سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الأحد، ديسمبر ٠٣، ٢٠٠٦

حكمة سبعة آلاف عام... كل شيء هادئ على الجبهة المصرية

ثلاثة مشاهد متتالية تداخلت فيها الظنون والتأويلات لما يمكن تسميته بتحول العلامات الدالة على مستقبل مصر السياسي. ثلاثة مشاهد رئاسية تعرضت لتأويل مفرط من النخب الساسية في ما يمكن أن تعنيه هذه المشاهد في تواتر زمنها وتتابع إيقاعها ومنبت حدثها. فغير بعيد عن إدراك الجميع ضبابية ما يحدث خلف الكواليس المعتمة للقصر الرئاسي فيما يتعلق بسيناريوهات المرحلة المقبلة، مصر في ديمومة متصلة من الصراخ والدويّ تحت شائعة التوريث فيما يزيد عن العام. إذا ما أطل فجأة السيد جمال مبارك على التلفزيون علت نسبة التوريث المباشر في لوتارية الوطن. يفرد للمشهد مدبجو المقالات كثيراً من التحليل، ويتصاعد في المناخ سعار المعارضة التي جعلت من النضال ضد التوريث سقفاً غير مرئي لبرنامجها السياسي، دون أن تدري تلك المعارضة الخجولة الكيف والكم أن ذلك السقف الذي إرتضته مرمى لنيرانها قابل هو الآخر للتضييق أو التوسيع وفقا لردة فعلها المحكوم علّها مسبقا بالتشنج. وكأن هناك ثمة حكمة مستترة تجعل من قضية التوريث قنبلة دخان يدفع بها النظام في وجه معارضيه شيئاً فشيئاً كلما ضاق مناخ الأزمة عن إكتشاف ملامح للمستقبل. المعارضون في ذلك أقرب لكورس صاخب يضج بالصراخ أمام جمهور أصم وأبكم يمثله الشعب المصري الغافل عن كل شيء عدا معجزته اليومية المتمثلة في البقاء حياً. ومع تنامي التأويلات لكل شاردة أو واردة تخرج من تحركات الترويكا الرئاسية، يبقي الرئيس مبارك كعادته، ووفقا لتلقائية أدائه، أكبر الموضوعات القابلة للتحليل في مناخ ندرة الحدث القابل للتأويل.
يتحدث الجميع سراً عن صراع فوقي تحتي تمور به الرئاسة المصرية، صراع يمثل فيه الرئيس بمجموعة عمله القديمة والتقليدية جبهة مقاومة لسيناريوهات الأبن ومن خلفه الأم للتوريث، فيما تمتد خلف القطب الأسري الثاني مجموعة لجنة السياسات الشهيرة برجال السيد جمال مبارك، ويختفي من قلب الصراع عامل مستتر تقديره المؤسسة العسكرية التي تدعم بشكل أو بآخر بقاء الحال في يد السيد الرئيس الذي، وإن إكتسب بعداً مدنياً بطول فترة الحكم، إلا أنه يمثل بقايا اللعبة التقليدية لعلاقة المؤسسة الهامة بملف الحكم منذ ثورة يوليو التي أدخلت العسكر لأول مرة لعبة السياسة. البعض يتحدث عن أن تفجر أصوات المعارضة بجعير لا "للتوريث" هو ابن طبيعي لدعم قطاع لابأس به من المؤسسة العسكرية لرفض السيناريو بالتوريث المباشر، بل إن البعض يرى في هجمة الصحف المستقلة التي بنت جمهورها على خلفية حدث التوريث فعلاً إرتدادياً شنته وسمحت به المؤسسة العسكرية وربما تشرف علّه وذلك عبر تسريب الأخبار وتنظيم الحملات ضد مشروع السيد جمال مبارك. ولم يخف الرئيس مبارك نفسه في أكثر من مناسبة دهشته من عبث تلك الإشاعة الخاصة بالتوريث. نفاها أكثر من مرة وبشكل علني ومباشر، ثم تعود الهوجة مع كل إزدياد في مجال حركة الأبن جمال مبارك داخل الحزب أو في مستوى تمثيله السياسي والذي كثيراً ما يتجاوز بروتوكولياً حجمه التنظيمي في الحزب الحاكم.
ولنعد إلى المشاهد الثلاثة الأخيرة والتي أعلت من حمّى التفسيرات. فقد سبقها جميعاً ولفترة طويلة إحتجاب للرئيس عن الظهور العام إلا في مناسبات قليلة، وهو ما أعطي إحساساً عاماً بإنسحابه التدريجي. غاب الرئيس عن فاعليات كثيرة عنونت لزمن بإسمه وبات ظهوره شحيحاً، وهو ما رفع سقف التكهنات بقرب فاعليات التوريث المباشر. ثم عاد خلال عشرة أيام وبعد جولة خارجية لامست أقطاب المعمورة في طولها وثقلها السياسي بزيارة موسكو وبكين. عاد للظهور في إفتتاح الدورة البرلمانية الجديدة لمجلس الشعب بكل حضوره الواثق. مظهره البادي الصحة وعنفوان كلمته الإفتتاحية ومضمونها الجديد جعلت الحديث الهامس عن التوريث من عدمه في خبر كان. قالها الرئيس واضحاً وبمضمون لم تفلح إستعاريته البسيطة في التغطية عن معناه الأهم، قالها: سأبقى قائداً للوطن طالما بقي في القلب نبض وفي الصدر نفس، وهي الجملة التي إستحقت تصفيقاً مدوياً وإستثنائياً جاوز الخمس دقائق وتبعتها مناشدات مسرحية من النواب بالتكرار، فيما وحد التصفيق لأول مرة بين نواب الحزب الوطني الحاكم وهامش غير قليل من جماعة الإخوان المسلمين.
التصفيق لم يكن بروتوكولياً كعادته ـ في العادة تستجلب كلمات الرئيس تصفيقاً محسوباً وهتافات تعبوية غالبا ما يواجهها الرئيس بتعليق طريف من خارج كلمته الرسمية ـ وهو الأمر الذي فسرته صحيفة "المصري اليوم" في صدر صفحتها الأولى بأنه تصفيق شامت في وجه سيناريو التوريث، وإستتبع ذلك طوفان من الأعمدة الصحافية المحللة لما بين الكلمات من معان، وهلل البعض لإنقشاع الضباب التوريثي أخيراً بنص واضح وصريح، وهو الأمر الذي دفع ميلشيات الصحافة المحسوبة على لجنة السياسات ممثلة في جريدة "روز اليوسف" اليومية إلي توجيه الإتهامات الصريحة للصحف المستقلة بسوء تأويل كلمات الرئيس. إلا أن الرئيس عاد بشكل مفاجئ في إطلالة تلفزيونية بإحدى زياراته غير المتوقعة مرتدياً حلة رياضية في أحد أماكن التدريب على رياضة الجودو، وهي الإطلالة التي اعتبرها البعض مشهداً جديداً ونشاطاً ذا معنى خاص بعد فترة الغياب الطويلة، ثم اتبعها بزيارة لمؤسسة الأهرام دعماً لقياداتها الرسمية المحسوبة عليه في إشارة لتعضيد أسامة سرايا رئيس تحريرها الأقرب إليه في قيادات الصحافة القومية الحالية، وهي الزيارة التي ربما تحسم حربا دائرة بين جناحه في المؤسسة وجناح محسوب على جمال مبارك يتنافسان على قيادة المؤسسة التي تمثل دعامة للنظام السياسي في مصر منذ ما يزيد على النصف قرن. لم تكن هناك مناسبة للزيارة قد اخترع لها طاقم الأهرام مناسبة مرور 130 عاماً على صدور العدد الأول للجريدة. وما ظهر من الزيارة التي تمت لمقر الجريدة بمدينة 6 أكتوبر يؤكد بارتجال معرضها، وتركيز الرئيس على مقابلة جيل معين وأشخاص يدينون بالولاء له، ان الزيارة كانت لتشجيع مجموعته لاأكثر، ثلاثة مشاهد متوقع لها التضاعف في الفترة القادمة لتأكيد دعائم ما قرأه الناس في كلمة الرئيس أمام البرلمان، ومحصلته في النهاية أنه مهما تضمخ المناخ بالشائعات فلا يزال الرئيس نفسه يتحكم بأكثر من 99% من أوراق اللعبة السياسية، وهي اللعبة التي ما زال هامشها ومتنها محدودي الخيال بسؤال افتراضي لا يمكن تجاوزه: من هو الرئيس القادم لمصر؟ سؤال أجل الرئيس حسمه بإحالته على الدفع البيولوجي، والذي يبدو أكثر السيناريوهات توقعا في ظل إنعدام المفاجآت عن مصر منذ سبعة آلاف عام.