سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الثلاثاء، يناير ٣٠، ٢٠٠٧

النواطير وذئبنة الراعي في المراعي



النواطير وذئبنة الراعي في المراعي
هاني درويش



في أحد مشاهد الفيلم البرازيلي " مدينة الرب" الحائز علي جائزة أوسكار أحسن فيلم وثائقي يسأل المحاور فتي ملثم من أعضاء عصابات المخدرات في أشهر أحياء مدنة سان باولو عن إحساسه في مواجهة شرطي من قوات مكافحة المخدرات المشهورة بفرق الموت ، يبتسم الفتي ويقول " سأقتله وأشعل فيه النار وأنا أدخن سيجارة" هكذا يعبر الطفل عن موقفه النفسي من شرطي يعلم تماما ان خياله الإنتقامي منه قابل للتحقق ، بل ويعلم في سياق صدام الأخيلة أن ضحيته المتخيلة لن تتورع في فعل نفس الشئ به إذا ما إنعكس الوضع ، فالفيلم فيما قبل هذا المشهد وبعده يكرس للآنهائية ميراث الثأر التي تغلف علاقة فقراء ذلك الحي الذي إختار الفيلم تسميته منه وبين رجال الشرطة ، فالحرب بينهما كانت قد إكتسبت فيما هي تتدحرج ككرة النار في هشيم الفقر والمهانة والفساد بعدا فنتازيا حاول الفيلم التستر عليه بموضوعية التعامل الوثائقي لمثل هذه الموضوعات ، أتذكر هذه الحرب فيما أتأمل متتابعات صحفية عديدة ومشاهد تلفزيونية وكليبات سيبرية عن مجموعة من الأحداث التي تؤرخ لبدايات مثل هذه الشرارة من النيران في مصر ، فغير بعيد عن المتابعين تأمل سياقات الإحتجاجات الفردية والشبه جماعية ضد سلطات الشرطة المستفحلة التوحش في الفنرة الأخيرة ، ربما يري البعض فارقا ضخما بين مارصده الفيلم البرازيلي وبين حالات حتي هذه اللحظة لا تعدو مجرد إحتقانات لا ترقي إلي مستوي الظاهرة ، لكن إجابة سائق التاكسي علي سؤال حول علاقته بضباط الشرطة والتي لخصها في جملة " يارب الإرهاب يرجع عشان ينتقم لينا منهم " ربما ترسخ لذلك الإحتقان العنيف ، وليس أكثر من حادثة الأسبوع الماضي دلالة علي ذلك ، حين تفجرت إحتجاجات عنيفية بقرية تابعة لمركز العياط – ضاحية ريفية جنوب الجيزة – علي أثر بداية تركيب محطة تقوية لإحدي شركات المحمول فوق أحد منازلهم ، تصاعد الإحتجاج فما كان من الشرطة التي تحركت في غيبة لأي إحساس بالعقل إلي محاصرة القرية ُثم إقتحامها بجحافل الأمن المركزي موقعا قتيل وعشرات الجرحي ، الأزمة أن الشرطة تحركت لحل خلاف كان أولي به إجراءات قانونية لجهات أخري ، وهي تحركت هذه المرة لصالح تنفيذ مصالح شركة محمول في مواجهة قرية بأكملها ، أو بمعني أدق تحركت العصا فيما يتجاوز حدود إستخداماتها السياسية المتفق عليها لتصبح ببساطة عصا مستأجرة لمصالح كارتيلات إقتصادية تستمتع هي الأخري بقدرتها علي تحريك العصا وقت ما تشاء ، وللأزمة وجه آخر وهو أهالي القرية الذين لم ترهبهم عربات الأمن المركزي عن الدفاع عن حقوقهم حتي مع سقوط ضحايا ، ففي تقرير أذاعه برنامج العاشرة مساءا علي شاشة دريم الفضائية ورغم بكاء أقارب الضحايا أما المستشفي بدي في عيون المتماسكين منهم تلك النظرة – وإن خلت من إبتسامة –لفتي سان بولو ، هذا المشهد لا يكرس فقط إلي حالة سلطة إنفلت عقال قمعها عن حدوده فبات يخشي فعليا ورمزيا من أي تجمهر محبذا العصا علي التفاهمات أو محاولة الإلتفاف – وما أكثره وما أكثر ما قبله المصريون منه في تاريخ تحايلاتهم مع السلطة - ، إنما يكرس أيضا الممارسة الممنهجة للعنف في علاقة الشرطة المواطن والتي غالبا ماتحولت إلي علاقة تميز أداء الترهيب اليومي لحملة الضبابير – أبو ضبورة إسم ضابط نشرته جريدة المصري اليوم لأحد أباطرة التعذيب في منطقة شعبية بالقاهرة – وتتواكب مع جرأة للصحافة والإعلام في تغطية تلك الأحداث في وقت تزايدت فيها الظاهرة بشكل ملفت للإنتباه ، وهي الجرأة التي لا تحسب كنتاج هامش ديمقراطي بات يتسع بقدر ماتحسب للتنامي الغير قابل للإنكار لإنفلات الممارسات الأمنية بشكل غير مسبوق ، ولعل الفساد المتنامي داخل تلك الأجهزة التي كثيرا ما تخفت في ممارسلتها العنيفة في تخصص لبعض إداراتها ، حيث إنفرطت تلك الممارسات لتشمل أي علاقة تجمع مواطن بذوي الملابس السوداء ، فإذا ما ترافق ذلك مع عدم إحترام أخلاقي لتلك الأجهزة بعد أت صعدت من ممارستها الفاسدة في الجباية المالية في بعض المواقع ( تحديدا شرطة المرور سيئة الصيت ) وإندماج الشرائح العليا من تلك الأجهزة في شبكات الفساد المجتمعية التقليدية ( مع رجال الأعمال واصحاب رؤوس الأموال ) وتحلل تلك الرهبة الطبقية التي كثيرا ما حمت أجهزة الشرطة من تشكيك أعدائها في نزاهتها ، فقد بات التشكيك في نزاهة أجهزة الشرطة المترافق مع غباءها المستشري في كافة قطاعتها مثار تندر شرائح كل لمجتمع ، خاصة إذا ما وضع في الإعتبار تنامي ظاهرة جديدة في سلوك تلك الأجهزة يمكن تسميتها بسيولة المعايير القمعية ، فقد عرفت تلك الأجهزة لفترة طويلة حدود إستخدامها لبطشها ، حين راعت طبقية قمعها ، حيث كان مشهد تجاوزها الفاسد لتجاوزات شرائح إقتصادية عليا قانونا للتواطؤ مع تلك الطبقات ، شرائح إحتمت هي الأخري بنفوذها السياسي والطبقي باتت هي الأخري تحت وطأة الترهيب الوحشي والعشوائي للشرطة ، عشرات الحوادث في السنوات الأخيرة تكرس هذه السيولة ، قتل أبن سفير في حي السفارات ( جاردن سيتي ) بحجة الإشتباه ، أو حادثة عماد متعب لاعب المنتخب القومي في منطقة صلاح سالم ، وليس أدل علي ذلك من سحل قاضي خلال إعتصامات القضاة ومشهد الإعتداء الفاحش علس صحفيات أما سلم نقابة الصحفيين ، وهنا لا تفرقة واضحة في معايير القمع بين صوت معارض من داخل تلك الشرائح ،وبين الإعتداء علي مرشد سياحي مثلا في أحد كمائن طريق الغردقة أمام زوجته ، لا فارق بينه وبين عماد الكبير سائق الميكروباص وصاحب فضيحة الإغتصاب الشهيرة التي تحقق فيها النيابة المصرية الآن ، الفارق الوحيد هوبالطبع في درجة وحشية الممارسة القمعية ، الشرطة إستطاعت في الأعوام الأخيرة توسيع سجل عدائها المجتمعي حتي مع الشرائح المنتجة لخطاب ومبرر القمع ، وهو النتاج الطبيعي لتنازع الإرادات والمزايا ، فحين تتورط آلة قمع عمومية ومسيسة في كل خلاف بيني داخل كل شرائح المجتمع بمعايير مزدوجة تجعل حتي من أدني أفرادها ملكا متوجا في سياقه القمعي ، عندما تتحول أداة القمع إلي وسيلة إبتزاز في أي خلاف بين أي طرفين ويصبح فارق الرتبة العسكرية المستجلبة لحسم الخلاف هو الحاسم ، كل ذلك يدفع بجهاز الأمن إلي سطح المجتمع الخشن ، حيث يتحول دون أن يدري مبتكري إيدولوجيته إلي وسيط قمعي فاقد لدوره المركزي ، دوره المتلخص في حماية طبقة في مواجهة طبقات ، ويدفع الشرطة نفسها لتبؤ مكانة الطبقة الإجتماعية ذات الوظيفة الخدمية ،في ذات الساق يمكن تأمل مشهد إنتحار أحد جنود الأمن المركزي بإطلاق النار علي نفسه بعد تعرضه لإهانة عنيفة من ضابطه وهو المشهد الذي بات متكررا داخل تلك الشريحة الدنيا في أسفل السلك القمعي للجهاز ، وبالعودة إلي مسار التقييم المجتمعي لأداء اجهزة الأمن يبدو أن تجييش الفضاء المدني بالعسكرة – راجع مقالة سابقة للكاتب بعنوان العسكرة من أعلي ومن أسفل – فيما أتي بثماره الوظيفية في أمنجة النظام المدني والإداري بكوادر علي المعاش من الجيش والشرطة تولوا مناصب مدنية داخل الدولة وفي المؤسسات الخاصة ، فإنه أدي إلي خروج تلك الطبقة أخيرا لفضاء مفتوح تتصارع فيه هي الأخري مع قوي مجتمعية فأنزلها ذلك من علياء بدت فيه أقرب إلي الطبقة المحمية بالغموض، وربما يبدو ذلك التقييم المجتمعي لأداء النظام الأمني هو ما جعل من مشهد حرق قسم المنتوه في كليب موقع يو تيوب غير مدهش لكثيرين ، فكما هو معروف ان سياقات التمردات الشعبية والفردية من أند الظواهر في مجال البحث الساسي خاصة مع الإعتقاد الشائع بأن لا شيئ يتغير في مصر إلا ان متتالية الأحداث في العامين الماضيين تؤكد عكس ذلك ، ولا يعني هذا التنبؤ المفارق ببلورة تلك الإحتجاجات في شكل هبة منظمة ، بل يعني أكثر ما يعني تحول في المزاج الإحتجاجي نحو عدم الخوف من الشرطة ، أينعم لا زال الخوف مسيطرا علي قطاعات لابأس بها من الطبقات الشعبية ، إلا أن العين أصبحت لأول مرة قادرة علي إدامة النظر في وجه قامعها وتأمله إنتظارا ليوم هو آت لا محالة سيقف فيه المقموع ليشرب سيجارة فيما يشرع في إشعال النار في عدوه.