سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

السبت، يونيو ٠٧، ٢٠٠٨

نساء بيروت (1)


يوميات إمرأة أثناء حملة "حزب الله" المسلحة على بيروت ابتداء من 7 أيار (1(

كشتيمة صباحية اقتلعتني عن الشرفة صرخةُ المسلح: ولييه، فوتي لجوا، ولييه

مسلّح من الذين اجتاحوا بيروت ابتداء من 7 أيار الماضي.

كيف يروي المدنيون وقائع الأيام التي عاشوها في بيروت أثناء الحملة التأديبية المسلحة التي قام بها "حزب الله" وأعوانه على العاصمة اللبنانية ابتداء من 7 أيار الجاري؟ المدنيون، والنساء خصوصاً، مخلوقات الهشاشة العابرون في الأماكن والأوقات من دون أن يخلفوا فيها سوى الألوان والظلال والإلفة العابرة، هذه التي لا مكان لها في مخيلة القوة الرصاصية والسوداء لرجال الله وأعوانهم.

هنا حلقة أولى من يوميات امرأة من مواليد الضاحية، جنوبية المنبت ومقيمة في بيروت.

الأربعاء 7 أيار

-1-

بعدما استجبت رغبة طفلتي الكبرى التي في العاشرة، وتركتها تذهب وحدها الى بيت أختي في الطبقة الثالثة عشرة والاخيرة من بناية لا تبعد أكثر من 50 متراً من بنايتنا، وقفت على شرفة بيتي في الطبقة الرابعة، كي أطمئن لعبورها المسافة القصيرة بين البنايتين في حي تكثر فيه المدارس، وتدخل اليه السيارات عبر ممر متعرج ينتهي بدرج حجري بين بيوت بيروتية قديمة وتقليدية الطراز المعماري. رأيت ابنتي تعبر وتنعطف لتغيب عن ناظري، قبل أن أبصر جمعاً من فتية وشبان في حال من الحركة والانشغال بين مدخل بنايتنا وجدار البيت الخلفي القديم، وصولاً الى الدرج. كانت حركتهم وحضورهم في المكان استثنائيين وغريبين في صبيحة تنفيذ الاضراب في المدينة. لكنني لم أعرهم انتباهاً فائضاً، إلا حين سمعت أحدهم، بعد لحظات، يصرخ فجأة: فوتي لجوا، فوتي. فوتي لجوا. كان يرفع رأسه متلفتاً اليّ على الشرفة في الأعلى، فأدركت أنه بي أنا يصرخ غاضباً. ظللت واقفة في مكاني ناظرة اليهم في الاسفل، قبل أن أجيب بأنني لن أدخل، ثم أشحت عنهم بصري، ناظرة الى البعيد، في فسحة الفضاء الخالية فوق البيت القديم، إذ كيف يعقل أن يمنع فتية الشوارع ورعاعها إمرأة من الوقوف على شرفة بيتها في نهار إضراب؟!

صراخ أحدهم المتكرر أقوى وأشد غضباً من المرة السابقة، لم يحملني على مغادرة الشرفة والدخول الى بيتي، ولا على النظر اليهم مجدداً في الاسفل، إلا حين سمعت، بعد هنيهات، صوتاً صارخاً مزمجراً، متوعداً ومهدداً، أرعبني قوله: ولييه، فوتي لجوا، ولييه. كان صوتاً لأحد شابين في ثياب عسكرية كحلية ومدججين بالسلاح، فيما يشهر أحدهما بندقيته الحربية الرشاشة ويصوّبها في اتجاهي. صرخة ولييه الممدودة المتحشرجة في حنجرته، تلك التي وقعت كشتيمة صباحية مدوية في سمعي، والبندقية المصوبة نحوي، دفعتاني فوراً الى الخلف، وأدخلتاني سريعاً الى صالون بيتي.

-2-

وقفت وسط الصالون قلقة خائفة، وحائرة ماذا أفعل. قبل أن أهرع الى الهاتف للاتصال ببيت أختي القريب، كانت عضلات معدتي قد تشنجت، وشُلّت إرادتي. أصابع يديّ ترتجف قليلاً على قرص أرقام الهاتف. لكنني هدأت، بل كتمت توتري، حين سمعت صوت زوج أختي يجيبني هاتفياً، فسألته إن كانت طفلتي قد وصلت الى بيتهم، قبل أن أروي له ما رأيت. قال إنها وصلت، وإن المسلحين من "حزب الله"، وهم في الحي منذ الصباح، وإن أختي تجمع بعضاً من الثياب استعداداً لمغادرة المنزل، ثم أخبرني أنه عاد الى بيته قبل نحو ساعة، بعدما أمضى ساعتين في الشوارع المقطوعة بالسواتر الترابية وحرائق الاطارات المطاطية، وعبثاً حاول الوصول الى مصنعه الذي علم، عبر مكالمة هاتفية، أن العمال فتحوه وباشروا عملهم المعتاد، حيث لا إضراب ولا من "يؤضربون" في الضاحية الجنوبية، الا على نحو جزئي وسلمي.

فيما هو يروي لي أن مقاتلين اثنين محترفين وفي ثيابهما السود من "حزب الله"، قد صعدا الى سطح بنايتهم، سمعت صوت طفلتي تقول عبر سماعة الهاتف: ماما، ماما، لقد رأيتهم في مدخل البناية، وصعدت الدرج ركضاً وخائفة، حتى الطبقة الثالثة عشرة.

إسترد زوج أختي السماعة من ابنتي، وأخبرني أنه سمع جارته تصرخ، ففتح باب بيته مستطلعاً. كان المسلحان في الممر، ويحملان جهازي اتصال مع سلاحهما. سألهما: مين الشباب، وماذا في الامر؟ فقال أحدهما إنهما من "حزب الله"، وإن لا داعي للقلق، وهما في مهمة استطلاعية سوف تنتهي سريعاً وبعد قليل من الوقت. اختصاراً منهما للاسئلة والاستفسارات، قطعا المحادثة وصعدا الى السطح، فيما امرأة الجيران استمرت تصرخ غاضبة ومتوعدة ناطور البناية الذي قالت إنه هو الذي أعطى المسلحين مفتاح باب السطح، ويعلم السكان أنه يناصر حركة "أمل" التي أمّنت له ولابنه عملاً وهمياً، فعيّنتهما حارسين مياومين في ادارة رسمية لا يذهبان اليها قط، الا ليتقاضيا منها راتبين شهريين.

هدّأ زوج أختي غضب المرأة وخوفها، فقال لها إن لا أحد من السكان المدنيين يستطيع منع مسلحين من دخول البناية واستخدام سطحها حسبما يرغبون ويريدون، فما كان من المرأة إلا أن صمتت ودخلت الى بيتها الذي، بعد قليل من الوقت غادرته مع زوجها وابنيهما، حاملين حقائب ثيابهم.

قبل أن أنهي مكالمتي الهاتفية، قلت لزوج أختي إنني قادمة لاصطحاب طفلتي، للذهاب الى منزل أهل زوجي المهاجر للعمل في افريقيا، لأن انتقالي وطفلتيّ الى بيتهم بمحلة الصنائع القريبة، وإقامتنا بينهم، آمن في هذه الظروف. شجعني زوج أختي على الانتقال، ما دام هو وأختي وطفلهما الصغير سيغادرون منزلهم الى بيت أهله في الضاحية الجنوبية بشارع أسعد الاسعد. فجأة تذكرت زيارتي الاخيرة معهم الى أهله، حيث رُفعت في ذلك الشارع، من زمان، صورة ضخمة للاستاذ الرئيس نبيه بري كُتبت في أسفلها عبارة: "ويلكم إذا نفد صبره". وفيما كنت أُعيد سماعة الهاتف الى مكانها، فكرت أن عليّ الاسراع في مغادرة بيتي، لئلا ينفد صبر الاستاذ الرئيس قبل أن أغادر.

-3-

فيما رحت أوضّب سريعاً بعض الثياب في حقيبة سفر، شعرت أن الزمن انقلب، فجأة، من حال الى حال. تشوش في حواسي وانقباض في نفسي وتقلص مستمر في عضلات معدتي. حتى أثاثات منزلي التي كانت أليفة قبل هنيهات، صارت غريبة وانفصلت عني مبتعدة، كأنها ليست لي، أو لم تعد لي، وانتصبت بيني وبينها مسافة من الحزن والصمت والهجران. فجأة رأيتني أتنقل شبه ضائعة بين الغرف، اقرّر أخذ غرض ما أو ثوب، ثم تركه الى غيره. أنادي طفلتي الصغرى وأقول لها أن تسرع في ارتداء ثيابها، ثم أدخل المطبخ لإحضار شيء ما، فأنسى فجأة ما هو الشيء الذي دخلت لإحضاره.

حين خرجت وطفلتي الى جانبي وأغلقت باب بيتي، سمعت صوت إغلاقه مختلفاً عن ذي قبل، كأنما صار ينبعث للاصوات صدىً لم أكن أسمعه لها. في المصعد استعدت مشاهد صراخهم بي حينما كنت على الشرفة. ما أن شغّلت محرك سيارتي في موقفها تحت البناية، حتى دوّت طلقة نارية في الخارج، فأيقنت أنهم استكمالاً لصراخهم أطلقوا النار، إمعاناً منهم في ترهيبي. أنزلت طفلتي من السيارة، وأسرعت في العودة الى منزلي. لا أدري لماذا لم استعمل المصعد، بل الدرج، والرعب الذي أصابني حملني على قرع باب جارتي وصديقتي في الطبقة الثالثة، بيدي. فيما هي تُدخلنا الى بيتها قالت في صوت خافت مرتجف إنها سمعت دوي الطلقة والصراخ، وخافت من مغادرة منزلها مع طفلتها، وأن زوجها غادر أمس عائداً الى عمله في الامارات العربية. وبعدما جلبت لي كوباً من الماء، قالت في صوت واجف، كأنها تطلعني على سر خطير، إنها قبل صراخهم بي، رأتهم يُخرجون صناديق ذخيرة من سيارة، فأدركت بدوري أن العلب التي أبصرتهم يحملونها قبيل صراخهم بي، وما أعرتها انتباهاً، كانت صناديق ذخيرة حربية.

فجأة رن جرس الانترفون في بيت جارتي وصديقتي. للحظة فكرت أن أختبئ في مكان ما من بيتها، قبل أن نتبادل نظرات خوف صامت، موقنتين أنهم هم الذين يطلبوننا، وسوف يصعدون الينا. لا أدري من أين أتتني الجرأة، جرأة ما بعد الرعب، كي أتقدم من الانترفون وأمسك سماعته، فإذا بناطور البناية يقول ان الشباب يعتذرون منا عن الطلقة النارية التي دوّت في الحي قبل هنيهات، لأنها انطلقت خطأ ومن دون قصد منهم، فيما هم ينظّفون بنادقهم الحربية. وقال الناطور ايضاً انهم قالوا ان في مستطاعي المغادرة آمنة مطمئنة.

-4-

آمنة مطمئنة، وعلى ايقاع تنظيفهم بنادقهم، عليّ ان اغادر، فأمرّ بينهم، خفيضة البصر، هلعة، كأنني غريبة عن نفسي وعن كل شيء حولي. هكذا نزلت مجدداً مع طفلتي الصغرى الى مدخل البناية. حاذرت ان انظر الى الخارج وأنا اتقدم من سيارتي في موقفها، وادخل اليها واقودها وأتوقف بها امام مدخل بناية بيت اختي.

في مسافة الخمسين مترا هالني ان يستطيع دوي طلقة نارية واحدة ان يسمّم الضوء والهواء في الشارع الضيق الخالي. وهذا ما لم تقوَ عليه مهرجانات اطلاق النار ابتهاجا في الهواء، طوال الشهور الماضية. فكيف اذاً استطاعت طلقة واحدة انفجرت خطأ ان تترك هذا الاثر الصاعق في حواسي، وتحقن المكان بدبيب الوحشة والهجران، كأنما سكان الحي كلهم لم يبق لهم من اثر؟!

اوقفت السيارة وغادرتها متجهة الى مدخل البناية. فجأة لمحت مسلحين اثنين، كاللذين صرخ احدهما بي، يختبئان بين السيارات في الموقف. أشحت بصري عنهما، وتصرفت، بل اقنعت نفسي، بأنني لم ارهما قط، ولا ابصراني ألمحهما. على هذا النحو تقدمت من الانترفون وضغطت جرسه، واعلمت اختي انني انتظر نزول طفلتي الكبرى على مدخل بنايتهم. حين ادرت ظهري للمسلحين وتقدمت من سيارتي، شعرت أنني وحيدة ومكشوفة تماماً من الخلف، كأن حقلاً مغناطيسياً يجذبني الى الوراء. دخلت الى السيارة وجلست في مقعدها الامامي، باذلة جهداً مضاعفاً لألتفت الى طفلتي الصغرى في المقعد الخلفي، محاذرة ان ينتبه المسلحان الى انني لمحتهما، او لاحا في مجال بصري اثناء التفاتتي. لم اقو على التلفظ بكلمة واحدة اقولها لابنتي، كأن الكلمات صارت من الماضي، حينما كانت الحياة عادية وأليفة قبل وقت قصير شعرت انه طويل كدهر.

طويلة كانت اللحظات التي امضيتها في انتظار نزول طفلتي الكبرى من بيت اختي. طلقة نارية واحدة وخاطئة، جعلت الوقت والمكان والمسافات افتراضية كلها. حتى طفلتي التي ابصرتها تركض من مدخل البناية الى السيارة، لاحت لي كأنها في مشهد افتراضي.

قد اكون اروي الآن اللحظات الاولى مما جرى في بيروت طوال ايام اسبوع كامل، بقوة ما حصل في تلك الايام كلها وكثافته. اي انني اروي على نحو ارتدادي ما جرى في حيّنا في اللحظات الاولى التي بدأت بصرختهم: ولييه فوتي لجوا، ولييه.

منذ سمعت تلك الصرخة، بدأت تتقطع اوصال الوقت والأماكن والاشياء، وتتهشم صور الذاكرة واوقاتها وانتظام الحوادث، وتتشظى، فلم يعد الواحد منا قادرا على لملمة شظايا الافعال والصور والاماكن والحركات واللقاءات والوجوه والكلمات التي صارت كلها اقرب الى منطق الكوابيس وصورها.

-5-

في الصورة التي استعيدها الآن من ظهيرة نهار الاربعاء في 7 ايار، وانا اقود سيارتي بطفلتيّ، مغادرة حيّنا الى بيت اهل زوجي القريب في محلة الصنائع، تبدو لي الاماكن مقفرة، والضوء الربيعي حزينا، او اصفر كبداية مرض. اتذكر انني مررت قرب اللافتة التي رأيتهم قبل ايام يشدّونها بالحبال الى عمودين قريبا من مدرسة الليسه الفرنسية (عبد القادر). على اللافتة الكبيرة المستطيلة صورة للقائد الذي اغتيل في دمشق، الحاج عماد مغنية، بين صورتين أخريين للسيد حسن نصرالله والاستاذ نبيه بري. حين رأيتهم ينصبونها، فكرت أنهم يتقدمون الى موقع جديد في احياء المدينة، كأنهم بالصور واللافتات يمدّدون حضورهم العضوي والجسماني في الاماكن.

في طريق عودتي بعد وقت قصير، ومروري قرب اللافتة التي رفعوها في ذلك النهار الذي لم اعد ادرك الآن زمنه من تلك النهارات، رأيتهم ينصرفون الى حيهم الداخلي حول الحسينية التي يتجمهرون دائماً في ساحتها. كانوا اربعة شبان وفتيان او ستة، من اولئك الذين تجذبهم كثافة العيش في الشوارع التي لا يغادرونها، الا للنوم، ويكثرون من امتطاء الدراجات النارية.

حين وصلت وطفلتيّ الى بيت اهل زوجي في ظهيرة ذلك الاربعاء، وجلسنا الى طاولة الغداء مع ابنتهم واولادها وزوجها، شعرت للحظة خاطفة اننا في نهار احد عائلي، لكن بطعم الرماد،، وان ما حدث طوال الصباح، قد لا يكون كله واقعا حقيقيا. قلت لزوج شقيقة زوجي، اني قد اكون بالغت في رعبي، بعدما رويت له ما حدث. قبيل الغروب رغبت في ان اعود الى حينا، كي اكسر ذلك الرعب شبه الهستيري الذي المّ بي في الصباح، فأبى عدنان، زوج شقيقة زوجتي، الا ان يرافقني.

كان الشبان والفتيان والمسلحون على حالهم في حيّنا، لكنني لم اشعر بذلك الرعب الصباحي، ربما لأن عدنان كان معي. حين دخلنا الى بيتي، احسست ان أثاثاته ازدادت ابتعاداً، كأنني اعود اليها بعد هجرة طويلة. خرجت الى الشرفة ونظرت في الشارع الضيق من الأعلى، فأبصرت جاراً لنا في البناية يقف مع المسلحين وفي يده بندقية حربية، فتراجعت عن الشرفة لئلا يرى انني رأيته. حين غادرنا البيت، لم اخبر عدنان بما رأيت، بل رحت أسير الى جانبه مختبئة بجسمه، محاذرة ان يراني جارنا المسلح وأراه.

كتابة محمد ابي سمرا