سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

السبت، نوفمبر ٢٤، ٢٠٠٧

يونس شلبي .... رحيل من أنكرته الحياة طفلا ودمية


عن "حيرم " الإسم الذي لم نكرههه لكننا لم نحبه كفاية
يونس شلبي ...رحيل من أنكرته الحياة طفلا ودمية
هاني درويش
كنا صغارا ندرك أن الأسماء التي أطلقناها ساخرين علي بعضنا البعض ستبقي عالقة بنا للأبد ، لذا كان الخوف من أن يخرج الأسم الساخر من حدود معايرة الأهل إلي المدرسة خوف لاتعرف كيف نعالجه في ليالي الجمعة الرتيبة التي تسبق أول ايام الأسبوع الدراسية ثقيلة الظل ، كيف كان سيكون نصيبي من الضحكات إذا ما سرب أخي الصغير إسم "منخر " إلي أعدائي في الفصل ، إينعم كنت سأنتقم منه بتعميم إسمه "أبو راسين" لكن ذلك لم يكن مخففا من وقع أن يلاحظ زملائي وخاصة البنات منهم حجم منخاري الكبير ، تهالكت الأسماء سريعا عندما إستبدلناها في المرحلة الإعدادية بالدارج من شخصيات مشوهة قدمتها الدراما فكان هناك "حيرم " و" وحنفي الونش " و " علي بك مظهر" ، طبعا كانت تلك الأسماء تبدو مضحكة لو تخيلنا صاحبها الذي يحمل إسما خفيفا مثل "هاني "أو "تامر " وهي أسماء جالبة للسخرية بطبعها مع شيوع الأسماء التقليدية مثل "محمد " و "أحمد" داخل نفس الجيل ، هكذا مثلا يصبح "تامر" "حيرم " لمجرد أن رأسه الكبير وتلعثمه الهازل حين يحكي وكرشه المتدلي دون إفراط ، كانت جميعها تشبه "يونس شلبي " في مسلسل " عيون" ، لكن تسمية "تامر" ب"حيرم" لم تكن بالإزعاج الكافي لمن يحملها ، لانها ببساطة تتجاوز المفارقة الشكلية للإسمان ، حيث "حيرم" رغم هزلية الإسم والشكل كان طيبا – في المسلسل- مخدوعا وربما مقموعا ومن هنا كان التعاطف معه ، لا ليس التعاطف وحده بل الخوف من أن يكون مصيرك كمصير من إختصه الله بالذكاء العادي أو ما دونه بقليل ، وهذا تحديدا كان ملمح الكوميديا الفارقة التي قدمها " يونس شلبي " أجمل فناني جيله والذي رحل هذا الإسبوع عن عمر 66 عاما ، لم يكن يونس شلبي بين أبناء جيله ذلك النجم الذي يستمد رصيده مما هو أبعد من نفسه ، من صفاته الداخلية الحميمة التي تركزت في شخصية طفل لاهي لم يتجاوز الثانية عشر من عمره ، ذلك الطفل الذي لايكذب أبدا ، وإن إضطر للكذب بدي مثل طفل تلطخ وجهه بالمربي فجري إلي أمه صارخا وهو يحاول مسح وجهه بكم القميص " والله ياماما مش أنا اللي كلت المربي " ، لذا كان من الطبيعي أن لا تحمله تلك الموهبة لما هو أبعد من زغزغة ذلك الطفل المخبؤ داخلنا ، خاصا وان جيله الذي ظهر معه مثلا تنوعت به تلوينات للكوميدان الأكثر ذكورة ، نعم ذكورة وكأن الطفولة هي نقيض الذكورة ، ولنحلل مثلا مشهد هذا الجيل في مدرسة المشاغبين – العمل الأهم الذي قدم يونس ورفاقه مكرسا نجوميتهم أواسط السبعينيات- كانت الأدوار قد وزعت بعناية لتخلق ذلك التناغم المفترض في مدرسة ثانوية حكومية ، إبن رجل الأعمال الذكي الذكوري المختال "بهجت الأباصيري " –عادل إمام-الذي يمثل العقل(المخ) الشقي الناظم لمؤامرات الفصل ، ثم هناك في موازاة هذا الثقل تماما " مرسي الزناتي "- سعيد صالح- إبن المعلم الشعبي الذي يمثل العضلات في معادلة ( المخ والعضلات ) الحاكمة للسلطة داخل عصاية المراهقين ، بعيدا وفي قاع الشخصية الموازية المقهورة أحمد ، الفقير المتفوق الذي أكسبه وضعه الإجتماعي المتواضع سمت أبن الحلم الستيني المقهور في مجتمع الفصل ، وبين المستويين هناك الفنان عازف الجيتار المتمرد – هادي الجيار – وأبن الناظر المتلعثم – يونس شلبي -، والشخصيتان الأخيرتان بانتا – وفقا لما رسمه كاتب النص علي سالم – أقرب للديكورات المكملة في معادلة القوي المتطرفة داخل الفصل ، حتي عندما ترجم كل منهم علاقته في حلم إستعراضي بالمدرسة الحرون- سهير البابلي – كان اكثر الأحلام مفارقة هو حلم ابن الناظر ، يونس شلبي القصير ذو اللغد الدائري التقاطيع لم يكن اكثر من حلم فانتازيا علي شاكلة أحلام فيلليني العجائبية ، ملامحه الطفولية هي نقيض لكل القيم الإيروتيكية الذكورية ، لذا لم يكن غريبا أن تستثنيه السينما في مشاويره الطويلة (نحو 35 فيلما شارك فيه ) من أدوار البطولة ، جمده تكوينه البيولوجي عند حدود الطفل الكبير ، ذلك الطيب بلمسة بلاهة صافية كما كرس نفسه في المشاغبين ولاحقا في مسرحية العيال كبرت ، كان إبن الناظر أقرب في توزيعة ادوار المدرسة إلي إنتقام درامي من بيروقراطية الإدارة التي مثلها والده ، إنتقام كتابي من سلطة مخوخة فاشلة حتي علي إقناع إبنها بالإمتثال لأوامر النظام ، وكأنه بطفولته عد إنتقاما قدريا علي شاكلة فتوة الحارة الذي حلم بإبن يرث قوته ففاجئته الأقدار بإبن أبله ، حتي حين جنبته السينما مالا يتحمله وجعلت منه بطلا من الدرجة الثانية كما في "الكرنك" و"شفيقة ومتولي" كان وجهه الذي يشي بتلك المعالم نقيضا لأي مساحة ميلودرامية ، وكأنه علم منذ البداية ان مايملكه يقبع هناك في ذلك الطفل لا اكثر ن لم يبذل ذلك الجهد الذي بذله آخرون لتلوين أنفسهم ، سعيد صالح مثلا وهو الأكثر موهبة بين أبناء المدرسة إستطاع أن يتلون في شخصيات لاحقة ك"نزل أصيل " ، فيما احمد زكي كان الأكثر صبرا علي تفجير مالم تفجره المدرسة ليصبح فيما بعد أهم ممثل مصري ، وأستثمر عادل إمام تلوينة الذكوري الذكي ليحول نفسه لاحقا لأكثر الأبطال شعبية ببدلته الجينز ، بقي يونس شلبي سجين أبن الناظر أو " عاطف" في العيال كبرت الذي يحب بورتريه لسعاد حسني ، لكنه يحبها كمشاهد ادمن أفلامها ، يحبها كما يحب المشاهدين بطلات السينما ، لو راءها يوما ربما ترتعش يده ويغمي عليه قبل ان يسلم عليها ، هل تستطيع مثلا ان تتخيل مشهد إيروتيكيا بين قيمة صافية جنسيا كسعاد حسني ويونس شلبي ؟ ، أنه الخيال الصعب بل والمستحيل ، بل إنه في بعض الأفلام التجارية التي قدمها كبطل يحب مثل "التعلب والعنب " و" محطة الأنس "و"نعيمة فاكهة محرمة" كان أقرب إلي الزوج أو الحبيب المخدوع منه إلي الذكر المحبوب ، لذا كان طبيعيا أن يتخفي خلف شخصية "بوجي" الشهيرة التي ربما قولبت أخيرا روحه في دمية عشقها الأطفال في الثمانينيات من خلال مسلسل الأطفال الشهير "بوجي وطمطم " ، كانت نحافة بوجي لأول مرة لا تتناسب مع صوته الأخشن ، صوته الذي بدي لأول مرة ذكوريا أكثر من اللازم ، صوت لطفل عاقل وكأنه إستسلم اخيرا لمصيره بعد أن تعلق كثيرا بحلم أن يصبح كبيرا ، وتواصل عمله مع بوجي لسنوات طويلة لدرجة أن كثيرين ممن تفاعلوا مع المسلسل لم يكونوا قادرين علي الربط تاليا بين بوجي ويونس شلبي ، حيث اصبح بوجي الدمية أكبر وأكثر شهرة من الممثل القدير الذي إعتزل المهنة أو إرتضت المهنة لاحقا بإهماله ، لذا كانت برودة القلب التي واجهت نداءات زوجته المتعددة لعلاجه علي نفقة الدولة بعد إصابته بجلطات متعددة في الساق والرأس من أجل توفير نفقات علاجه على حساب الدولة أسوة بزملائه من الفنانين ، و خاصة بعدأن تخلت النقابة عنه و باع كل ما يملك لتغطية نفقات العلاج و الأدوية التي ارتفعت أسعارها بجنون ، حتى أن ثمن فاتورة " مستشفى المقاولون العرب " الذي أجرى فيه العملية الجراحية الأخيرة زادت على 30 ألف جنيه و لم يكن بإمكانه أن يتحملها ... هكذا لم تتحمله الحياة فلم يتحملها الطفل ورحل. .