سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الأربعاء، يونيو ١٣، ٢٠٠٧

عندما صرخ الجحش: عليَّ الطلاق دي "دو" مش "دزز" يا حمار


خرج الأستاذ محمد الجحش على المعاش منذ ثلاث سنوات بعد خدمة في مجال التعليم وصلت إلى نحو ثلاثة وثلاثين عاماً، دافع فيها عن لقبه المثير للسخرية بمنتهى العنف، ولم يتنشق حتى يوم خروجه نسائم مرحلة "كادر المعلمين الخاص" الذي تباهي به الدولة وتشخلل بجلاجله كحل سحري وأخير لأزمة التعليم المصري، لن يلحق الجحش بركاب الثلاثة مليارات جنيه التي خصصتها الدولة لترميم التآكل العنيف لأوضاع المعلمين، لأنه إستقبل تلك الأنباء وهو يعدل من وضع نظارته البيرسول الستينية مرخياً وضع قدميه على أنه "كلام جرايد فاضية". الجحش الأقرب، بتدلي يديه وعموده الفقري المنحني، إلى فصيلة إستوائية من القرود بصوته الأجش الذي غالبا ما يقطع بين مفاصل كلماته شخيراً إسكندرانياً أصيلاً، هو أبعد ما يكون عن ذلك النمط الكاريكاتيري الشائع للمدرسين كما قدمتهم السينما. بدأ مسيرته كمدرس للجغرافيا، وعندما خلت المدرسة من مدرسي اللغة الإنجليزية منذ 20 عاماً درس الإنجليزي الذي كان يختصر علاقته به في ضرب الولد يوسف على ضمائر الغائب في جلسة الدرس الخصوص قائلا: لو مفرد... تيجي معاها يابن الكلب،... يا دو، يا دييد... يا أيه ... يا دززز يا حمار". ظل يأتي حتى آخر أيام خدمته على الفيسبا الحمراء مرتدياً قفازين جلديين وسكارف على نمط الوجاهة الفرنسية زمن الأبيض والأسود، مبالغاً في درجة لمعان حذائه الأسود وقد تعود أن يقتحم باب"مدرسة الأقباط الثانوية ـ بنين" صباحاً بنصف دائرة "أمريكاني" تثير الموتور المتهالك وكثير من الأتربة، بنيته القزمية وضيق عينه وتطويح جسده كله مع قفزة صفعته الشهيرة حين يحل وقت "الغباوة" إليومية على أحد الطلاب جسدت لحضوره المركزي المرتكز على سلاطة لسان نادرة وثاقبة في إختيار أوصافه التي كثيراً ما أرهبت زملاءه وطلابه. التعويض السيكولوجي المتمثل في الصوت الجهوري والبذاءة اللغوية وسمعته كأباضية قديم في مربع حوض الزهور بمنطقة السبتية الشهيرة موطن تجارة الحديد في ميدان رمسيس، خلقت من حضوره حالة مسرحية ذات ملمح كوميدي أسود على خلفية يومياتي الوظيفية كمدرس ثانوي عام لمدة عامين في بداية مسيرة ما بعد التخرج، إستهل عبد الجواد فصلها الأول بمشهد إفتتاحي مثير عندما قادتني قدماي بخطاب ترشيحي للمدرسة أول يوم وأنا أوازن خطواتي أمام بابها لأدخل عالمها الكرنفالي من أوسع أبوابه، بوابة المدرسة التي كان يستقر خلفها الجحش بنصف كوب شاي أسود وخرازانته التي ألهبت كتفي عندما خطوت أول خطوة، ظانا أنني أحد الطلاب المتأخرين. كانت تلك الضربات مفتتحاً مناسباً لعلاقة طريفة تقمص فيها دور الأب الكبير وتقمصت عبرها روح المتلصص على عالمه، بإختيار بدا لأول وهلة مرهوناً بقدرتنا سوياً على إيجاد هموم مشتركة بشكل سريع، بعد فض إلتباس البداية الذي كاد أن يطرحه على ظهره من الضحك. أخذني من يدي كما يفعل مع ضحاياه من الطلاب وأدخلني حجرته الأرضية التي يتابع عن طريق موقعها الوسطي كل صغيرة وكبيرة في المدرسة. سلمتُهُ إقرار إستلام العمل بنسختيه وهو يتعجب من "بلاوي الوزارة" التي أرسلت مدرسا عمره يقارب بعض أعمار طلابه. خلع نظارته الشمسية وأرتدى نظارة القراءة وهو يخرج سلسلة مفاتيح ضخمة جعلته يبدو أقرب لسارقي الخزائن وتمدد خلف مكتبه "الإيديال" العريض والصدىء، لم يترك لي فجوة تسمح لي بالدفاع عن أي شيء، الوزارة أو نفسي أو الكلية، وأحاطني بأسئلة لم ينتظر حتى إجاباتها: "مدرس جغرافيا... هأو... يعني أنضميت للكنيسة فوق..... سلملي على أبلة مني أم طي... (مؤخرة)... يعني مارحتش إعدادي ليه... هيا المشرحة ناقصة قتلى.... روح يبني للتوجيه وأطلب نقلك... العيال اللي هنا يمرشوك بسنانهم آه...... يعني مصمم تبقي جنت على نفسها براقش.... حتشتغل ياعم مع أبلة موندة... فرسة المدرسة.... ياخي أح...(تعبير صوتي دارج للإعتراض)، نصف ساعة أولي من البث من طرف واحد كرست حضوره كمدير لشؤون العاملين وهو منصب هام في ميكانيزم العملية التعليمية للمدرسين، حيث بين يديه دفتر الحضور والإنصراف ولديه تُسلّم طلبات الإستئذان بإنصراف مبكر، أو طلبات الإجازة، وإليه تصل إخطارات التحقيق لدى الشؤون القانونية بالوزارة، وهو من يستقبل لجان التفتيش المفاجئة المرتبة سلفاً، وعلى مكتبه يقع التليفون الوحيد بالمدرسة والذي يجاوره صندوق جمع الغلة، حيث يشترط إستقبالك لأي مكالمة بدفع ربع جنيه ثمنا لصمته على "المصالح" التي ينجزها التليفون للمدرسين. بمعنى أدق هو الناظم الأوحد لعلاقة المعلمين بعالمهم الوظيفي الذي لا يخلو من جزاءات بيروقراطية وتحايلات وظيفية تتعملق جميعا حول دفتر ذي لون كاب متعفن هو دفتر الحضور والإنصراف الثمين، الذي كان يحمله تحت كتفه كمحضر المحاكم ايما تحرك نادرا بين جنبات المدرسة، يخبئه في شنطته السامسونيت إذا ما حان وقت دورات قمار الكونكان إليومية على المقهي القريب. ويغلق حجرته بقفل ثقيل وينتقل مكتبه بإكسسواره البشري من طائفة أخصائيين إجتماعيين لحلبة صراعه في المقهى الذي يعود منه سالما منتصراً بخمسة من علب المارلبورو الحمراء التي يجلد بها ضحاياه في رهانات المقهى، لا يشرب سجائر المارلبورو وإنما يدخن سجائر السوبر الشعبية الطويلة ويرسل أحد رجاله من الطلاب لبيعها عند عم يوسف صاحب الدكان القريب. وليستقر عالمه تتبع به طائفة منتقاة من الأتباع والخدم: محمد المعايرجي الأخصائي الأول ومندوب أمن الدولة السري بالمدرسة (يصطلح على تسميته لقب العصفورة من وراء ظهره)، الطالب يوسف إدوارد سمكري الفيسبا الراسب لثلاث سنوات بالقسم الأدبي وأحد البلطجية الكبار بين طلاب المدرسة والذي يفكك يويا فيسبا مدير شؤون العاملين بحوش المدرسة لتشحيمها وغسلها بالجاز بعد أن ينهي دورة الإصطباحة بميكرو باص، مدرس التربية الرياضية محمد السيد، والأخير يجري تغطيته يوميا من قبل الجحش لكي لا يحضر طابور الصباح المرتجل كي لا ينقطع رزقه على خط رمسيس إمبابة الذي يعمل عليه. يوسف يكون بذلك ركناً أصيلاً في علاقة الجحش بمحمد السيد، فحضور الأخير طابور الصباح إذا ما "زرجن" الجحش يعني تعويضه بيوسف الذي لا يثبت غيابه في كشوف غياب الحصة الأولي والثانية. وكي تكتمل دائرة المريدين هناك وائل، أخصائي معمل الكيمياء ذو الدور الضخم حيث أخته الموظفة في التفتيش تبلغ الجميع بمواعيد الزيارات التفتيشية المفاجئة من الوزارة أو الإدارة، واخيراً امين الخزانة سعيد محمود المسؤول عن المرتبات والحوافز.هذه المجموعة تشكل الركن الركين في مدرسة ثانوية من آلاف المدارس الموجودة في مصر، وليست مدرسة "الأقباط الثانوية بنين" مجرد إستعارة أدبية منتحلة على واقع التعليم المصري، فالجميع يدرك حجم الجريمة كاملة الأوصاف التي تدار تحت مصطلح التعليم المصري. ليس إنخفاض الأجور وحده ـ راتبي عند التعيين كان نحو 98 جنيها أي ما يعادل 20 دولاراً شهريا ـ وما يترتب عليه من شيوع مشكلة الدروس الخصوصية، فالأخيرة نتاج طبيعي لنمط تعليمي قائم على التلقين والحفظ على مستوى المناهج ومحتواها، وعلى مستوى التقييم التعليمي، ثم أخيرا على البنية الوظيفية في التعليم المجاني ـ الذي ما صار مجانياً ـ والذي يدفع أهل الطلاب فوارق مرتبات مدرسيه من جيوبهم على هيئة دروس خصوصية، لقد تحولت عادة الدروس الخصوصية من نظام لتعويض فقر الحياة الدراسية إليومية إلى جزء مركزي من بنية التعليم المصري، تحول بالنسبة لطلابه ومعلميه إلى إكسسوار مسرحي لذر الرماد في عين دولة تدعي أنها تشرف على تعليم ما. فدفتر حضور المدرسين والطلاب هو سقف علاقة سلطة التعليم بكافة أطرافه، الطلاب بحثا عن شهادة لا تسمن من جوع ولا تتناسب مع سوق عمل مجبرين على يوم دراسي طويل أقرب للنزهة منه للعملية التربوية، والمعلمون يتعاملون مع تراب الميري الوظيفي على أنه مناسبة لإصطياد وترتيب ساعات الدروس خارج إليوم الدراسي، حالة من الكذب التعليمي والنفاق المجتمعي الذي يتواطأ جميع أطرافه على إنجاز مشهد تعليمي فارغ من مضمونه. فالدولة تعلم أن التعليم، وهو آخر أركان الدور الإجتماعي للدولة، يظل، بفساده، الركن الأساسي في فرض الهيمنة الأيدولوجية والسياسية على جماهيرها، وهي مهمة تحاول الدولة التكيف مع حدود إلتزاماتها الدنيا. بمعنى الإنفاق على عملية تعليمية خربة لتكريس خرابها الذي يقدم من جهة جيش من العمالة الرخيصة غير مؤهلة ومن جهة أخرى يساعد مستوى فسادها على تغييب للوعي بشكل ممنهج يصلح لفرض السيطرة السياسية، فيما تفتح أبوابها للتعليم الخاص الذي يتخصص مع الوقت في تقديم الكوادر والخبرات الصالحة لسوق العمل لطبقات بعينها. هذا وإن لم يسلم التعليم الخاص نفسه من خلل المركب التعليمي الذي ميز التعليم الحكومي. فمناهجه وأسإليب تقييمه وبنيته تؤدي لنفس النتائج وإن كان بكلفة أعلى تدفعها طبقات أعلى لرجال أعمالها بعيداً عن مسؤوليّة الدولة عن ذلك. وتعلم الدولة أن ما يزيد عن مليون و مئة ألف معلم رسمي ـ غير عدد المعلمين خارج جداول النقابة ـ هي شريحة يسهم رأسمالها المتداول بعيدا عن عيونها الضريبية. ـ تشير الإحصاءات إلى رقم 8 مليار جنيه حجم الدروس الخصوصية تنفقها الأسر المصرية سنوياً ـ رأسمال أصبح حرياً بالدولة أن تضع ضوابط لإقتسامه مع المدرسين، لذا لم يكن مستغربا أن تسارع الدولة لتوفير 3.1 مليار جنيه لإصلاح الخلل في هيكل أجور المعلمين بحثا عن سيطرة قانونية على تلك الرساميل التي تدار بعيداً عن ذقنها.الدولة تعلم تماماً أن الحفر العميق في مجرى إصلاح التعليم المصري أكثر تكلفة من ذلك، اذ هو يتعلق بمناهج متخلفة لابد من تطويرها، وبنية أساسية متدهورة تحتاج لمليارات لوقف إنهيارها، فيما هي تنسحب أساسا من دور دولة الرفاة الإجتماعية لصالح دولة السوق، ومن ثم لا يتبقى لها غير المزايدة بتلك الخطوة الطفيفة في تعديل الأجور كمبرر لهجوم متوقع على سوق الدروس الخصوصية. فالكادر الجديد سيجعل متوسط أجور المدرسي يدور بين 500 إلى 1000 جنيه، اولئك الذي يدور متوسط دخلهم في سوق الدروس المفتوح بما بين 1500 إلى ثلاثة آلاف جنيه، وهو ما يعني ضمنياً عدم ردم الهوة المفترضة. فمحمد الجحش الذي أدمن إعطاء دروسه الخصوصية في حجرته بالمدرسة، وفي أثناء إليوم الدراسي مثله في ذلك مثل الآلاف كان قد توقف قليلا عام 1998 أمام عنوان رفع أجور المدرسين الذي تكرر مئات المرات معلقاً: "مفيش فايدة عمك سعد زغلول قالها يجي من قرن .... يبقوا يتفوا على قبري لو الدنيا إتصلحت" ثم يلتفت إلى أحد أتباعه قائلاً "بالمناسبة قزازة البراندي اللي جبتها خلصت على التلات تيام اللي إتشلولك من الغياب.... شخلل جيوبك ياحلو..هأو"..

3 Comments:

  • At ١٠:٤٨ م, Anonymous غير معرف said…

    مساء الخير

     
  • At ١:٤٩ م, Blogger Mr.BaND said…

    راسلني علي swefy@hotmail.com

     
  • At ١:٥٤ م, Blogger Mr.BaND said…

    ازيك و الراجل الي بتتكلم عنه ده مات بقاله سنه يعني حرام عليك و حاول تشيل الموضوع و شكرااا

     

إرسال تعليق

<< Home