سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الأربعاء، يونيو ١٣، ٢٠٠٧

رحلة البحث عن رأسمال معرفي يُبدّده بثّ الفضائيات


ماهو حكم الإسلام في الباب الخشبي؟ أو ماهو حكم الإسلام في أكل لحم الجان؟ هكذا ومنذ زمن بعيد كنت أستمع إلى برنامج "أفيدونا يرحمكم الله" بإذاعة القرآن الكريم، والذي كان يتولى فيه علماء أزهريون أفاضل الرد على أسئلة المستمعين. لكن الأسئلة كما تقدم لم تكن تخرج عن هذا الإطار، بعض من الفانتازيا وكثير من الهوس، أما فضيلة الشيخ فكان مضطراً بكل تهذيب للرد على تلك الأسئلة بمنتهى الجدية والوقار. نعم وقار لا يمكن وصفه إلا بسلوك من تحكم في انفعاله داخل عزاء خشية أن ينفجر في الضحك. هكذا تخيلت نفسي للحظة أمام تلك المهمة الجبارة التي هي أمانة في رقبة شيخ ربما تكون تلك كل وظيفته في الحياة، أن أكون في موقعه مضطراً ـ مخافة أن أتجاوز نصاً أو سنة ـ لمراجعة مئات الكتب الدينية بحثاً عن موقف أو حكم في الباب الخشبي، أو على أقل تقدير عدم الاستخفاف بغباء السائل الذي يتحدث عن لحم للجن، والمسلم القاصي والداني يعلم أنها كائنات ذات طبيعة غير مادية لايصلح معها الأكل والطبخ، هذه كانت بعض من الأفكار التي تراودني كثيراً مع استماعي في فترة الطفولة للإذاعة ذات المحتوى الثابت منذ نصف قرن، لدرجة إني كنت أتخيل أحياناً أن بعض تلك الأسئلة ما هي إلا خيال مُعد الفقرة وربما الشيخ الجليل المجيب نفسه، لأن ببساطة من يسأل عن حكم الدين في باب خشبي ويرسل رسالة في مظروف وينتظر الحكم كان جديراً بصورة كاريكاتيرية يظهر فيها السائل ونجار وبعض الجيران متحلقين حول باب لمنزل يستند إلى جدار بأحد الشوارع ويضعون أمامه المذياع في انتظار إجابة الشيخ الجليل التي إما ستجعل النجار يركب الباب أو تضع الباب في حكم الحرام، مما يستتبع ذلك من خيال لأزمة الباب وانكشاف داخل المنزل أمام المارين في شارعه ثم الدخول في باقي ذلك الخيال المضحك. من ناحية ثانية يبدو سؤال آكل لحم الجن وطبيعة فانبيارية أصيلة، حيث في حالة الإجابة عليه بأنه حرام كيف سيتصرف السائل في اللحم المذبوح أمامه وقد شمر عن ساعديه مستعداً لشوائه مثلاً. الأزمة أن الشيخ في الحالتين كان مضطراً للإجابة الفخيمة الفصيحة التي تبدأ بالاستعاذة بالله والصلاة على الرسول، مضطراً للتنقيب في أمات الكتب التراثية المرجعية بحثاً عن سيرة ما للخشب في التاريخ الإسلامي تربطه بمعيار التشريع أو التحريم، فيما حاول في الإجابة على السؤال الثاني أن يتحدث عن الطبيعة اللامادية للجن معدداً الآيات القرآنية والأحاديث وأخبار الصحابة الأوائل معرجاً من ذلك على أن الجن بلا لحم أو مرق وإن أكد في النهاية أنه بما أن لا مانع شرعياً واضحاً فهو ـ أي أكل لحم الجن ـ حلال !استدعيت السؤالين خلال هذا الأسبوع كثيراً بعد أن أرقت مضاجع المصريين حادثتان كبيرتان على نفس المنوال، تحدثت منهما الصحف، واجتمع على أثرهما شيوخ الأزهر، ودشنت لهما ساعات محترمة من البث التلفزيوني، ناهيك عن ساعات الثرثرة الممتدة من البيوت إلى المقاهي إلى التجمعات العامة، والأولى تفجرت كالعادة مع سؤال ـ لا أشك لحظة في مكر سائله ـ وجه للدكتور عزت عطية، أستاذ ورئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين وأحد علماء الأزهر الأجلاء، حول حكم الاختلاء برجال في مكان العمل، الأمر الذي جعله يفتي بضرورة إرضاع المرأة العاملة لزميلها في العمل خمس رضعات مشبعات كي تحرّمه على نفسها. ولنتخيل وقع هذه الفتوى التي أثارت خيالاً مجتمعياً كوميدياً وقد تحولت، بمجرد ترديدها، حيث حملتها الصحافة على أجنحة الريح لجمهورها المتشوق للإرضاع، إلى أزمة كبرى، لم يتنصل الرجل عن فتواه الصحيحة شرعا لكنها في الواقع تبدو كارثية المعنى والهدف، وبدأت الناس تتحدث عنها بمنطق الطرفة، وهو ما أشعر الأزهر بحرج الموقف فاجتمع المجلس الأعلى وأصدر قراراً بوقف أستاذ الحديث عن العمل وإحالته للجنة التأديب. أما الثانية فكانت تصريحا للمفتي الشيخ على جمعة رداً على سؤال لأحد المصلين بمسجد السلطان حسن الذي سأل عن حكم التبرك ببول الرسول (ص) فكان رده، كما نشرته جريدة المصري اليوم، واسعة الانتشار: إن الأساس في فتوى تبرك الصحابة ببول النبي صلي الله عليه وسلم هو أن كل جسد النبي صلي الله عليه وسلم في ظاهره وباطنه طاهر وليس فيه أي شيء يستقذر أو يتأفف أحد منه، فكان عرقه صلى الله عليه وسلم أطيب من ريح المسك وكانت أم حِرام تجمع هذا العرق وتوزعه على أهل المدينة.وأضاف جمعة: فكل شيء في النبي صلي الله عليه وسلم طاهر بما في ذلك فضلاته، وفي حديث سهيل بن عمرو في صلح الحديبية قال: "والله دخلت على كسرى وقيصر فلم أجد مثل أصحاب محمد وهم يعظمون محمدا فما تفل تفلة إلا ابتدرها أحدهم ليمسح بها وجهه". وحينما أعطي النبي صلي الله عليه وسلم لعبدالله بن الزبير شيئا من دمه بعد الحجامة فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم ادفنه، فرجع فرأي النبي عليه شيء فقال له أين دفنته، قال في قرار مكين فقال له الرسول صلي الله عليه وسلم "أراك شربته ويل للناس منك وويل لك من الناس بطنك لا تجرجر في النار".واستطرد جمعة قائلا: فأخذ العلماء من هذا ومنهم الإمام ابن حجر العسقلاني والبيهقي والدارقطني والهيثمي حكما بأن كل جسد النبي صلّى الله عليه وسلم طاهر في ظاهره وباطنه، وعلى ذلك جماهير العلماء كما نص على هذا أيضا القاضي عياض في "الشفاء" والأمام الغزالي في "الوسيط"، والإمام زكريا الأنصاري في "أسمى المطالب" وابن الرفعة والبلقيني والزركشي، وقال شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني "تكاثرت الأدلة على طهارة فضلاته صلي الله عليه وسلم وعدَّ الأئمة ذلك في خصائصه فلا يلتفت إلى ما وقع مما يخالف ذلك فقد استقر الأمر من أئمتهم على القول بالطهارة".وقد أدى رأي المفتي وفتواه إلى تصريح صادم وعنيف جاء هذه المرة من الشيخ محمود زقزوق وزير الأوقاف الذي اعتبر فتوى "التبرك ببول النبي" كلاماً فارغاً وفقاً لما نقلته صحيفة المصري اليوم حيث قال في كلمته التي ألقاها امام جمهور من الدعاة القدامي وخلال دورة تدريبية للأئمة:تعودنا أن تكون الإساءة للإسلام من أعدائه والحاقدين عليه، وهذا يحدث منذ ظهوره. ولكن الموضة الجديدة هذه الأيام ـ للأسف الشديد ـ الإساءة للإسلام من أبنائه وأتباعه ومن هذه الإساءات، التي ظهرت مؤخراً، الفتوى التي تقول إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتبركون بشرب بول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه إساءة واضحة للنبي صاحب الدعوة، الذي كان نقياً في كل شيء ولا يقبل مطلقاً بهذه التخاريف.هذا التضارب بين جهتين داخل المؤسسة الدينية ليس بجديد، بل هو مرشح للتصاعد خلال الفترة القادمة، فالمتأمل لحال المؤسسة الدينية الرسمية يدرك تماما مفصلية اللحظة التي تمر بها الآن، فقد فقدت شيئاً فشيئاً كثيراً من رأسمالها التاريخي الممتد لقرون في ذاكرة الجماعة المصرية، خاصة وهي قد نزلت إلى وحل السياسة حتى أعلى ذقنها ، وأصبحت سيرة المفتي أو شيخ الأزهر أو وزير الأوقاف في الذهنية الشعبية مرتبطة بموالاة شروط السلطة السياسية وتكييف التشريع الديني كغطاء للكثير من خطايا النظام. وليس بعيداً عن ذلك فتوى شيخ الأزهر بعدم مشروعية الامتناع عن التصويت على التعديلات الدستورية الأخيرة والتي وصف من يقاطعها بكاتم الشهادة مؤثماً قلبه. هذا من جهة، بينما من جهة أخرى تنحو العلاقة بين المرجعية الدينية وجمهورها الشعبي إلى أن تتحول إلى حالة اكثر فردية لا تعتمد على رسوخ مؤسسة بحجم الأزهر. فعوام المسلمين يستمدون تشريعهم الآن إما عبر برامج الفتوى الفضائية، أو عبر سؤال أقرب إمام مسجد أو أي زي لحية موثوق الجانب. تنحو العلاقة أكثر إلى تبسيط يخضعها لمنطق ( سؤال وجواب شاف)، خاصة وقد اكتسب الوعي الجمعي الديني صبغة تشظية تفاصيل الحياة الدقيقة تحت مجهر التحليل والتحريم، وهو المجهر الذي لا يتطلب إطناباً ولغوا وفصاحة أهل العمائم الذين يبحرون داخل كتب الفقه مدللين في أحكامهم جوازاً أو قبولاً أو رفضا بين بحور مذاهب أربعة، فيما المستفسر عن شأن دنيوي يبحث ببساطة عن إجابة الحرام والحلال، وفيما تحاول المؤسسة الدينية النزول إلى معترك التنافس على رأس مالها المعرفي والوظيفي، تنافس شريحة واسعة ممن أصبح الدين تجارة لهم منافسة متأخرة، تنافس على أرضية ملعب جري تأميم نتائجه قبل بداية المباراة، حيث أنتج هوس التدين الشكلي دعاته ومنتجي خطابه المتماثلين في الخيال مع ما يقتضيه العصر من تواصل مع المعارف الحديثة (حتى لو اصطبغ ذلك التواصل شكلانية برجماتية محببة في الملبس واستخدام التقنيات الحديثة كالنت والموبايل). ولنتأمل نموذجاً تحليلياً فيما حدث مع فتوى إرضاع الكبير حيث من الواضح أن سائلها كان يحاول البحث عن سؤال صعب، وهو هل يصح ان تختلي امرأة برجل في مكان العمل. وربما كان ما يريده تحديدا تهدئة مخاوفه على زوجته أو الاستدلال بحرمانية ذلك مبرراً منعها عن العمل، لكنه سأل في المكان الخطأ والشخص الخطأ. الدكتور عزت عطية كانت ستسجل عليه لو استعمل فقه الفضائيات الذي يحرم النزول إلى العمل ومخالطة النساء. لذلك لم يجد حلا إلا الإبحار في ما يضمنه من مراجع وأمات الكتب للاستدلال على إمكان وجود خلوة مع رجل في الحلال.أبحر الرجل خوفاً من أن تسجل على الأزهر سابقة تحريم عمل المرأة فاصطدم بقاع النصوص وأخرج من ظلال الأحكام حكمه الفقهي الذي هو باستدلال بسيط شرعي، لكنه لايناسب لا الحالة ولا الزمان الحالي، ويداوي هاجس وهلاوس التخوين الجنسي بنفس المادة العضوية المستمدة منها، فلكي يصح قياساً اجتماع رجل وامرأة لابد أن تحرم عليه جنسياً. والإرضاع يضع الرجل في محل التحريم ومن ثم على كل إمرأة تختلي برجال أن ترضعهم خمس رضعات مشبعات. ببساطة لو مال المتسائل على جار متدين لحرم له الأمر من بابه، وحرم عمل المرأة وانتهى الأمر. لكنه ذهب إلى الموثوق بهم ـ أي رجال الأزهر ـ فأصاب المجتمع بالصدمة والنساء تحديدا بمداراة الخجل من تلصص عيون الرجال على أثدائهن المشتهاة، وهكذا سيدخل الأزهر حقل ألغام محاولة تطويع جمود اجتهاده في النصوص في مواجهة سوق جائع إلى المطابقة بين حياة جماهيره وأحكام الشرع.أما عن الشيخ علي جمعة مفتي الجمهورية فقد إستسلم على ما يبدو لمحاججة فقهية مكانها الطبيعي بين شيوخ الأزهر وهي لاتهم عموم المسلمين في شيء، وذلك حين اضطر للإجابة على سؤال لامبرر له إلا في قاعات الدرس، مستخرجاً هو الآخر قياس فقهي أكاد أشك في جدواه وفي مراجعه، فما فائدة المسلمين الآن من إذا كان بول الرسول يصلح للتبرك أم لا؟ وعند أي حد لابد ان يقف المفتي والمشرع عند معني وجوهر السؤال المطلوب الإجابة عليه؟ هل هو مطالب بالإجابة عن كل شيء وعلى أي شيء؟ وماهي قيمة الفقه إذا ما وصل إلى مرحلة الإفرازات من بول أو لبن؟ الإجابة واضحة، فلا سقف واضحاً لحجم المعرفة التي باتت تدخل حياة المسلم يوما تلو الآخر، ولا سقف لمعرفة الله ووظيفة الجميع من مؤسسة دينية رسمية إلى فقهاء الأرصفة هي محاولة وضع كل ما هو مفتوح باتساع في الأول تحت سقف المعرفة الإلهية وإلا فقدوا رأسمالهم الوحيد الذي يضمن للجميع حياة إسلامية سليمة لأربع وعشرين ساعة في الأربع والعشرين ساعة، وما اصعبها من مهمة.