سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الاثنين، مايو ٢٨، ٢٠٠٧

عن الربيع الذي كثيرا ما فارق مواقيته


كنت تحبه ، لا داعي أن تمحو كل هذه السنوات بضربة قلم واحدة ، عفوا ببعض العرق المنهمر كسياط لاهبة لم تراع ملابسك الثقيلة ، لكن ما جدوي الإعتراف المتأخر بمحبة الربيع الذي ما عاد ربيعا ، هل كنت يوما مسؤولا عن إختيار اللحظة المناسبة لكي تقول بدأ ربيع ما ، لا ، كانت أمك بلهجة من تنتظر إلهاما إلهي ترفض أن تنهي موسم الشتاء قبل الزيارة الإسبوعية لجدك حيث بمعاينتاها وجها لوجه لون ملابسه الميرية تتأكد أن الضباط قد خلعوا الأسود ولبسوا أبيض الصيف ، جدك المتفاخر بزمن حراسته الملكية لبوابات قصر عابدين والذي دفن طموحه في ترقي ملكي تحت غبار بدروم الأرشيف بإدارة مرور القاهرة المركزي بالدراسة ، كان الجد النازح من وادي حلفا السودانية قد أكتسب جلده الأسمر المدبوغ قابلية كسولة للتكيف مع التغيرات المناخية ، لذا كنت وانا طفل أخاله يتعمد أن يكون آخر من يبدل ألوان ملابسه كل إنقلابين ، وكانت بوصلة أمي المناخية بذلك تتأخر عمدا حتي لو رأت بأم عينها تبدل ملابس رجال الشرطة في إشارات المرور التي كنا نمر عليها ،والنتيجة أننا الأطفال المدكوكين بملابس الشتاء الإلزامية ونحو طاقمين داخليين نرزخ تحت العرق فيما زملاء الحي قدبانت اذرعهم البضة أخيرا بعد حبسة الشتاء الطويلة ، كانت الفصول إذن لاتضم الإعتدالان الشهيران ، الربيع والخريف ، وكان مظهرنا متسربلين إما بملابس مضاعفة أو أقل من اللازم – ربيعا ثم خريفا – يداري فقرا طبيعيا لتنويعات الثياب المناسبة للإعتدالين ، البلوفرات الخفيفة المناسبة كي تحاوط الأكتاف علي طريقة أحمد رمزي في فيلم " أيامنا الحلوة " ربيعا ، والقمصان الثقيلة الجاكتية الإحساس حين يتغول إحساس الخريف بالشتاء نهايات شهر أكتوبر ، أمي من جهتها كانت لديها الحجة المنطقية الوحيدة لفلسفة هذا العوز بكثير من الرحمة ، حين كانت تفسر هذا الترحيل الزمني في إرتداء الملابس المناسبة بخشيتها علينا من الإصابة بنزلات البرد ، الأخيرة كانت بعبع الطفولة مع وراثة متجذرة لقلة المقاومة الطبيعية من جهة أبي ، لذا إختارت امي عبر تاريخ طفولتنا ميعاد الإحتفال بشم النسيم – عيد مصري فرعوني شعبي – كبداية للتسويف والمط في موعد خلعنا لملابس الشتاء ، ملابس الشتاء الحقيرة التي كانت بفضل ندرتها وجبرية دورتها الطويلة للبقاء علي أجسادنا مظهرا خفيا للفقر رغم ما تدعيه امي من أن " الشتاء سترة "، حيث يزداد الإهتمام بالمعيار الكمي – درجة الدفء التي توفرها الملابس – علي المعيار الكيفي – درجة مناسبتها للذوق والموضة – فيما كانت تعدد مزايا تلك الملابس الشتوية التي تقلل من جهة أخري حجم الغسلات المتوقعة لقطع الملابس ، فالجاكيت مثلا لا يغسل من الشتاء إلي الشتاء والبلوفرات تتحمل عرق شهر علي الأقل وهو ما يعني عدم إضطرارها للغسيل إلا مرة كل اسبوعين للملابس القطنية و مرةشهريا للبلوفرات ، مع ما يعنيه الغسيل من يوم عمل إضافي لطفولتنا التي تعاملت فيها امي حتي لما قبل العشرينات علي اننا – انا وأخي الأصغر- فتيات البيت المساعدات ، كانت امي لا تعترف بالإعتدالين فاورثتنا طابعا إنقلابيا منضبط البوصلة علي التطرفات ، رغم أن الربيع ايام قرارات امي السادية كان ربيعا بحق ، كان ربيعا جديرا بأغنية سعاد حسني الشهيرة ، حتي مع الأخذ في الإعتبار موجات الخماسين الغادرة التي كانت تحيل نهارتنا إلي اصفر الكتكوت المفترس ، كان أتربة الصحراء التي تجبر شبابيكنا علي الإنغلاق رغم الحر الشديد فاصل قصير أيا كان عنفها ، حتي اليوم التي أظلمت فيه السماء في عز الظهر وراحت أمي تحسبن وتحوقل مخافة ان يكون يوم القيامة قد ازف دون إستعداد ، كان ذلك منذ نحو عشر سنوات عندما أبتليت مصر بنوبة من الكوارث المناخية المتتالية ، نوبتان من السيول المدمرة التي إقتنصت الفقراء في مقتل في صعيد مصر وسدت طرقات القاهرة ، علي خلفية غضب الطبيعة بعد الفصل الأول المتمثل في زلزال 1992،ثم اليوم الأسود الذي اظلمت فيه السماء في تمام الثانية ظهرا مستدعيا في القريحة الشعبية أنواع من الصلوات والأدعية الجديدة لدي أبناء الديانتان ، عمقت أغدار الطبيعة علي مايبدو من فلسفة امي المتشككة في الطقس فدخلت طوعيا عصر الأكمام الأبدية خاصة مع امراض التقدم في العمر ، في حين ومع إرتخاء القبضة الأمومية والأبوية حققت أحلامي أخيرا في إحتفاء متأخر بالخروج من الشتاء ، كنت قد إستقللت ماديا في سن مبكر وخرجت طوعيا من زمن الكساء الشعبي الإجباري ، حيث عرفت طريق وكالة البلح – سوق الملابس المستعملة المستوردة – والذي أدخلني فجأة في مفارقة زمنية مناخية اخري ، فملابس البالة الأوروبية تراهن علي تطرفات مناخية وفاشونية تنتج من مريدها شخصية خارجة لتوها من السيرك القومي ، ملابس مبهرجة الألوان لا تتماش مع الخطة اللونية للفراغ البصري المصري ، وكانك فجأة قد خرجت من فيلم فرنسي ملون لتدخل في مشاهد فيلم بالأبيض والأسود ،خلفيات تتدرج لونيا بين الرمادي و الأصفر المغبر والبيج المنمحي والأبيض المقرح، باليتة لونية يعلم التلوث وحده عبقرية معادلات المزج بينها ، إستطاعت الطفرة الخارجة عن مسار الخطة اللونية علي الأقل ان توفر ذلك الميكس بين قطع الملابس ، القميص المبطن الثقيل مع الجيليه الصوفي بلا أكمام مناسب لإفتتاحية خريفية تمزج بين صباحات حارة ومساءات ذات لسعة باردة ، وبينما يصلح التعديل إما بخلع الجيليه مستقرا علي الكتف وتشمير الأكمام للصباحات الحاملة لرطوبة صيف طويل فيما الفول أوبشن للمزيج يسمح ليلا بدفء نسبي ، غير ما سيدته ثقافة الوكالة فجأة من ثورة الفاسكوز الإيطالي ، وهي الثورة التي وصلت مداها الذوقي بداية التسعينات ، كان الفاسكوز قد إنتشر كلمعة إضافية مبهرة مع شيوع موديل من جواكت البدل الفردية ذات الثلاثة أذرار، حيث أنتشر ذلك الموديل من الجواكت المبهرجة الألوان والتي تبطن ببطانة من قماش الفاسكوز ، وإقتضت موضة هذا الموديل أن تشمر الأكمان علي الأقل في ثنية واحدة تكشف البطانة المزكرشة والتي تفنن فنانو وممثلي تلك الفترة في إختيارها من تطرفات الألوان ذات اللمعة – إطلالة سريعة علي أفلام تلك المرحلة وبدايات الفيديو كليب نهايات الثمانينيات كفيلة بإكتشاف ذلك العار الموضاوي- لينفتح من بعدها عصر الفاسكوز كقميص وحد بين الطبقات والشرائح الإجتماعية ،و كعلامة إضلفية علي إنهيار عصر العلاقة التاريخية بين المصريين ونباتهم الأثير الطبيعي ( القطن ) ، كان الفاسكوز الحقيقي منه والذي يشبه الحرير والتقليد المكون من أردأ انواع البوليستر بداية لدخول الجسد المصري صوبة الإستدفاء الطبيعي ، حيث كان يشكل بالإنعزال الحراري الذي يمثله تكيف مشوها مع هيستريا المناخ المصري ، واقصد تحديدا المناخ لا الطقس، حيث دخلت الفصول المناخية حالة من الإرتباك الذي عمق من تضاربات المصري مع جسده ، بت شخصيا لا استطيع التنبؤ – مثلي مثل ملايين ومن قبلنا هيئة الرصاد الجوية المصرية- لا فقط بإحتمالات الطقس من يوم لآخر بل بإحتمالاته من ساعة لأخري خلال نفس اليوم ، ويزداد هذا الإرتباك تحديدا في الإعتدالان الشهيران ، حيث يبدو المصريون في شوارع القاهرة وكأنهم مسافرون وصلوا فجأة إلي صالة إحدي المطارت ولم يحتسبوا لنقلة المناخ المتوقعة ، بلوفرات علي قمصان علي تي شيرتات فاتحة قصيرة الأكمام وكثير من الجواكت الثقيلة ، فتيات يرتدين قمصانا قصيرة الأكمام يجاورن ملتحفات بالنقاب الأسود في عز الظهر ، رجال يبدو إستعدادهم لغدر المساء البارد مبالغا فيه أمام فتوة شباب كشفت سواعدهم عن درجات لونية خارجة لتوها من أغطية الشتاء ، وحدهم القادرون علي تكييف مساراتهم اليومية بين مكيف السيارة ومكيف العمل ومكيف المنزل من يستطيعون الإستمتاع بربيع إفتراضي دائم ،فالجميع يعلم ان لا الشتاء أصبح شتاءا ولا الصيف اصبح صيفا ، تمر سنة احيانا لا تعرف فيها القاهرة زخة مطر واحدة فيما تعيش نيران ستة أشهر من الصيف المتأجج، وهم يكررون حكمة دامغة لا ينفكون يمضغونها دون تفكير فيها ، الشتاء هذا العام لا يوصف في برودته ، أو أن حر هذا الصيف لم يحدث من قبل ، وكأنهم من عام إلي آخر أو من فصل إلي آخر يتحسرون علي ما مضي ، وكأنهم بمعني آخر ينفخون في مناخاتهم بعضا من الصبر الذي يبدو لا نهائيا ، يستعر بنيران صبر جديد لا أكثر ، يجد ممداده اللآنهائي في معية من ينتظرون الأسؤ دائما ، حتي لو كسرت مرارة الصبر نسمة طرية عابرة ، حتي لو اسفر هذا الربيع عن لون بمبي مؤقت تمنته سعاد وماتت دون أن تراه ولو مرة واحدة ، حتي لو اعلنتها وحدك ، أنك ما عدت تري ربيعا طويلا أو قصيرا في القاهرة..