ...ماذا يريد المعلن من المستهلك حين يبشره بتلك اللغة المنتصرة بأن هناك صلاحية لشئ ما مدي الحياة، وقبل أن نسقط في بحار التفلسف والتأمل فإن مفهوم صلاحية خطوط التليفون المحمول إختراع مصري أصيل لم اري مثيلا له في كل أنحاء العالم، ومنذ نحو عشر سنوات كان الناس يطاردهم شبح نفاذ صلاحية الكارت أو الخط ككرباج يدمي وجوههم ويحملهم ندبة الفقر وعدم تحمل مسؤلية أن تحمل جهاز محمول، إخترعت الشركتان العاملتان فكرة صلاحية الخط كتهديد دائم للمستهلكين إذا لم يشحنوا رصيدهم من وقت لآخر، ربطت الشركتان بذكاء رصيدك – الذي هو مثقال وزنك الإقتصادي وطبقتك الإجتماعية وسلوكك الهاتفي- بصلاحية رقمك، تفضلوا عليك وأعطوك نمرة للإتصال والإستقبال فهل يمكن أن تحولها أنت إلي كابينة إستقبال مجانية دون أعباء، هذا القمع اللاقانوني وافق عليه جميع المصريون كما لو كان تبعة بسيطة أو فاتورة مؤجلة علي حساب دخولك عالم الإتصال من أي نقطة، وتعلم الشركتان الكبيرتان أن سلعتهما تخاطب لافقط ذوي الدخول العالية بل إن مكسبها الحقيقي فعلا في دخول خدمتها وسط طبقات المجتمع بأسره، بل وربما فائض قيمة أربحاها الصافية لن يتحقق إلا علي الشرائح الدنيا تلك التي تتباهي بالجهاز و مايوازي الرنة رصيدا، اليوم أنتهي شك الشركات الثلاثة في إمكانية أن تقلع عن إدمانك للمحمول، بمعني آخر بات مشهد أن تنزع شريحتك لترميها في قارعة الطريق مستحيلا، راهنت تلك الشركات بصبر علي إكتساح المنظومة التواصلية للمجتمع بحيث يصبح من لا يحمل محمولا خارجا عن الإجماع العام، أو كمن يسير بلا بطاقة هوية، وتحولت بالتبعية معايير التعامل مع الوقت(الزمن) إلي معايير منضبطة بالدقائق وطريقة إستهلاكها تقطيرا وتبذيرا، الإعلان الذي يحمل تلك البشري يضعك تماما في مجال صلاحية الإستقبال، أي كونك موجود علي الأقل، فيما الدقائق المجانية بمعيارها الزمني الأضيق هو صلاحيتك كصاحب قرار إستراتيجي في التواصل مع الآخرين، أنت تصلح إذا للإستدعاء، تلبي طلب المجهول والمعلوم من الناس في أي لحظة وفي أي وقت طوال عمرك المديد، أما تكلفة الإختيار الحر بالإتصال بالأخرين فهي رهن رصيدك أوفاتورتك التي تصارع فيها ثانية بثانية، أما إذا لم ترد يوما فلا معني لذلك أنتهاء صلاحية الكارت، معناه أنتهاء صلاحيتك كإنسان تحت الطلب الفوري، معناه أنك خارج نطاق الخدمة الحيوية، خارج صلاحية الحياة، ولن ترد علي تليفونات أخري.

ليلة لم يأكل فيها السويسريون الكباب التركي


ليلة لم يأكل فيها السويسريون الكباب التركي
وحضر السلطان سليمان القانوني إنتصار موقعة "بازل"
هاني درويش

عندما احرز اللاعب حاكين ياكين رأس حربة المنتخب السويسري هدف بلاده الأول لم يجري سعيدا علي عادة الإنفعال الدارج الذي تلوح فيه القبضات وتجز الأسنان، بدي خجلا كمنفذ حكم الإعدام بالكرسي الكهربي ، الذي يرفع مقبص الفولت العالي بآلية من يقول صباح الخير، لم يجري سعيدا بل وحاول أو تجنب فعليا إحتضان زملاءه المهنئين المنفعلين، ذلك انه احرز هدف التقدم في تركيا بلده الأم، وكأنه يكفر ضمنيا عن هذا الذنب، كان ذلك أحد المشاهد الفارقة في ملحمة لقاء تركيا بسويسرا يوم الاربعاء الماضي في إطار بطولة الأمم الأوروبية لكرة القدم، فقد قدر للمشاهدين أن يحضروا تلك المعركة المجازية الكبري لمدة 120 دقيقة من صعود وهبوط المواجهة بين شرق وغرب كلاهما يتبادل الشيفونية مجازا علي هيئة كرة قدم مطاطية، كرة قدم ركلت بعنف بدائي، عنف تناص بالمبارة من ذلك الطقس الوثني التطهري المنتمي للعصور الوسطي والذي به دشن الإنجليز لعبة كرة القدم من قلب محاكم التفتيش، كان القرويون الإنجليز في العصور الوسطي يقطعون رأس المهرطقين ويركلونها بالإقدام من قرية إلي أخري، فعرفت كرة القدم من قلب تلك المعمعة الإنتقامية البدائية، وفي ليلة إستاد بازل إستدعي الجميع وأستحضروا القيمة المخبؤة في هذا الطقس حتي لو خفف من حدة المشهد الإعلانات التجارية البراقة وجمال أرجاء الملعب ذو الحشائش الخضراء والتنظيم الدقيق والأضواء المبهرة، فصباح المعركة الكروية خرجت الصحف الشعبية السويسرية تحمل عنوانا دالا "الليلة سنأكل الكباب التركي" في إستعارة أقرب لتاريخ قريب وقف فيه الفييناويون- وكانت سويسرا جزءا من أمبراطورية النمسا الشهيرة- يغيظون جيش الحصار العثماني لمدينتهم بعجينة مخبوزة تشبه الهلال الإسلامي وهم يمضغونها بتلذذ، عجينة ستتحول مع الأيام إلي "الكورواسون" الشهير رمز مهانة السلطان سليمان القانوني الذي انتهت مغامرته عند أسوار العاصمة النمساوية وبدء منذ تلك اللحظة مسيرة "للخلف در" التي أكسبت بلده لاحقا لقب "رجل أوروبا المريض".
السلطان سليمان كان حاضرا في نحو ما يزيد نصف مليون تركي يعيشون في سويسرا، اشتري منهم نحو 40 ألفا تذاكر للمباراة ذات الحس الثأري، كان حاضرا في علم الدولة الأحمر ذو الهلال والنجمة، بينما أوروبا تواجهه بعلم أحمر آخر يحمل صليبا ابيض، أوروبا في نسخة هشة أسمها سويسرا المنقسمة علي خاصرة اربع لغات، بلد الخدمات والرفاة الراقية والمهاجرين والثلوج و الفيفيا والحياد، تواجه أبناء الأناضول المتحفزين في كرة القدم كما في السياسة لإثبات هويتهم الأوروبية المنقوصة، ذهنيتان تتصادمان في ليلة حملت لها الأقدار أمطارا حولت حلبة الملعب إلي بركة من الركل والماء المتطاير والأنوف التي تمخر بخار الماء وكثير الكثير من الدماء التي إنفجرت من رؤوس اللاعبين، نزف لاعبو تركيا من جباههم الدماء فصرخ المذيع المصري "هاهي الدماء الساخنة تستفز من أجل رفعة الوطن التركي المسلم" وكأن موقعة بازل إنتقام للشرف الممرغ في تراب الدنمارك، وفيما بدأ هطول الأمطار إلتجأ المشجعون السويسريون- المحتسبين للأمر بدقة ساعاتهم الشهيرة -في إخراج معاطف المطر الشفافة كان المشجعون الأتراك يلتمون وجوههم كعصابات قطاع الطرق، أما في ساحة المعركة حيث قعقعة الركل والضرب والدماء فكان المنتخب السويسري الذي لم يعرف عنه الحمية أو العنف متفاخرا بعنفوان الشباب في فريقه، متوسط اعمار الفريق السويسري لم تزد عن ال23 عاما، ضم لاعبان تركيان وآخر إيطالي وفرنسيان وواحد من جزيرة الرأس الخضراء، محفل كوزموبوليتاني من أبناء الجيل الثاني من المهاجرين يواجهون رؤوسا مربعة اناضولية أقرب للميلشيا بمتوسط أعمار يصل إلي الثلاثينن، كان المذيع المهووس بإذكاء تلك الجلجلة بنيران مواجهة الشرق للغرب يذكر كل دقيقيتين مشاهدينه بأعداد الأتراك والمسلمين في أوروبا، ومحتفيا بالدماء الأناضولية النازفة قال: هاهم أبناء الأناضول يستعيدون أمجاد الأزمان الغابرة، قبل ان يستدعي –كل دقيقتين أيضا- ذكري معركة كروية قريبة أخرجت فيها سويسرا تركيا من تصفيات كأس العالم ملمحا بمؤامرة تحكيمية رجحت كفة الفريق السويسري في تلك الليلة.
لم يبك المشجعون السويسريون عندما أطلق الحكم صافرة النهاية، أنصرفوا بوجوهههم الملونة فيما الأتراك الفائزون انهاروا بكاءا بعد أن سجلوا هدف الفوز في الدقيقة الثالثة من الوقت الضائع، لم يبك من اللاعبون السويسريون غير اللاعبين الأتراك، سقطوا علي نجيلة الملعب الموحلة وقد إنهار إحساسهم بمنحة الهوية الأوروبية التي لم تحمهم من عصبية الجذور، يبقي أن نشير إلي أن المذيع المصري وإمعانا في تسخين أجواء المعركة منذ ركلة البداية أشار إلي أن مدينة بازل السويسرية تحمل جرحا عربيا مفتوحا بإستضافتها منذ مايزيد عن القرن المؤتمر الصهيوني الأول ، قال تلك الإشارة ثم تحدث عن تسامح السويسريون وأدبهم وإحترامهم -الذي لم ينجيهم من الهزيمة-، وكأن قانون المجنونة المستديرة ينتصر لروحه البدائية القديمة فتفوز تركيا وينهزم السويسريون، لكن هل يعني ذلك ما هو أكثر من مجرد مبارة؟ لم يجيب المذيع عن السؤال.

شهادة متأخرة عن بيروت المحتفية بالطبوغرافيا والصخب


شهادة متأخرة عن بيروت المحتفية بالطبوغرافيا والصخب
هنا وهناك ...من يكفرون عن ذنب انهم وجدوا
هاني درويش
" تأخرت هذه الشهادة عن بيروت طويلا، ولا ذنب لبيروت أولي في ذلك، فكتابتها الأولي تمت فورعودتي منذ شهران، لكن ماشهدته بيروت من مآسي بعد اسبوع واحد من عودتي أخرتها، وربما عمقت تلك الأزمة شهادتي فيما هو أبعد قليلا من فورة الحماس الذي ظللت أيام العودة الأولي، فشاء للشكوك أن تجد أخيرا تحققها، وشاء للأمل في تلك المدينة ألا ينقطع.
***
هي ذي أخيرا بيروت، أمل أخير بالدهشة، ومفاجأة حين تندر المفاجأت بحكم إعتيادنا دائما علي تحقق أسؤ الإحتمالات، جيلي المجبول علي تهذيب خياله علي فقر الواقع، ستصيبه تلك الصدمة البطيئة التي تركتها تتسرب بعمق في مسامي لنحو 8 أيام، الفرح بأن هناك ثمة مايمكن الحكي عنه في مدينة الأحلام تلك غير مستوي عري بناتها أو فحش مظاهر إحتفائها بالإستهلاك، حتي مع أقسي الإتهامات التي تعلبها في عيادة جراح تجميل تزدحم فيها النساء حقد ما علي هذا المستوي من محبة الحياة التي بتنا نكرهها، نعم نكرهها، ونكره فيما نحن نقتتل يوميا علي البقاء فيها أن يتمادي آخرون في محبتها، كان من حق محمد أبي سمرا أذن أن يلخص القاهرة في أول زيارة له بأنها مدينة هرمة ومتعبة، ذلك ان التداعي البطئ الصبور المصمم والكارثي بلاعودة لمدينة بحجم القاهرة أمسي علامة للتعجب، ربما لاننا ونحن نعيش بها تحت خيار اللاموت/اللاحياة قد نسينا أن هناك ثمة حياة يمكن أن تعاش أو موت قد يفاجئنا، مدينتي هرمة علي نقيض صبا بيروت المتجدد بلانهاية، مدينتي تنمو كراهيتها بصبر لايفجر طاقة إحتماله إلا مواجهة نقيضة علي حين غرة، إلا بيروت، فكثيرا ماأرقني ذلك الإنكفاء المصري الصميم علي إعتبار أن مصر هي أول العالم وآخره، سبعة آلاف سنة من الحضارة لاأعرف كيف اختبرها في غضب الوجوه اليومي، فحجم قطيعة التاريخ والواقع اصعب من أن تملئ فجواته أعتي التحليلات السياسية والتاريخية، قطيعة أقرب إلي نكوص جيني طبيعي ربما اصاب مدينتا بتدرج، أو كأننا بتنا فئران تجارب في معمل سري يشرف عليه نمط مندثر وشيطاني من الساسة ورجال الدين والعسكر.
من كلاشية المذبحة الزرقاء إلي بازار النضال والحداثة الفارقة
تنسمت بيروت لسنوات عبر ذلك الكتاب القديم الذي أتذكر غلافه الأزرق الذي تتمدد عليه صور مذبحة صبرا وشتيلا، كنت ابكي لسنوات كلما تذكرت صوره بتعليقاتها البسيطة، تحديد حدود المخيمان، الإنذار الأخير لقوات الكتائب، مراقبة الإسرائيليين، الجرافات، بتر الأثداء وبقر البطون، إغتصاب، قتل، تقطيع أجساد بالسكاكين والسواطير، بيروت هي المذبحة لا أكثر، خروج المقاومة الفلسطينية، يوميات الحرب الأهلية ، رؤوف مسعد، "بيروت بيروت" لاحقا لصنع الله ابراهيم، وتركيب كل ذلك علي صوت فيروز في ليالي الشتاء، وصوت مارسيل في تسجيلات ثورية بصدي الصوت وارد الأردن وسوريا، تتقاطع مع تلك الذاكرة كتابات لاحقة لمراسلين أجانب عن الحرب الأهلية تحتوي علي تلك الإستعارة الشعرية في حكاية العمة التي تحكي لأبن أخاها الناجي قصة موت أسرته بعد مذبحة أهدن، الحرب الأهلية تناسبت مع وعي مغرم بالحكاية البوليسية في روايات أجاثا كريستي وارسين لوبين، وإن بدت مشاهد القتل المتنقلة والكر والفر من وإلي الأشرفية ونحو خطوط التماس بيت البيروتتين اقرب لخيالي غالبا من اجواء السير الشعبية، الحديث هنا عن موارنة يحملون الصليب وفلسطينيون يحملون شرف العروبة وخيالات التحالف مع إسرائيل ابعدت كثيرا عن ذهننا نحن في القارة الأخري الدور الذي لعبته القوات السورية التي بدلت تحالفاتها كتبديل الثياب مشعلة الحرب من حي إلي آخر، بدت بيروت الثمانينيات البعيدة وكانها مدينة خرجت عن عقلها بالكامل، خاصة وان ميلنا الفطري لتصديق القضية الفلسطينية في كل كتاب لم يكن كافيا لفهم تلك التحورات والإنقسامات المتوالية والتحالفات المتقاطعة بين الفرقاء اللبنانيون، وكأن تاريخ الدماء المسفوح أنسي الجميع من اين ابتدوا والأقسي إلي أين انتهوا، فأصابني الضجر من القضية(فلسطين) والساحة البعيدة (بيروت) أيضا فجأة، تسرب إلي شك حقيقي -في هذا التوقيت- في معني هتاف ادمي مدامعنا حين كانت أعناقنا تشرئب مرددين في الجامعة "طفلة حلوة لكن قتيلة ...جوا صبرا وف شتيلا"، لم يكن ذلك الشك فقط وليد ما أصابنا من صدمة مع مؤتمر مدريد للسلام، كان هناك في عمق انفعالنا اليأس من فورة منتهية الصلاحية، وبدت بيروت أوائل التسعينيات في أذهان جيلنا من يسار لحظات الجزر العليا أقرب لمدينة أشباح إبتنيناها بالكامل في متاهة العقل، أنسنا بشكل لاواعي إلي خصخصة النضال –وهو زمان الخصخصة بإخلاص عبر كل ضفاف العالم- في حزب الله، كان تقسيم العمل آن ذاك ان تنهض مدينة الأشباح تلك من غفوتها (غفوتنا) بأي ثمن، أصل ذلك الإحساس إنبني وفقا لما حكاه اصدقاؤنا العائدون لأول مرة من رحلاتهم الصحفية إلي بيروت، كان برنامج الرحلة- التي أشتهرت سياحيا- ثابتا مهما كانت شخصية أو انتماء الزائر، بيروت المخيمات الفلسطينية، زيارة الجنوب في حماية مناضلي حزب الله، التقاط الصور قرب الحدود مع فلسطين المحتلة، البعض ضم إلي بازارات التباهي لاحقا بعضا من تراب الجنوب المحتل مسجلا بداية التحرير بالحفنة، كانت المدينة (البلد) تعيد انتاج صورتها من جديد، صورة منضبطة تبدأ غالبا بزيارة سوريا الأرخص والأقرب بحكم أواصر المحبة الستينية لتبدو بيروت للمغامر المصري رحلة ليومين أو ثلاثة يصحبك خلالها (التور ليدر) فيما تبقي من بازار النضال القديم(الجنوب) وجسد الحداثة الصاعدة(بيروت)، وكان القادمون منها غالبا ما ينقسمون حول شيزوفرينيا المدينة بين مرحب علي مضض وهم قلة، أو مختصر لوجهها في طلته النضالية وهم الأغلبية.

بدءا من السابع عشر من شهر إبريل وحتي الرابع والعشرين منه وفر لي ملتقي أشكال ألوان الفرصة أخيرا لمطابقة مدينة الخيال بمدينة الواقع، قبلها لعبت الصدفة دورا في اكتشاف الصديق حسن داوود خلال دورة من دورات مؤتمر الرواية بالقاهرة، ثم تشرفت بالإنضمام لقافلة المستقبل منذ خمس سنوات، كان حبل الغرام قد اتصل بحكم الكتابة التي كثيرا ما وصفها مقربون لي بأنها اقرب للمدرسة اللبنانية في الصحافة، فكان ملحق نوافذ إسما علي مسمي، فمن خلاله أصبحت الكتابة حرفة بروح الهواية والغواية، ولازلت حتي الآن افخر بكون بيروت هي قبلتي المهنية والفكرية، لذا كان طبيعيا ذلك التوتر الذي صاحب مكالمتي الأولي مع البديعة كريستين طعمة، فكما يقال في المثل المصري"قالك الجمل طلع النخلة ...طب آدي الجمل وآدي النخلة".
بيروت علي مرمي النظر من كوة الطائرة تصيبني برعشة خفيفة وتقافز لشعيرات جلد اليدين، فمشهد المدينة البحري خلال مناورة الطائرة للهبوط في مطار رفيق الحريري ذكرني بأوروبية متوسطية لم أفهم معناها إلا حين راقبت نفس المشهد أعلي مدينة "نيس"، قبلها وفيما نضبط أحزمة الأمان علي متن طائرة "الميديل أيست" فرض تحدي اوروبية بيروت نفسه، فهناك ذلك الترف والرفاة التي نخشاها ونخشي علي أنفسنا منه في مصر، عندما مرت المضيفة ذات الإبتسامة الخشبية بعربة جرائد خفت أن أمد يدي تخفيفا منذ البداية للنفقات المتوقعة، فوجئت بلا مبالاة جاري وعدم تردده عندما سحب "النهار" وسأل عن "البلد"، إذن هي مجانية، يا الله ثمة أشياء لازالت مجانية، طلبت المستقبل لأراها مطبوعة لأول مرة، في عودتها طلبت الأخبار والسفير والنهار"بثقة من فهم الفولة"، أريحية تحرك المضيفات دون خجل من أجسادهن لفتت إنتباهي إلي خروجي من المجال الحيوي للنفق الجسدي الذي نسير داخله كمصريون، تزامن ذلك مع ظهور الراكبات اللبنانيات اللآتي أحسسن بإنشراح العودة للوطن هروبا من كثافة التلصص عليهن في مصر، نساء بالمعني الإصطلاحي للكلمة لا يعنين من أرق أو عبء تحمل جمال أجسادهن فطفقن يبرزن مواضع جمالهن دون حرج، تلك الصدمة الأولي في الطائرة أرهبتني بشكل مبالغ فيه مخافة أن احسب علي تلك الفئة التي وإن عادت من بيروت بقت تتحدث لسنوات عن جمال نساءها، عتبة التهذيب بالصدمة في الطائرة ذكرتني باليوم الأخير للسفر في الجريدة، كنت قد علقت ورقة في لوحة الإعلان بالجريدة تحمل تكليف الزملاء بتسليم موضوعاتهم إلي من ينوب عني في إدارة الصفحة، لذا كان طبيعيا أن ينهال الزملاء علي توديعي وطلب "سيفونيرز"من بيروت، في العادة ، الأصدقاء سيطلبون مني زجاجة عرق أو كتاب صادر من بيروت، في هذا اليوم طلب مني نحو 13 شخص من اصل 15 قاموا بالتعليق علي سفري لبيروت طلبوا "موزة حلوة " أي بنتا علي مواصفات الكليبات الغنائية، هذا الإنشغال ببيروت "الأنثي الطافحة إغراءا" اجبرني منذ اللحظة الأولي علي الطائرة لعدم إطلاق شهية النظر المتأمل للجمال حتي بدون إكسسواره المصري الفج، ضربت وعدا رهبانيا مفاده التكفير عن هذا الخطأ المصري الكامن في تناول لبنان، ورغم ذلك ، وفيما أسلم قيادة نفسي لأول وجه لبناني طالعني في المطار- جو سائق العربة الذي صحبني إلي الفندق في الحمرا- لم استطع منع عيني من متابعة ذلك المحفل الطاغي بمحبة الجسد كما أبرزته الإعلانات في الطريق، صيف بيروت المنتظر والذي أصابني بعض "شوبه" أطلق أجساد فتيات الإعلان بالدعاية لمايوهات بكيني زاخرة بأجساد ذات سمرة ساحرة، صاحبني إعلان المايوهات وأحاطني طوال الزيارة بأجساد مشرئبة في فضاء المدينة، واكتمل تأميم الفضاء بكم الواجهات الزجاجية البراقة التي تعكس إحتفاء المواطن العادي –ذكرا كان أو أنثي- بصورته، صورة تعكسها كل المرايا في مدينة أهم ما يميزها أريحية إدامة النظر في الواجهات دون الإحساس بالغبن، دون الإحساس بأن هناك ثمة عدوانية في المطالعة، أنا القادم من مجالات وفضاءات يتبادل فيها المصريون نظرة عداء منكسرة فيما يعبرون داخل انفاق لا مرئية تقلص أي إحتمالية لتلامس أجسادهم، يخرج المصري صباحا ليرسم في الفراغ ممرا أنبوبيا يمتد من خارج باب بيته وصولا إلي العمل مرورا بالشوارع يحاول فيه أن يحمي جسده من إعتداء متوقع من مجهول، ربما لهذا تحديدا أصبح رمي كلمة "السلام عليكم" من بعيد دون إحتضان وتقبيل فولكلورا إجتماعيا أكبر من تأويله الديني، في لبنان ليس هناك ذلك الإنبوب الوهمي، الأجساد هنا تحتفي بالفضاء فيما يحتفي الفضاء بها. الفضاء يدعوك بالإعلانات والواجهات الزجاجية ونظافة الهواء والمكان إلي عدم الخوف من جسدك بل إلي التباهي به للدرجة التي تصل أحيانا إلي إستعراض ذكورة/أنوثة مدوخ، ويبدو التشكيل المعماري الناهض لبيروت معمقا لذك التلاصق الأريحي المدهش، المباني هنا بعيدا عن حداثتها المتباهية أو قدمها المفاخر بحنينيته محتشدة للدرجة التي قد تضر أحيانا بوظيفة المبني المعمارية، مبان مصممة بجمايات تحتاج مثلا لفراغ حولها كي تظهر أبعادها الجمالية لاتجد ذلك الفراغ، ثم اثناء مرورك إلي جانبها ينفجر ذلك الجمال كقنبلة موقوتة صامتة، هذا الإحتشاد في "اللاند سكيب" تعمقه أيضا الطبوغرافية البديعة للمدينة القائمة علي تباين مستويات الإرتفاع والإنخفاض لأحياءها، هنا في بيروت ثمة مبررلإستخدام كلمتي"تنزل" و"تطلع"، لاوجود أذا للتسطح المصري، للإنسياب في أبعاد طولية وعرضية ذات ابعاد أحادية، في بيروت يطغي البعد الثالث أي عمق الفضاء البصري.

ماذا تعني الحياة في مدينة مسطحة؟
هناك حكمة قاهرية شهيرة مفادها أنك إذا ما ارتكبت جريمة في ميدان التحرير فإن نهاية مغامرتك ستكون عند الطريق الدائري علي مسافة 10 كيلومترات، الدولة حاضرة تبسط قبضتها بمنطق الأبعاد المسطحة، لا مجال للمناورة في دولة يبلغ الفارق في الإرتفاع بين أقصي جنوبها(أسوان) وأقصي شمالها(الأسكندرية) عشرات الأمتار، فإذا ما اضيف لذلك مركزية العيش علي ضفاف نهر النيل في هذه المساحة الشاسعة(مليون كيلو متر مربع) أصبح منطقيا أن يضل عن المسيرة الضخمة للكتلة البشرية المصرية من أخذ قرارا بالخروج شرقا أو غربا، متاهة الصحراء من حول المصريين تربطهم بالأرض والدولة والنظام والعائلة والدين ومجمل مطلقات الحياة، ويلعب التسطح في الأبعاد دورا في تقنين التفاهل الذهني بينهم علي مستوي دوائر الأدمغة المتصلة بشبكة واحدة، لامجال هنا للطفو في الخيال أو الغوص في الذات، لامجال للخروج عن مستوي الأفكار الدارجة أو المستهلكة داخل هذه الدائرة المغلقة، كنت اقول ذلك لمحمد أبي سمرا وهو يقود سيارته نزولا وطلوعا في طريقنا من جبل الكنيسة إلي مرتفعات مونتفيردي، الطريق بين الجبال الصامتة لم تخدشه للحظة مرور سيارة منذ ساعتان ، إلتفت لأسأل وضاح شرارة :متي جاء الأسفلت إلي هذه الجبال؟ رد ببساطة ...نهاية القرن التاسع عشر، الأسفلت في مدينتنا يعني قرارا مركزيا من الدولة بأن هناك ثمة جباية منفعية في التمدد في هذا المكان، بمعني آخر لازال جزء كبير من المسطح المصري مقطع ومعزول ومكشوف ومهمل، إجابة وضاح أكتملت بأن الرهبان الذين تملكوا تلك الجبال هم من أدخلوا أسفلت الطرق منذ أكثر من قرن ونصف، إذا المجتمع هنا حاضر بما قد يتجاوز أصلا مبرر الدولة المركزية، حاضر إلي مستوي إنتفاء فائدتها بمفهومها الحديث ، مصر ولبنان علي طرفي نقيض التاريخ والجغرافيا، وحضور ذلك التعقد الطبوغرافي نفسه أثر بما لايدع مجالا للشك في التركيبة النفسية، هذه الجبال توحي بالقدرة علي الحضور والغياب معا، الحضور بالدرجة الكافية للتكيف مع المجال العام مع الإحتفاظ بالخصوصية، في بيروت ثمة مكمن ومخبأة عند كل ناصية، فإذا ما أحتسبنا المسطع مضاعفا بمعني إلتفافاته وزاواياه المختبئة وجباله صعودا وهبوطا تضاعفت فعليا مساحة المسطح من عشرة آلاف كيلو متر لتقارب المليون كيلو المحتسبة دون مبرر في مصر، لكنها هنا قيمة مضافة غير محسوسة جغرافية، قيمة في العمق الذي ينتج 19 طائفة محكومون بالتجاور الحرج، في المقابل هناك في مصر ذلك الإحتفاء الرقمي بالكم والكتلة المسطحة، بسيادة الدين الواحد والدولة الواحدة والكتلة البشرية الممتدة في عراقة التاريخ، كل ذلك يخضع لتحلل بطئ وربما غير معلن .

في ليلة "وليمة" التي دعتني إليها الصديقة رنا حايك، كان هناك وجه آخر لبيروت، وجه أن يكون البار منزلا أو مجاورا للمنزل، فبالصدفة البحتة أكتشفت كيف أن فندق إقامتي ملاصق للبار، ثم كيف أن بارات بيروت في معظمها هي جزء من البيوت، أو بتعبير آخر جزء من تركيبة الهندسة الإجتماعية للمدينة، فلا يعني كون المكان ترفيهي عزله وتجميده خارج روح الإقامة والحياة العادية، في القاهرة تضمحل أماكن السهر وتنزوي في أماكن يمكن الإشارة عليها عن بعد، في الفنادق، في المباني الخدمية كالمولات، هناك ذلك العزل الذي يحقر الإحتفاء بالبهجة، الذي يجعل من مكان السهر نقطة يشار إليها ببنان الإستهجان، أما في بيروت فخلف باب بيت تقليدي تقبع مفاجأة البار، ممر هادئ أوصلنا مثلا إلي "تايم أوت" حيث جلس يوسف بزي وزوجته في فوتيه منزلي خلفهم ستارة وأمامهم ترابيزة عامرة بإحتفاء الأسرة بمضيفها، لم أتخيل يوما أن تكون هناك تقنية قادرة علي عزل صوت الموسيقي والهرج والرقص بهذه الحدة، في داخل البار الذي صحبتني إليه إليه رنا، كانت هناك مفاجأة من نوع آخر، عشرات من شباب اليسار يرقصون ويغنون بإحتفاء بالغ علي أنغام محمد عبد الوهاب خلف زياد سحاب، بوغت كما لو أني أسمع أذان الظهر أعلي ناطحة سحاب في طوكيو، لأول مرة أري تراثي كمصري خارجا عني إلي هذا الحد، أنا هنا الغريب فيما لغتي وموسيقاي تلهم آخرين، تلك الصدمة ألجمتني، لدرجة أني وأنا المهووس بالرقص عاودتني أزمة جسدي مرة أخري، فضيق المكان لايترك مجالا للحرج المصري من الملامسة العابرة الخالية من النوايا، كانت الفتيات يهرولن بين البار وساحة الرقص متحللات من أعتذاراتي وهن يفاجئني بالملامسة كأني كرسي أو كتلة جامدة لاخوف منها ولا يحزنون، إلتصقت اكثر بملابسي وإرتكنت علي الحائط، كأس الجن بدأ في تليين مفاصلي المتخشبة من المفاجأة، دخلت حلبة الرقص متجرءا مع فورة الكحول، وفي قلب مبارة الرقص أعادتني صدمة أخري الإلتصاق بالحائط، قبلها تململت قليلا من فلسفة غناء ألحان الشيخ إمام الحنجورية وسط هذا المحفل المبتهج بالحياة، ما نوع الشيزوفرينيا الذي يسمح لنا بمجاورة محبة الموسيقي بالجعير؟، هل يحتاج هؤلاء الشباب فعلا لتغطية محبتهم للحياة بإكسسوار نضالي زائف؟، أستعدت وعيي فورا، هل يعرف زياد وأصحابه دلالات أغنية "الأرض بتتكلم عربي" التي غطي بها سيد مكاوي موقفه التضامني من زيارة السادات للقدس؟ هل يعرفون أنها دخلت تاريخ اليسار كأغنية مبايعة للسادات؟، ماقيمتها فعلا وهي أشبه بمارش عسكري فاشي مع وصول الراقصين إلي نشوة الكأس الرابع عشر، إنسحبت بيقين أن هنا كما هناك في مصر، هناك ثمة من يكفرون عن محبتهم للحياة.






السبت، يونيو ٠٧، ٢٠٠٨

بعض المصارحة


بعض المصارحة

أنسي الحاج

أعاد «حزب الله» رسم الخريطة السياسيّة الجغرافيّة بالقوّة لا بالحوار. وإذا جاء وقت الحوار نأمل أن لا يملي المنتصر حواره من فوق. عندئذٍ سيبدأ في الخسارة، ولو كانت غير مرئيّة في البداية.

قلنا في كلمة سابقة إن الشيعة أضاعوا (أو ضُيّعت لهم) الفرصة في عزّ الحرمان ونتمنّى أن لا يعودوا ويضيّعوها وهم في ذروة القوّة. وهذا ما قصدناه. وخصوصاً الشيعة. التجبُّر غريب عنهم، ولا تليق المبالغة في استذكار الحرمان لتبرير الهيمنة والتسلّط. ولا نريد لهم أن تأخذهم نشوات الفوز إلى التيه والتحجّر ولا إلى الظنّ بالقدرة على «تربية» الآخرين. لقد سبق لجميع «الآخرين» أن مرّوا بهذه التجارب فصعدوا ثم هبطوا لأنّهم لم يعرفوا المحافظة على توازنهم الذاتي ولا على موقعهم في إطار مجموعة التوازنات. ونِعْم الهبوط، فهو شرط السلام الأهلي لأنّه يعيدنا إلى التواضع إن تعذّرت المحبّة.

يجب أن يقول كلٌّ منّا، كل لحظة، أيّاً كانت قواه وقوى الحاضنين له: حذارِ أنْ أخلطَ بين القدرة، وهي عابرة، والعدل، وهو الرحمة للجميع.

لا تجوز ممالأة «حزب الله». من مآخذنا على 14 آذار أن متعيّشين كثيرين يداهنون أثرياءها طمعاً بمالهم وبالمال السعودي. يجب أن لا يحمل الخوف ولا المنفعة أحداً على التملّق لـ«حزب الله»، وخصوصاً بعد عرض القوّة الأخير. ويجب أن لا يستدرج مزاج «حزب الله» الآخرين إلى الكذب عليه. كلّما اشتدّ العود تعاظمَ واجب المصارحة. نقول لـ«حزب الله» إن خروجه من ظلال المقاومة إلى وضح نهار السلطة ولو تحت شعار حماية السلاح يُرتّب عليه سماع أصوات العمق اللبناني لا صوت الحاشية المجامِلة. والعمق اللبناني خائف. كان أفضل للجميع لو واجه الحزب قراري الحكومة بأسلوب آخر. قراران لن تستطيع الحكومة تنفيذهما لماذا إقامة الدنيا لإحباطهما وهما محبطان تلقائيّاً؟ وليس في هذه الإشارة تنديد بضعف الحكومة فقط بل استهوال للفرق الذي وصلنا إليه بين سلطة «حزب الله» واضمحلال سلطة الدولة. وليس في هذا كلّه غير مدعاة للهلع. لا أحد يذعن طويلاً للخوف. الخوف من السلطان الفلسطيني ظلّ يتراكم حتّى أوصل اللبنانيين كلّهم، لا أهل الجنوب وحدهم، إلى الترحيب بالإسرائيلي. والخوف، بل الغضب، من القبضة السوريّة أدّى بعد استشهاد الحريري إلى أضخم انفجار شعبي عابر للمناطق في تاريخ لبنان. والخوف من «حزب الله» لن يكون مردوده أفضل بل سيكون أسوأ بكثير لأنّه خوف لبنانيّين من لبنانيّين.

فلنتخيّل رفيق الحريري يردّ بكلمة متلفزة على الحوادث الأخيرة. الأرجح، في ذهننا نحن على الأقلّ، أنه كان سيأخذ الأمر بصدره. ودون تمنين. فلنراجع مواقفه. كنّا نتمنّى على سعد الحريري أن يجبر خواطر النائمين على جراحهم بخطاب يعلو على الجراح. يستنكر ويغفر. الشارع ليس في حاجة إلى حكّ جراحه بل إلى بلسمتها. ما أصاب بيروت أبلغ من أن نبكيه. والزعامة تستوجب الإنقاذ. والإنقاذ تضحية. صدمة بيروت السلبيّة تحتاج إلى صدمة إيجابيّة أكبر منها. صدمة لبنان كله لا بيروت. الجبل الجبّار والشمال الضحيّة الدائمة. ولا حاجة إلى تعداد سائر أشلاء هذا الجسد الذي يستبيحه الصراع الإيراني السوري من جهة، والسعودي الأميركي من جهة أخرى، ولا يحدّثنا أحد عن «العدوّ الإسرائيلي المشترك». لنقل بالأحرى «الحجّة الإسرائيلية المشتركة»، «المشجب الإسرائيلي المشترك»، «الحليف الإسرائيلي المشترك». غداً حين يتعاهد العرب، بمَن فيهم أبطال «الممانعة»(!؟)، مع إسرائيل، هل يتذكّر أحد من المسؤولين اللبنانيين أن عليه مطالبة العرب أيضاً، لا إسرائيل وحدها، بالتعويض على لبنان لقاء استعمالهم إيّاه طوال عقود حيناً كرهينة وحيناً كبديل وحيناً كملعب دماء؟ التعويض على شهدائه وعلى عقوله الممزَّقة بالحروب والترويع وعلى أراضيه المُفْرَغة بالهجرة؟

ومع ذلك على «حزب الله» لا أن يتفهّم مرارة سعد الحريري فقط بل أن يفهمها ويفهم أبعادها قبل فوات الأوان. وأن يبادر إلى مدّ الجسور. وأول جسر هو إنهاء الاعتصام في قلب بيروت. اعتصام فَقَدَ مبرّراته وبعد الحوادث الأخيرة لم يعد له أي معنى. كلّ ما يُفسَّر استفزازاً من أي فريق كان يجب إلغاؤه. لقد أخطأت الحكومة خلال سنواتها في تجاهل مطالب المعارضة كما أخطأت في عدم استثمار الوقت لتأسيس مشروع بناء دولة. اكتفت بالاتكال على دماء الشهداء. وما اتُهمت به عهود المارونيّة السياسيّة من غفلة واستئثار وترك الدولة مغانم للمفترسين لم تفعل سنوات حكومة 14 آذار أفضل منه. فراغ متآكل وانسداد آفاق في مواجهة مشروع سياسي ديني حديدي يواصل تقدّمه بلا هوادة. دعم دولي وعربي لا مثيل له لسلطة بلا مشروع سياسي. سلطة عمّدها دم الشهداء وتأييد قواعد شعبية ضخمة ووقعت في الانقسام الداخلي، أيّاً تكن تحريضاته السورية والإيرانية. وقعت ولم تعرف أن تقوم.

لا أحد يُنزّه 8 آذار. ولكن لا أحد يستطيع أن يُنكر كون السلطة فوّتت فرصة تاريخيّة لإرساء مشروع بناء دولة لا يعود ممكناً في ظلّها رَهْن لبنان لسوريا وإيران ولا حتّى لأميركا، ولا ممكناً تلزيم حماية لبنان من إسرائيل لطائفة أو حزب، وقبلها إجبار طائفة أو حزب تحت وابل الاضطهاد على الاحتماء بإسرائيل.

انتهت؟ مجرّد هدنة؟ ودوماً لغز وليد جنبلاط. رَفْضُه للقتال. حماقة استفزاز الدروز من خلال الاستقواء على جنبلاط. جهل التاريخ. جهل خصائص النسيج اللبناني المتعدّد. التوهّم أن القوّة، قوّة العدد، قوّة السلاح، قوّة الدعم، ترجّح الكفّة. القراءة في ذهن جنبلاط، اليوم خصوصاً، مصباح كاشف. وإذا قُيّض له المضيّ بموقفه اللاعنفي، حريّ بالجميع التأمّل فيه. حريّ بالمنتصرين أوّلاً، إذا سلّمنا بأن أحداً ينتصر ويستطيع أن يظلّ منتصراً في لبنان.

نردّد ما نقوله دائماً: في بلد تستطيع جارتاه (وخصوصاً سوريا) أن تتجاذباه ساعة تريدان، يصبح وجود آباء عطوفين حكماء في مناصب المسؤولية سواء داخل الحكم وخارجه واجباً حيويّاً وحتميّاً. ليته كان بالإمكان وضع مثل هذا الشرط في قانون الانتخابات النيابيّة وفي رأس شروط وصول الرؤساء الثلاثة إلى كراسيهم. لبنان بحاجة إلى رحماء يقودونه لا إلى جبابرة يطحنون الجماجم.

مجرد علاقة بين شخصين لا تقوم بغير مزايدة في التحابّ. العلاقات بين مكوّنات المجتمع تُساس بالنُبل والمروءة والتضحية والتنازل، والخوف على حياة الناس. وخصوصاً الخوف على حياة الناس. لا أحد بين الزعماء يخاف على حياة الناس.

... والآن، آخر ساعة، نجحت قطر.

الحمد لله!

وباسم الله الرحمن الرحيم، كما استهلَّ رئيس الوزراء القطري بيانه إلى اللبنانيين!

ما السرّ الذي جعل دولة قطر تنجح ولا ينجح مسعى لبناني ـــــ لبناني؟ هل لأن قطر تُوفّق، بسحرها العجيب، بين صداقة سوريا وإسرائيل؟ وبين «القاعدة» الإسلامية والقاعدة الأميركية؟ وبين إيران والخليج؟ وهل المطلوب استنساخ هذا الوضع في لبنان؟ ومَن الطالب؟

نتمنّى أن يكون حظّ اتفاق الدوحة المقبل أفضل من حظّ اتفاق الطائف، وأن لا يكون الأمر مجرد «مناوبة» بين السعوديّة وقطر على خلافة النفوذ في «الساحة اللبنانيّة».

كان الأفضل أن تأتي المبادرة من «حزب الله» فيصافح ويصالح ويعطي ويأخذ. كان الأفضل أن يُسارع الأقوى إلى التنازل عوض الاحتكام إلى الآخرين. من لقاءات سويسرا إلى مؤتمرات السعوديّة وفرنسا انتهاءً بقطر، ما هذا البلد الذي لا يكبر عقله إلّا في المهجر؟ وما هذه الحروب التي لا يقطف ثمارها إلّا الآخرون؟

فلننتظر صباح الغد علّنا نقرأ بعض حقيقة ما يحصل عبر تعليقات الصحف... الإسرائيلية!

مسألة فرح


مسألة فرح

عباس بيضون

اليوم، لأمر ما، عليّ أن أكون فرحاً، أوصتني صديقة بأن أكون كذلك. إنه يوم واحد ويمكنني أن أستعير منه ساعة لنفسي، لأمر ما قررت أن أهدي لنفسي يوماً جميلاً. أن تستيقظ في التاسعة فهذا يعني أنك تستلم نهارك منقوصاً، وإذا كنت قررت أن تكون سعيداً هذا اليوم فلا طاقة لك على أن تحتمل ذلك مدة طويلة، وخير لك عندئذ أن تستيقظ متأخراً. اليقظة لن تتم دفعة واحدة، إن لها تقلباتها، فإذا انتبهت أخيراً يكون قد مضى عليك نصف ساعة وأنت تغالب لحافك وفراشك. هذه نصف ساعة لا تبعة لك عليها وقد انقضت لا في الحزن ولا في الفرح. انقضت من حساب اليوم الذي قررت أن تهبه للفرح، لقد استيقظت وها هي نفسك تطالبك بوعدك. ابدأ سعادتك لكن كيف يبدأ المرء سعادته. بالقراءة لكن القراءة مزمنة والكتاب الذي وقعت عليه هو كتاب ظللت تحسب أنك قرأته ولم يعجبك، ثم أنت تكتشف أنك قرأت بعضه ولم تصبر على بعضه الآخر، ولو أنك صبرت لكان لك رأي آخر، وها هي عشرون مرت وأنت عند سوء ظنك وظلمك، واليوم ليس يوم العدل على كل حال، إنه يوم الفرح والفرح غير العدل. بل يغلب أن العدل أقرب إلى الهم منه إلى السعادة. ولا نعرف للعدل رقصة فيما أظن، ولا موسيقى ولا طعاماً أو شراباً على اسمه. ثم إن القراءة ليست مفتاح السعادة ولو مرحنا بغير ذلك. قد تكون القراءة مغالبة للضجر لكن القراءة مع ذلك نوع من الضجر أو هي بالضجر أشبه، واستعانتنا بها عليه من باب مداواة الداء بالداء. ثم من قال إن القراءة، وهي هواية وحيدة ليست ككل فن وحيد، مدعاة للوحشة والحزن أكثر منها مجلبة للأفراح. لكننا مع ذلك نقرأ ونستمر في القراءة، نقرأ تعباً ونقرأ ضجراً ونقرأ قهراً، فالقراءة إدمان وليس في الإدمان في ما أعلم أي نوع من السعادة. ليس الإدمان سوى كراهية للذات، والقراءة قلما تكون شيئاً آخر. أما هذا المديح للكتاب والسعادة بالكتاب فخلّهما لوقت آخر. ماذا نفعل إذاً لنفتتح السعادة، الفطور لا بد أن في الطعام متعة، إنها متعة لكن حين نتذكرها وحين نجوع وحين نتوق إلى الأكل، أما أثناء الأكل فالمتعة أقل، ونحن في الغالب نستعجل البلع ونستعجل الانتهاء من الطعام، ولم يكن هذا لو أن فيه حقاً سعادة، ثم إن الأكل يبشرنا هكذا بنهاية كل لذة ومصير كل لذة، كلْ ثم تفلسف، أما حين تتفلسف قبل أن تأكل فقد ضيعت الاثنين: الأكل والتفلسف، ثم ماذا في فيلم على التلفزيون. لكان فيه سرور لولا أنك حملته سلفاً أن يجلب السرور، ثم إنك في السينما وحدها أنت نقّاد ومتطلب، وهذا ما يفسد المتعة، لكنك ترى فيلماً وفيلمين قبل أن تسأل نفسك، ها نحن أشرفنا على العصر وما عادت مهمة مسألة الفرح هذه. فنجان قهوة يتكفل بالباقي.

أنا المسلح


فيديل سبيتي

أنا المسلح

انا المسلّح

ضد الجدار

أخرق صمته بالثقوب

أطلي عيونه

بأنفاس القائد المهترئة

هذه وردة فلتغلى مع الشاي

اولئك أولاد الجيران

فليقفوا خلف المتراس

أريد جسدا أصوب

نحوه...

أن أقتل

أن أقتل

هباء تذهب رؤوس الرصاصات

إذا لم تقتل

أنا المسلح ايها

الأفق

أمدّ يدي نحو خطك لألويه

أمد يدي نحو السماء

لأفركها مع الدم الساطع

نحوكم يا إخواني

لتصيروا قتلة

لا يمكنني ان أكون قاتلا وحدي

أما وأنني ما زلت

أتنفس هواء!

أنا أحتله.

وثيابي تغطي جسدي!

لأنها لن تهرب.

من رأى سروالا وقميصا

يركضان في الشوارع

تتدلى بارودة بين الاقدام؟

هذه سحابة ...فلتدس

سوداء أريدها

بين الازرق الكريه.

هذه دالية معرشة

نحو الحزن

أزحّفها على الرصيف

اتهالك معها

ومع رواياتكم الكالحة...

فأنا المسلح

المدينة للحرق

البيوت للهيب

أمي لدعاء غير مستجاب

أرقي للعموم

ليحتل الارق سلامكم

لتأز الرصاصات قي قلوبكم

ولكم مني

لعنة موضبة.

عودوا أني كنتم

شهداء كما انتم

جماجم لرعب الاطفال

لؤلؤة الخراء المفبرك عند النواصي

وهذه عين

للمخرز

وهذا أنف

للجدع

وذاك لسان

للموسى

وتلك حنجرة للقبضة

الى الجحيم

الى الجحيم

الى الجحيم

ايها الجسد المتماهي مع الألم

يا قائد اللعنات المستجابة

يا هزة أرضية

لن تأتي

يتآكلها البطء في رحمها...

أمطري أسيدا ايتها السماء

أنا المسلح

لن أتوب

أبي سأقلع أسنانه

أخي سأجرجره من شفتيه

انا المسلح

أنا المسلح

خنجري في غمدي

لأنحر جثتي حين يهوي جسدي

هذه سجادة صلاة!

سأهرق دم جبهتي عليها.

هذا بيت النار!

إصبعي رصاصة

إذا ما فرغت رصاصاته

"أش دو زو"

للانفجار

كم مدينة عليّ ان ازدرد

حتى اشبع؟

كم عصفور عليّ ان أقصقص جناحيه

حتى أرضى؟

كم جوف عليّ أن أملأه بالمني حتى أنهدّ؟

انا المسلح

ثواب إثمكم المتمادي

عقاب اللا والنعم

لم أخرج من رحم

بل من قبر.

شاعر لبناني، بيروت

fidelsbeity@albaladonline.com

نساء بيروت(2)


هوامش عـلـى يوميات حملة "حزب الـلـه" الـمـسـلحة عـلى بـيروت (2 من 2)

وجود المدنيين اعتداء سافر على عصمة السلاح و"أمة" الحرب الدائمة

حلقة ثانية من هذه اليوميات. وهي تنقل لحظات من حياة كثيرين من سكان المدينة وهواجسهم وخوفهم نهار الخميس 8 أيار وليله، بعد المؤتمر الصحافي للسيد حسن نصرالله.

الخميس 8 ايار

-6-

روت المرأة التي كانت وطفلتيها في عداد الاسر الهاربة من بيوتها مرتاعة من بدايات انتشار مسلحي "حزب الله" وحركة "امل" في حيّهم البيروتي الهادىء صبيحة اضراب نهار الاربعاء 7 ايار الجاري، ان نوبة من الرعب اصابتها فيما كان السيد حسن نصرالله يطلق تهديداته الحربية في اطلالته التلفزيونية بعد ظهر الخميس 8 ايار.

كثيرون كانوا يشاهدونه ويستمعون اليه في صالون منزل اهل زوجها، غير بعيد من الحي الذي تسكنه وفرّت منه بعدما تسلّلت اليه طلائع المسلحين القادمين من حي اللجا وزقاق البلاط والبسطا التحتا، فكمنوا، صبيحة نهار الاضراب، عند زوايا البنايات وفي مواقف سيارات سكانها، وتمركزوا على السطوح العالية، حاملين اعدتهم الحربية من بنادق رشاشة ومناظير واجهزة اتصال لاسلكية، واحضروا ما يحتاجونه من ذخائر.

في ريبة وخوف ووجوم كان الجالسون في الصالون يستمعون الى السيد نصرالله ويشاهدونه على شاشة التلفزيون، فيما هو يتبسّط في مؤتمره الصحافي، شارحا دور سلاح الاتصالات والاشارة واهميته لمقاومته وانتصاراتها، كأنه استاذ او خبير يحاضر في طلابه الصحافيين، عبر شاشة عملاقة في قاعة مجهولة تحت الارض، فيما كان مسلحو حزبه واعوانهم قد اتخذوا مواقعهم الهجومية في احياء بيروت، منتظرين نهاية محاضرته كي يبدأوا عملياتهم العسكرية في شوارع المدينة.

حين لعلع الرصاص في الخارج البعيد من البيت الذي هربت اليه المرأة، لم تدرك وغيرها من الهاربين والهاربات من بيوتهم صبيحة الاضراب، ان الاحياء التي فروا اليها طالبين الامن والأمان والطمأنينة، سوف يبدأ مسلحو "حزب الله" وغيرهم من شراذم الاحزاب المتخلفة عن ايام الاحتلال السوري، باجتياحها وترويع سكانها، مباشرة بعد انهاء السيد نصرالله كلمته الحربية التي قال فيها انه سيقرن القول بالفعل.

والدة زوج المرأة اياها، كتمت رعبها المغتاظ وتداركته بأن امسكت رأسها بكلتا يديها، وغادرت الصالون الى غرفة النوم. وحين اشتد اطلاق النار في الخارج البعيد، لم تفكر المرأة الهاربة بطفلتيها، سوى بجوازات السفر، متذكرة في اي مكان من بيتها وضعتها، ثم لامت نفسها على عدم احضارها معها قبل مغادرة البيت ظهيرة امس.

-7-

لقد قرن السيد الأمين العام القول بالفعل، فوراً وبلا تردد هذه المرة. والحق ان فعله قد سبق قوله بيوم واحد على الاقل، وبأيام كثيرة يتطلبها الإعداد والتحضير والاستطلاع والاستعداد لعمل عسكري، مهما كان سهلا. وهذا يعني ان المؤتمر الصحافي للسيد لم يكن عملاً اعلامياً ودرساً في تكنولوجيا الإتصالات الحربية، وخطبة للتهديد والوعيد، بل كان عملاً حربيا خالصا، وله وظيفة محددة في مجريات الخطة العسكرية المقررة والموضوعة سلفا لاجتياح بيروت.

لكن صاحب "الجيش السري" والانتصارات الالهية، كان غفورا ورحيماً بمستمعيه ومشاهديه من غير "امته" الخاصة. فهو صارحهم في خطبته الحربية بأن في وسعه اقتيادهم من اسرّتهم الى السجون، او رميهم في البحر، لو اراد. وبما ان العزم على قدر المغفرة، فقد اعفى سيد المقاومة عن "الأمة الضالة" من مستمعيه في بيوتهم، فاكتفى باجتياح احيائهم وترويعهم، لاعادتهم عن ضلالهم الى السراط المستقيم الذي خرجوا عليه، حين قالوا انهم يرغبون ان يعيشوا في مجتمع مدني، اي غير حربي كالمجتمع الذي انشأه لـ"أمته" منذ اواسط ثمانينات القرن الماضي.

غير ان المجتمع المدني والحياة المدنية في أعراف المنظمات العسكرية الثورية اليسارية والاسلامية الأهلية كلها، مدارهما "المشاعر والاحاسيس والمأكولات والمشروبات والمعاملات والميوعة"، على ما بين وضاح شرارة في تعليقه (صحيفة "المستقبل" 30 ايلول 2007) على "كتاب" محاورات مع السيد محمد حسين فضل الله جمعته منى سكرية في عنوان "عن سنوات ومواقف وشخصيات"، ونشرته "دار النهار" سنة 2007. وبما ان مجتمعاً هذه صفاته وحاله، ليس اكثر من مجتمع نساء واطفال في عرف دعاة مجتمع امة القوة والحرب الدائمة، جاز لهؤلاء الدعاة ومريديهم تخليصه من "ميوعته" التي اظهرها المجتمع اللبناني بين اغتيال الرئيس رفيق الحريري و14 آذار 2005. ومنذ ذلك التاريخ، ضاق "حزب الله" ذرعاً وأعيته السبل لاعادة لبنان ومجتمعه الى جادة الصواب. فحتى "نصره الالهي" في حرب "الوعد الصادق" وإقامته مخيمه الحربي في وسط مدينة بيروت لم يقويا على تخليص هذا المجتمع من "ميوعته"، فعمد، في 7 ايار 2008، الى القيام بحملته العسكرية على مدينة "الميوعة"، فاجتاحها تحت انظار وحدات الجيش اللبناني. وهو الجيش الذي قام "حزب الله" وجمهوره باستنزاف طاقته المعنوية والمادية في انتفاضاته الانتقامية الارتدادية المتكرة ضد الحكومة الاستقلالية الأولى بعد جلاء الجيش السوري عن لبنان.

- 8 -

ما أن أنجز "الجيش السري" للحزب مهمته في شوارع المدينة التي قام بمناورة حربية بالذخيرة الحية في أحيائها، حتى سلّم شوارعها لملحقاته ولزمر الرعاع والدهماء من فتيان الشوارع الذين خرجوا من قسوة حميميات حياتهم الأهلية العضوية في محمياتهم الى ديار "الميوعة"، أي ديار الحرب، حاملين العصي، ومتنقلين على دراجاتهم النارية. وهذه صارت من آليات سلاحهم اللوجستي في حروبهم وعراضاتهم الحربية. وقد تبعتهم في العراضة الأخيرة الحاسمة شاحنات "جهاد البناء" حاملة الردم والإطارات المطاطية، لتقطيع أوصال المدينة وحصارها بالحرائق والسواتر الترابية.

فالحزب الذي ولد من رحم الثورة الايرانية الخمينية مسلحاً وشاهراً سلاح مجتمع الهجرة والتهجير والحطام الحربي في وجه بقايا الحياة المدنية ببيروت أواسط الثمانيات، لا يدين لشيء في عمله وأفعاله وقوته لغير السلاح. وهو لم يقم بعمل وفعل ونشاط في مسيرته كلها، إلا وكانت الحرب وحدها نموذجه ومثاله الملهم. حتى إنه جعل "أمته" الطائفية معقلا لمجتمع حربي ناجز، غير مسبوق في تاريخ لبنان والمجتمعات العربية. والحق أن الاعلام الحربي لـ"حزب الله" – وإعلامه حربي كله – وكذلك الناطقون بإسمه وجمهوره، لا يراوغون قط حين يقولون إن ما أقدم عليه حزبهم بين 7 و12 أيار 2008 في شوارع بيروت وفي قضاءي عاليه والشوف، هو "اعتصام مدني" أو "عصيان مدني". فالمدينة والمدني والمدنيّة ليست سوى كلمات – أقنعة لقوة السلاح الذي روّع بيروت في أيام العصيان أو الاعتصام المزعوم. لذا أصدَقَ الإعلامُ الحربي للحزب سامعيه القول، الذي قرنهُ بالفعل. والفعلُ هو السلاح المقدس الذي لا عصمة لشيء سواه، بعدما جعلته حرب "الوعد الصادق"، مع كلمة "المقاومة"، مصدر وجود "أمته" وكينونتها وحياتها وروحها.

أما المدنيون، وهم أصلا هَمَلٌ ونوافلُ مادة بشرية فائضة عن الحاجة في مجتمع أمة الحرب الدائمة، فإن وجودهم وحياتهم وأنفسهم وأعمالهم وسعيهم وأوقاتهم، ليست سوى إعتداء سافر على عصمة السلاح والتكليف الشرعي. وهذا ما قاله حقاً المستشار "السياسي" للأمين العام، الحاج حسين خليل، حين اعتبر أن ما حصل في شوارع بيروت لم يكن سوى اعتداء تعرض له منفذو الاعتصام أو العصيان، فيما هم يوزعون الورود على العابرين. فتباً لأولئك العابرين الجاحدين الذين بادلوا ورود المعتصمين بإطلاق النار عليهم في شوارع المدينة الجاحدة.

وبحسب نائب الامين العام، الشيخ نعيم قاسم الذي استخدم لغة الطب والجراحة، فإن ما قام به المعتصمون، لم يكن سوى عملية جراحية موضعية أو جزئية، لاجتثاث "ميوعة" المدنيين، أي تلك المادة البشرية النافلة في جسم أمة الحرب والسلاح.

-9-

في صمت مستريب حدّق المسلح في وجه المرأة التي عادت الى بيتها لاحضار جوازات السفر لها ولطفلتيها، بعد خطبة السيد الأمين العام الحربية. حين تقدم من سيارتها صامتاً وممتشقاً سلاحه في الموقف تحت البناية، أفزعها صمته وتحديقه الأخرس في وجهها وداخل سيارتها. وربما لأنها شعرت أن الكلام أخفّ وطأة ورعباً عليها من هذا الصمت المسلح، استجمعت بقايا مقدرتها على النطق بلسان شبه متخشب، لتقول له: ماذا تريد، إني آتية الى بيتي؟! فلم يجبها المسلح بغير نظرته الصامتة والسليطة إياها.

من أين أتى هذا الجفاء والجفاف ليتراكما على أثاثات البيت كلها في الساعات القليلة الماضية على مغادرتها إياه في الظهيرة؟ تساءلت المرأة وهي تقف وحيدة ضائعة في الصالون، وماذا أتيت افعل هنا؟ فكرت، فيما هي تدخل الى غرفة النوم، حيث رأت الأغطية منطرحة على السرير، كأنها لم تكن قماشاً لإلفة بشرية.

هل يعلم الذين اجتاحوا المدينة في ساعات أي خواء مديد غرسوه في الاماكن والاشياء والوقت؟ خواء العداوة بين البشر وأشيائهم وأماكنهم وأوقاتهم التي أمضوا سنوات طويلة من حياتهم وأعمارهم وعلاقاتهم في تربية إلفتهم وحميمياتهم فيها، ساعة بساعة، ولحظة بلحظة.

وهل يدرك الذين أطلقوا النار من أسلحتهم دفاعاً السلاح الذي رفعوه الى مصاف الآلهة ويعلمون علم اليقين والقوة أن لا أحد من اللبنانيين يقوى على رفع غير الرأي والكلمة في وجه سلاحهم هذا - هل يدركون أنهم على لحظات الإلفة الحميمة في حياة البشر وعلى الكلمات أطلقوا رصاصهم؟!

فجأة لعلع الرصاص قريباً من بيت المرأة في ذلك المساء، مساء الخميس 8 ايار، فحملت جوازات السفر، وأسرعت في الخروج من بيتها. كان المسلحون منتشرين في مرآب السيارات وفي الشارع الضيق بين البنايات، كأن لم يبقَ أحد في الحي سواهم.

-10-

في بيت أهل زوجها أمضت المرأة الليل مع طفلتيها في الممر الضيق بين الغرف. كان نومهن متقطعاً. الطفلة الصغرى كانت تقول إن ما يوقظها من النوم هو مفرقعات عرس أو احتفال، وترغب في الخروج الى الشرفة، لترى السماء مشعشعة. الطفلة الكبرى تستيقظ مذعورة وتقول إنها تريد العودة الى افريقيا، حيث يعمل والدها، وأمضت العائلة السنة الماضية مقيمة هناك.

بين الساعة الثالثة والخامسة من فجر الجمعة، لم تعد الطفلتان تقويان على النوم. توقفت الكبرى عن الكلام عن افريقيا، متسائلة عن اسباب إطلاقهم النار في الخارج، مستعيدة مشهد المسلح الذي أبصرته صبيحة أمس (الاربعاء) في مدخل بناية خالتها وصعدت الدرج ركضاً حتى الطبقة الثالثة عشرة. كانت تلهث اللهاث نفسه، فيما هي تقول لأمها في الممر الضيق: ماما، ماما قولي لهم أن يوقفوا هذه الاصوات، بليز ماما، ما عاد فيّي اسمع، ما عاد فيّي، ثم تصرخ وهي تسدُّ أذنيها بكفيها الصغيرتين.

محمد أبي سمرا

نساء بيروت (1)


يوميات إمرأة أثناء حملة "حزب الله" المسلحة على بيروت ابتداء من 7 أيار (1(

كشتيمة صباحية اقتلعتني عن الشرفة صرخةُ المسلح: ولييه، فوتي لجوا، ولييه

مسلّح من الذين اجتاحوا بيروت ابتداء من 7 أيار الماضي.

كيف يروي المدنيون وقائع الأيام التي عاشوها في بيروت أثناء الحملة التأديبية المسلحة التي قام بها "حزب الله" وأعوانه على العاصمة اللبنانية ابتداء من 7 أيار الجاري؟ المدنيون، والنساء خصوصاً، مخلوقات الهشاشة العابرون في الأماكن والأوقات من دون أن يخلفوا فيها سوى الألوان والظلال والإلفة العابرة، هذه التي لا مكان لها في مخيلة القوة الرصاصية والسوداء لرجال الله وأعوانهم.

هنا حلقة أولى من يوميات امرأة من مواليد الضاحية، جنوبية المنبت ومقيمة في بيروت.

الأربعاء 7 أيار

-1-

بعدما استجبت رغبة طفلتي الكبرى التي في العاشرة، وتركتها تذهب وحدها الى بيت أختي في الطبقة الثالثة عشرة والاخيرة من بناية لا تبعد أكثر من 50 متراً من بنايتنا، وقفت على شرفة بيتي في الطبقة الرابعة، كي أطمئن لعبورها المسافة القصيرة بين البنايتين في حي تكثر فيه المدارس، وتدخل اليه السيارات عبر ممر متعرج ينتهي بدرج حجري بين بيوت بيروتية قديمة وتقليدية الطراز المعماري. رأيت ابنتي تعبر وتنعطف لتغيب عن ناظري، قبل أن أبصر جمعاً من فتية وشبان في حال من الحركة والانشغال بين مدخل بنايتنا وجدار البيت الخلفي القديم، وصولاً الى الدرج. كانت حركتهم وحضورهم في المكان استثنائيين وغريبين في صبيحة تنفيذ الاضراب في المدينة. لكنني لم أعرهم انتباهاً فائضاً، إلا حين سمعت أحدهم، بعد لحظات، يصرخ فجأة: فوتي لجوا، فوتي. فوتي لجوا. كان يرفع رأسه متلفتاً اليّ على الشرفة في الأعلى، فأدركت أنه بي أنا يصرخ غاضباً. ظللت واقفة في مكاني ناظرة اليهم في الاسفل، قبل أن أجيب بأنني لن أدخل، ثم أشحت عنهم بصري، ناظرة الى البعيد، في فسحة الفضاء الخالية فوق البيت القديم، إذ كيف يعقل أن يمنع فتية الشوارع ورعاعها إمرأة من الوقوف على شرفة بيتها في نهار إضراب؟!

صراخ أحدهم المتكرر أقوى وأشد غضباً من المرة السابقة، لم يحملني على مغادرة الشرفة والدخول الى بيتي، ولا على النظر اليهم مجدداً في الاسفل، إلا حين سمعت، بعد هنيهات، صوتاً صارخاً مزمجراً، متوعداً ومهدداً، أرعبني قوله: ولييه، فوتي لجوا، ولييه. كان صوتاً لأحد شابين في ثياب عسكرية كحلية ومدججين بالسلاح، فيما يشهر أحدهما بندقيته الحربية الرشاشة ويصوّبها في اتجاهي. صرخة ولييه الممدودة المتحشرجة في حنجرته، تلك التي وقعت كشتيمة صباحية مدوية في سمعي، والبندقية المصوبة نحوي، دفعتاني فوراً الى الخلف، وأدخلتاني سريعاً الى صالون بيتي.

-2-

وقفت وسط الصالون قلقة خائفة، وحائرة ماذا أفعل. قبل أن أهرع الى الهاتف للاتصال ببيت أختي القريب، كانت عضلات معدتي قد تشنجت، وشُلّت إرادتي. أصابع يديّ ترتجف قليلاً على قرص أرقام الهاتف. لكنني هدأت، بل كتمت توتري، حين سمعت صوت زوج أختي يجيبني هاتفياً، فسألته إن كانت طفلتي قد وصلت الى بيتهم، قبل أن أروي له ما رأيت. قال إنها وصلت، وإن المسلحين من "حزب الله"، وهم في الحي منذ الصباح، وإن أختي تجمع بعضاً من الثياب استعداداً لمغادرة المنزل، ثم أخبرني أنه عاد الى بيته قبل نحو ساعة، بعدما أمضى ساعتين في الشوارع المقطوعة بالسواتر الترابية وحرائق الاطارات المطاطية، وعبثاً حاول الوصول الى مصنعه الذي علم، عبر مكالمة هاتفية، أن العمال فتحوه وباشروا عملهم المعتاد، حيث لا إضراب ولا من "يؤضربون" في الضاحية الجنوبية، الا على نحو جزئي وسلمي.

فيما هو يروي لي أن مقاتلين اثنين محترفين وفي ثيابهما السود من "حزب الله"، قد صعدا الى سطح بنايتهم، سمعت صوت طفلتي تقول عبر سماعة الهاتف: ماما، ماما، لقد رأيتهم في مدخل البناية، وصعدت الدرج ركضاً وخائفة، حتى الطبقة الثالثة عشرة.

إسترد زوج أختي السماعة من ابنتي، وأخبرني أنه سمع جارته تصرخ، ففتح باب بيته مستطلعاً. كان المسلحان في الممر، ويحملان جهازي اتصال مع سلاحهما. سألهما: مين الشباب، وماذا في الامر؟ فقال أحدهما إنهما من "حزب الله"، وإن لا داعي للقلق، وهما في مهمة استطلاعية سوف تنتهي سريعاً وبعد قليل من الوقت. اختصاراً منهما للاسئلة والاستفسارات، قطعا المحادثة وصعدا الى السطح، فيما امرأة الجيران استمرت تصرخ غاضبة ومتوعدة ناطور البناية الذي قالت إنه هو الذي أعطى المسلحين مفتاح باب السطح، ويعلم السكان أنه يناصر حركة "أمل" التي أمّنت له ولابنه عملاً وهمياً، فعيّنتهما حارسين مياومين في ادارة رسمية لا يذهبان اليها قط، الا ليتقاضيا منها راتبين شهريين.

هدّأ زوج أختي غضب المرأة وخوفها، فقال لها إن لا أحد من السكان المدنيين يستطيع منع مسلحين من دخول البناية واستخدام سطحها حسبما يرغبون ويريدون، فما كان من المرأة إلا أن صمتت ودخلت الى بيتها الذي، بعد قليل من الوقت غادرته مع زوجها وابنيهما، حاملين حقائب ثيابهم.

قبل أن أنهي مكالمتي الهاتفية، قلت لزوج أختي إنني قادمة لاصطحاب طفلتي، للذهاب الى منزل أهل زوجي المهاجر للعمل في افريقيا، لأن انتقالي وطفلتيّ الى بيتهم بمحلة الصنائع القريبة، وإقامتنا بينهم، آمن في هذه الظروف. شجعني زوج أختي على الانتقال، ما دام هو وأختي وطفلهما الصغير سيغادرون منزلهم الى بيت أهله في الضاحية الجنوبية بشارع أسعد الاسعد. فجأة تذكرت زيارتي الاخيرة معهم الى أهله، حيث رُفعت في ذلك الشارع، من زمان، صورة ضخمة للاستاذ الرئيس نبيه بري كُتبت في أسفلها عبارة: "ويلكم إذا نفد صبره". وفيما كنت أُعيد سماعة الهاتف الى مكانها، فكرت أن عليّ الاسراع في مغادرة بيتي، لئلا ينفد صبر الاستاذ الرئيس قبل أن أغادر.

-3-

فيما رحت أوضّب سريعاً بعض الثياب في حقيبة سفر، شعرت أن الزمن انقلب، فجأة، من حال الى حال. تشوش في حواسي وانقباض في نفسي وتقلص مستمر في عضلات معدتي. حتى أثاثات منزلي التي كانت أليفة قبل هنيهات، صارت غريبة وانفصلت عني مبتعدة، كأنها ليست لي، أو لم تعد لي، وانتصبت بيني وبينها مسافة من الحزن والصمت والهجران. فجأة رأيتني أتنقل شبه ضائعة بين الغرف، اقرّر أخذ غرض ما أو ثوب، ثم تركه الى غيره. أنادي طفلتي الصغرى وأقول لها أن تسرع في ارتداء ثيابها، ثم أدخل المطبخ لإحضار شيء ما، فأنسى فجأة ما هو الشيء الذي دخلت لإحضاره.

حين خرجت وطفلتي الى جانبي وأغلقت باب بيتي، سمعت صوت إغلاقه مختلفاً عن ذي قبل، كأنما صار ينبعث للاصوات صدىً لم أكن أسمعه لها. في المصعد استعدت مشاهد صراخهم بي حينما كنت على الشرفة. ما أن شغّلت محرك سيارتي في موقفها تحت البناية، حتى دوّت طلقة نارية في الخارج، فأيقنت أنهم استكمالاً لصراخهم أطلقوا النار، إمعاناً منهم في ترهيبي. أنزلت طفلتي من السيارة، وأسرعت في العودة الى منزلي. لا أدري لماذا لم استعمل المصعد، بل الدرج، والرعب الذي أصابني حملني على قرع باب جارتي وصديقتي في الطبقة الثالثة، بيدي. فيما هي تُدخلنا الى بيتها قالت في صوت خافت مرتجف إنها سمعت دوي الطلقة والصراخ، وخافت من مغادرة منزلها مع طفلتها، وأن زوجها غادر أمس عائداً الى عمله في الامارات العربية. وبعدما جلبت لي كوباً من الماء، قالت في صوت واجف، كأنها تطلعني على سر خطير، إنها قبل صراخهم بي، رأتهم يُخرجون صناديق ذخيرة من سيارة، فأدركت بدوري أن العلب التي أبصرتهم يحملونها قبيل صراخهم بي، وما أعرتها انتباهاً، كانت صناديق ذخيرة حربية.

فجأة رن جرس الانترفون في بيت جارتي وصديقتي. للحظة فكرت أن أختبئ في مكان ما من بيتها، قبل أن نتبادل نظرات خوف صامت، موقنتين أنهم هم الذين يطلبوننا، وسوف يصعدون الينا. لا أدري من أين أتتني الجرأة، جرأة ما بعد الرعب، كي أتقدم من الانترفون وأمسك سماعته، فإذا بناطور البناية يقول ان الشباب يعتذرون منا عن الطلقة النارية التي دوّت في الحي قبل هنيهات، لأنها انطلقت خطأ ومن دون قصد منهم، فيما هم ينظّفون بنادقهم الحربية. وقال الناطور ايضاً انهم قالوا ان في مستطاعي المغادرة آمنة مطمئنة.

-4-

آمنة مطمئنة، وعلى ايقاع تنظيفهم بنادقهم، عليّ ان اغادر، فأمرّ بينهم، خفيضة البصر، هلعة، كأنني غريبة عن نفسي وعن كل شيء حولي. هكذا نزلت مجدداً مع طفلتي الصغرى الى مدخل البناية. حاذرت ان انظر الى الخارج وأنا اتقدم من سيارتي في موقفها، وادخل اليها واقودها وأتوقف بها امام مدخل بناية بيت اختي.

في مسافة الخمسين مترا هالني ان يستطيع دوي طلقة نارية واحدة ان يسمّم الضوء والهواء في الشارع الضيق الخالي. وهذا ما لم تقوَ عليه مهرجانات اطلاق النار ابتهاجا في الهواء، طوال الشهور الماضية. فكيف اذاً استطاعت طلقة واحدة انفجرت خطأ ان تترك هذا الاثر الصاعق في حواسي، وتحقن المكان بدبيب الوحشة والهجران، كأنما سكان الحي كلهم لم يبق لهم من اثر؟!

اوقفت السيارة وغادرتها متجهة الى مدخل البناية. فجأة لمحت مسلحين اثنين، كاللذين صرخ احدهما بي، يختبئان بين السيارات في الموقف. أشحت بصري عنهما، وتصرفت، بل اقنعت نفسي، بأنني لم ارهما قط، ولا ابصراني ألمحهما. على هذا النحو تقدمت من الانترفون وضغطت جرسه، واعلمت اختي انني انتظر نزول طفلتي الكبرى على مدخل بنايتهم. حين ادرت ظهري للمسلحين وتقدمت من سيارتي، شعرت أنني وحيدة ومكشوفة تماماً من الخلف، كأن حقلاً مغناطيسياً يجذبني الى الوراء. دخلت الى السيارة وجلست في مقعدها الامامي، باذلة جهداً مضاعفاً لألتفت الى طفلتي الصغرى في المقعد الخلفي، محاذرة ان ينتبه المسلحان الى انني لمحتهما، او لاحا في مجال بصري اثناء التفاتتي. لم اقو على التلفظ بكلمة واحدة اقولها لابنتي، كأن الكلمات صارت من الماضي، حينما كانت الحياة عادية وأليفة قبل وقت قصير شعرت انه طويل كدهر.

طويلة كانت اللحظات التي امضيتها في انتظار نزول طفلتي الكبرى من بيت اختي. طلقة نارية واحدة وخاطئة، جعلت الوقت والمكان والمسافات افتراضية كلها. حتى طفلتي التي ابصرتها تركض من مدخل البناية الى السيارة، لاحت لي كأنها في مشهد افتراضي.

قد اكون اروي الآن اللحظات الاولى مما جرى في بيروت طوال ايام اسبوع كامل، بقوة ما حصل في تلك الايام كلها وكثافته. اي انني اروي على نحو ارتدادي ما جرى في حيّنا في اللحظات الاولى التي بدأت بصرختهم: ولييه فوتي لجوا، ولييه.

منذ سمعت تلك الصرخة، بدأت تتقطع اوصال الوقت والأماكن والاشياء، وتتهشم صور الذاكرة واوقاتها وانتظام الحوادث، وتتشظى، فلم يعد الواحد منا قادرا على لملمة شظايا الافعال والصور والاماكن والحركات واللقاءات والوجوه والكلمات التي صارت كلها اقرب الى منطق الكوابيس وصورها.

-5-

في الصورة التي استعيدها الآن من ظهيرة نهار الاربعاء في 7 ايار، وانا اقود سيارتي بطفلتيّ، مغادرة حيّنا الى بيت اهل زوجي القريب في محلة الصنائع، تبدو لي الاماكن مقفرة، والضوء الربيعي حزينا، او اصفر كبداية مرض. اتذكر انني مررت قرب اللافتة التي رأيتهم قبل ايام يشدّونها بالحبال الى عمودين قريبا من مدرسة الليسه الفرنسية (عبد القادر). على اللافتة الكبيرة المستطيلة صورة للقائد الذي اغتيل في دمشق، الحاج عماد مغنية، بين صورتين أخريين للسيد حسن نصرالله والاستاذ نبيه بري. حين رأيتهم ينصبونها، فكرت أنهم يتقدمون الى موقع جديد في احياء المدينة، كأنهم بالصور واللافتات يمدّدون حضورهم العضوي والجسماني في الاماكن.

في طريق عودتي بعد وقت قصير، ومروري قرب اللافتة التي رفعوها في ذلك النهار الذي لم اعد ادرك الآن زمنه من تلك النهارات، رأيتهم ينصرفون الى حيهم الداخلي حول الحسينية التي يتجمهرون دائماً في ساحتها. كانوا اربعة شبان وفتيان او ستة، من اولئك الذين تجذبهم كثافة العيش في الشوارع التي لا يغادرونها، الا للنوم، ويكثرون من امتطاء الدراجات النارية.

حين وصلت وطفلتيّ الى بيت اهل زوجي في ظهيرة ذلك الاربعاء، وجلسنا الى طاولة الغداء مع ابنتهم واولادها وزوجها، شعرت للحظة خاطفة اننا في نهار احد عائلي، لكن بطعم الرماد،، وان ما حدث طوال الصباح، قد لا يكون كله واقعا حقيقيا. قلت لزوج شقيقة زوجي، اني قد اكون بالغت في رعبي، بعدما رويت له ما حدث. قبيل الغروب رغبت في ان اعود الى حينا، كي اكسر ذلك الرعب شبه الهستيري الذي المّ بي في الصباح، فأبى عدنان، زوج شقيقة زوجتي، الا ان يرافقني.

كان الشبان والفتيان والمسلحون على حالهم في حيّنا، لكنني لم اشعر بذلك الرعب الصباحي، ربما لأن عدنان كان معي. حين دخلنا الى بيتي، احسست ان أثاثاته ازدادت ابتعاداً، كأنني اعود اليها بعد هجرة طويلة. خرجت الى الشرفة ونظرت في الشارع الضيق من الأعلى، فأبصرت جاراً لنا في البناية يقف مع المسلحين وفي يده بندقية حربية، فتراجعت عن الشرفة لئلا يرى انني رأيته. حين غادرنا البيت، لم اخبر عدنان بما رأيت، بل رحت أسير الى جانبه مختبئة بجسمه، محاذرة ان يراني جارنا المسلح وأراه.

كتابة محمد ابي سمرا