سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الأربعاء، يونيو ١٣، ٢٠٠٧

ثلاثة شعراء وعامل مطبعة وضابط شرطة


يستعيد المشهد الثقافي المصري الفضائحي رونقه كالعادة، فمع كل محاولة لتكحيل العين العمشاء يبرز عماء جدير بكل المتهافتين على معادلة مفادها أن الخروج من ظل شجرة الدولة الوارفة الظلال والثمار يعني تيه العشيرة في أرباع جموع السفهاء والصعاليك. ومن ثم فنحن نهجو الدولة في المقاهي في حين لا نترفع عن تولي مناصبنا فيها. فالدولة ليست وزير الثقافة أو مؤسسته ونضالنا من داخلها نضال لقيمة سامية مترفعة إسمها الثقافة الوطنية ـ والأخيرة مصطلح سنّه منظر دولة الشجر الثقافي الوافرة د.جابر عصفور ولا يزال يروج له حتى الآن.بمعنى أن مواجهتنا لإنقلاب الراعي (الدولة) والرعية (الجماهير) على مشروع التنوير تبدأمن الخطوط الأمامية من مؤسسات القهر الثقافية نفسها، والتي، وإن فشل مشروعنا في أن نعقلنها ونمدنها، نجد أننا قدّمنا دورنا أمام التاريخ، حتى لو باتت السلطة في غير احتياج لنا كظهير ثقافي وإكسسوار حداثي لبنيتها المشوّهة. لذا ليس غريباً أن تظل "الهيئة العامة للكتاب" القاطنة هناك على كورنيش النيل قابلة للحج والطواف الثقافي مهما كان تجهم لوائها الأنصاري في فوتوغرافيا النشرات الصحافية مقنعاً لجمع أسرة الثقافة تحت حزام السياسة، ومهما تقمص ضابط الشرطة السابق سمت المدافعين عن شرف المجتمع وعورته التي تبدأ من أسفل الذقن لتشمل العقل والقلب ومتعلقاته. فقد صحت القاهرة على معركة خفيفة وهشة من معارك المثقفين وهي أشبه بمن يشاهد مشهداً هزلياً إلى حدود البكاء. والحكاية تبدأ من شاعر فحل خرج على حدود المؤسسة ناعياً استقلاله المزعوم بعد فضيحة مؤتمر القاهرة الشعري الأخير، حينما أسس الفاشيون الجدد بقيادة أحمد عبد المعطي حجازي لمازورة شعرية أخرجت كل من هو خارج ذائقته من حدود المؤسسة الراعية للمؤتمر. خرج الشاعر حلمي سالم رافعاً لواء الثورة المتأخرة على لجنة الشعر بتنظيم فاعلية موازية أسماها "ملتقى الشعر البديل"، نظمها الرجل ونفر من زملائه المخلصين لتجمع كل ضحايا مقصلة حجازي التي لا ترحم. ومر الملتقي فيما الشاعر نفسه يشارك من بعيد لبعيد _ والله أعلم بالنوايا ­ في إصدار مجلة "إبداع" في إصدارها الثالث المغدور ـ وللمفارقة تصدر تحت رئاسة تحرير حجازي نفسه ـ بقصيدة عنوانها "شرفة ليلي مراد" كانت قد صدرت في ديوان "في ثناء الضعف" الصادر له حديثاً عن دار المحروسة للنشر. ولأن الشاعر يدرك سقوف الحرية المنخفضة للنشر في إصدارات الدولة قام طوعياً بتغيير لفظة الله المكررة عبر ثنايا القصيدة إلى لفظة رب، متخيلاً أنه سينجو بذلك من رقابة عمال المطابع الشهيرة. لكن المتربصين فاجأوه حينما قلصوا مقياسهم الرقابي ليطارد لفظة رب هي الأخرى.أمر الجنرال د. ناصر الأنصاري (وتعبير الجنرال ليس مبالغة لفظية فالرجل بدأ حياته الوظيفية ضابطاً بالشرطة ولم ينتهِ من تقمص روح زيّها الرسمي حتى لو خلت صوره من النسور على الأكتاف) بمصادرة العدد بعد بيع نسخ كثيرة منه بحجة ورود "تقارير" تؤكد أن القصيدة تحتوي على تطاول على الذات الإلهية، ليتصاعد الجدل الممل كالعادة عن مسؤولية الدولة ثقافياً في حفظ الأخلاق العامة، ولينبري كثيرون للتباكي على قصيدة الشاعر المغدور. لكن العدد الماضي لجريدة "أخبار الأدب" حفل بأكثر من مفاجأة خرجت بالمشهد من حدود رتابته المتوقعة، حين ارتبكت أرجاء الصورة بعدم تناغم مفزع وضعته ثلاث شهادات لثلاثة أطراف هي موضع مشهد تهافت التهافت بامتياز. المشهد الأول في صدر الصفحة الثالثة للجريدة حيث ينفي د. ناصر الأنصاري تهمة "البلاغ" في قصيدة حلمي سالم، حيث تورط الأنصاري في حديث تلفزيوني سابق فأكد أن من أبلغه بتجاوز قصيدة حلمي سالم لخط الممنوعات. وعندما حاصرته الصحافية بسؤال مفاده: هل صحيح أن شاعراً هو الذي أبلغك بمحتوي القصيدة وليس عمال المطابع، كان رده: لو كان لعمال المطبعة علاقة بالموضوع لما طبع العدد من الأساس.إلى هنا ينتهي الاقتباس الأول الذي يؤكد أن السلطة المعطاة لعمال المطابع معترف بها على لسان الجنرال الأكبر. لكن الصحافية عادت لتصر على سؤالها: إذن هل ان من قام بالإبلاغ عن القصيدة هو أحد الشعراء؟ فرد الأنصاري: "ماقدرش أقول ده... أنا لدي لجان الفحص الخاصة بي في الهيئة... هذه اللجان تنبهت للقصيدة لكن متأخرة بعد صدور العدد". هنا لا بد من التوقف مرة أخرى حيث لا داعي للتأكيد على أن للأنصاري ما لا يقل عن مئة تصريح سابق، بدأت منذ توليه منصبه، ينفي فيه وجود أي لجان رقابية في هيئته المصونة. ثم تعود الصحافية لتؤكد في باقي التقرير أنها علمت، عبر مصادر في الهيئة، أن لجنة بحث الأزمة التي شكلها الانصاري تتكون من نائبه وحيد عبد المجيد وعضو من اللجنة الثقافية بالهيئة وعضو من هيئة تحرير المجلة، وأخيراً عضو من المطبعة حيث من المتوقع صدور المجلة بتدارك الخطأ أي بحذف قصيدة حلمي سالم.حاول الأنصاري في إجاباته تهويم تهمة المصادرة لتبقى معلقة في فراغ المبني للمجهول. لم ينفها عن الشاعر ولا عن عمال المطابع وأعاد الخطأ لمساحة لجانه الرقابية التي لم تؤد عملها بإتقان من البداية وكفى الله المؤمنين شر القتال أو النميمة. مجرد خطأ بجرة قلم لن يوقف مسيرة قافلته.أما العواء تحديداً فقد جاء في مؤخرة نفس العدد من أخبار الأدب عبر شهادتين: الأولى مقال تبريري فج للشاعر حسن طلب مدير تحرير "إبداع"، (تأمل الحكمة الوظيفية ونموذج مثقف النصف نصف الرائع) والثاني شهادة بكاء وعويل من العيار الاستشهادي الثقيل بقلم حلمي سالم نفسه ولنتأمل أركان الشهادتين:يكيف الشاعر الكبير حسن طلب ـ ولا نقصد هنا "يقيف" نسبة لصنعة الترزي البلدي ـ موقفه بضبط المسافات الدقيقة من أبعاد الأزمة محاولاً تجنب المسؤولية الضمنية له في الفضيحة كمدير تحرير تمت الوشاية ضمنياً به وبذائقته الأدبية، حين يحاول أن يعطي للدكتور الأنصاري الحق المشروع في مصادرة العدد ولكن باستخدام أسلوب الناصح الأمين والمهذب حين يدبج مقدمة عصماء حول طبيعة اللغة الرمزية في الفن والشعر _ تأمل أدب المرؤوسين ـ فيعدد له سوابق اللغة والشعر التي كانت في السابق تستوعب مقطع "المجد للشيطان معبود الرياح" في قصيدة أمل دنقل الشهيرة. ويصل به رثاء الذات إلى مستوى القول الآتي: غير أن هذا لا يعني أننا ننحي باللائمة على الدكتور "ناصر" فنحن هذه المرة ينبغي ألا نلوم إلا أنفسنا ( تأمل التواضع) نحن المثقفين مذ سمحنا لضعاف المواهب والنفوس أن يندسوا بيننا مع رصفائهم من الموظفين الذين لا يعملون ويسوؤهم أن يعمل الآخرون ( أي نحن طبعاً)... لكم ساءهم بالفعل أن تظهر مجلة مصرية بهذا المستوى الرفيع، فلم يكتفوا بإبلاغ رئيس الهيئة فحسب عن المقطع ( المذكور)، وإلا لهان الأمر، ولكن تطوّعوا بإرسال البلاغات الكيدية إلى أمثالهم من صغار الصحافيين، لكي يشعلوا الفتنة ويهيجوا الرأي العام على الهيئة التي يعملون بها ( أليس عيباً الحديث هكذا على زملاء العمل؟). وحسناً فعل الدكتور الأنصاري حين أشار في حديثه التلفزيوني مساء الأحد الماضي ـ (وهو ما أنكره الأنصاري في نفس العدد) ـ إلى هذا الشاعر/ المخبر الذي أبلغه، حتى ينفضح أمره بين زملائه ( طبعاً لا يملك جرأة التصريح بإسمه) بعد أن ارتدى قناع الحداثي المتمرد على المؤسسة وهو يشاركهم ملتقى الشعر البديل بينما يقبض باليد الأخرى منحة التفرغ من المؤسسة نفسها ويجهز الآن قناع الطليعي الثائر من خلال المجلة التي يعد لها مع زملائه!إلى هنا ينتهي البلاغ المزدوج للشاعر الكبير عن الفضيحة فهو يبرئ السلطان (الجنرال) من استماعه للوشاية ملقياً بالتهمة على شاعر مبني للمجهول ولا ينقص إلا ذكر إسمه. ولكي يكمل طلب ضربته المزدوجة عليه أن يكمل مشهد التضحية بذبح حلمي سالم على مذبح ضعف الشعرية، حيث يؤكد على ركاكة وهشاشة النص اللتين شجعتا ضعاف النفوس على التربص بالمجلة واصلاً إلى نتيجة مفادها أنه قد أخطأ من الأساس بقبول قصيدة ضعيفة لا يمكن الدفاع عنها!! ويعود ويصر على أن المجلة بنخبوية الجمهور المستهدف كانت ستمر لولا تربص المتربصين بها. هكذا برّأ طلب نفسه ورئيسه من ألاعيب مجموعة من الشعراء النابحين ذوي النفسيات السوداء ضد إنجاز مجلته الضخم، محيلاً أجواء الأزمة لزوبعة تافهة في فنجان مجموعة من الشعراء السفهاء الذين لا يقدرون نضاله الوظيفي لتمرير الثقافة من خرم إبرة المجتمع الضيق، وهو في ذلك الدفاع الإنبطاحي هو الآخر معذور. لكن من لا عذر له فعلاً هو حلمي سالم الذي كتب شهادة جاءت في الصفحة المقابلة دون تنسيق للمواقف مع من سبقوه في نفس العدد حيث باعوه جميعاً في المزاد العلني، فيما هو أصرّ على تبرئة الجميع من دم قصيدته المهدورة محملاً ذنبها كالعادة على مشجب عمال المطابع، الأبرياء هذه المرة .إذا كان منطق حسن طلب هو تهافت الشاعر الموظف، فإن موقف حلمي سالم هو تهافت التهافت المتأخر. فقد حسبها حلمي سالم حساباً تقليدياً حين حمل المبني للمجهول وتقديره عمال المطابع الأسطوريون شرف التحكم في الثقافة المصرية. عنون مقالته بـ"ثقافة يحكمها عمال المطابع"، حيث لم ينس في البداية توجيه الشكر لكل من باعوه، وفي مقدمتهم حجازي وطلب، مشيداً بموقفهم في الدفاع عن قيم الإستنارة والحرية وتحدث عن نفسه ككبش فداء ضخم ذبحه عمال المطابع للنيل من حجازي وهيئة تحرير المجلة. ثم ولإكمال المشهد بكامل إكسسواره الاستشهادي وضع نفسه في مسيرة شهداء التعبير بدءاً من الحطيئة وإنتهاء بمارسيل خليفة مروراً بكامل تاريخ القهر العربي للإبداع. ويصل في قمة منحنى خطاب التضحية ليؤكد ضرورة فصل الدين عن الإبداع والسياسة.على شاكلة مناضلي الشجرة الوارفة الثمار قدم حلمي سالم شهادته المتأخرة التي لو قدر له أن يقرأ ما سبقها لتراجع عنها، لكنه لا بد سيقرأ عدد أخبار الأدب كما قرأناه ونتمنى في المرة القادمة أن يكون إخراج المشهد دون هذه الراكورات الزمنية والمواقفية، على الأقل فليبحثوا عن مخرج يعيد ترتيب مشاهد الفضيحة بدلاً من هذا الإرتجال الذي يبدو شعاره "تعظيم سلام" لكل من هو فوق في الهرم الثقافي المصري المقلوب، حيث لا مجال لبطولة زائفة، أو أحاديث مكرورة عن ثقافة مغدورة.