سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الجمعة، ديسمبر ٠١، ٢٠٠٦

حرب بعيدة تسمح برقصة أخيرة على قدم واحدة




شهر وخمسة أيام مرت على لبنان بزمن مضغوط وكثيف. الحرب هذه المرة كان لها إيقاعها الخاص وزمنها الخاص، زمنها الحقيقي الممطوط لملايين أصبحت السماء بالنسبة لهم موطناً مفاجئاً لموت ربما ينساهم هذه المرة. لكن ليست هناك اي ضمانة أن يكرر الموت نسيانه. زمن الحرب النفسي أقسى كثيراً من زمنها الفيزيقي، والمسافة عنها، لها بعداها النفسي والفيزيقي، زمنها المنصرم سريعا في أحد شوارع القاهرة الضجرة من حرارة الصيف ومن انتهازية حكومة نظيف التي كوت الجميع بارتفاع الأسعار في عز سعار الحرب على لبنان. ربما يختلف زمن الحرب تلك عن زمنها في إحدى حارات مراكش التي لن تخرج لحظة من بين جنباتها القشيبة في انتظار موسم سياحة واعد في تظاهرة من أجل بيروت البعيدة. حتى القاهرة الأقرب فيزيقياً التفت كعادتها لتحول الحرب الدائرة إلى شأن مصري صميم، في مصر التي كان زمنها الخاص يعاني من رتابة نهاية متوقعة لفاعلية سياسية استمرت لمدة عامين سميت بالحراك السياسي الكاذب. كان الإيقاع يتجه نحو تجميد جديد لزمن تفاعلاتها الصاخبة. ضجر النظام السياسي ونخب المعارضة من لعبة القط والفأر الشهيرة، وخرج الجميع لاستراحة في فواصل المادة الإعلانية الصيفية. الزمن الذي قذفته الحرب في وجوه المصريين بدا كأنه فاصل من العرض القادم الذي ربما يدفع البعض للانتباه لكنه لن يجبرهم على الجلوس في مقاعدهم مشدوهين إلى الشاشة. هذه الأخيرة تحديداً حملت لهم الحرب على أطباق الستالايت كفاصل جدي بين متابعة لاهية لأفلام الصيف ـ بالمناسبة رغم كل ذلك الضجيج والحرب والدمار ذهب الملايين من المصريين إلى سينمات الصيف وتبرعوا لكتكوت ووش إجرام بآخر ملايين معهم ـ وللنظام السياسي الذي أظهر منذ البداية بيعته الشهيرة لفيلم الموسم عندما حمل مسؤولية ما سيحدث إلى حزب الله. كان هذا النظام يخرج برأسه تماما من خيبة السقوط فيما يزعج إيقاعه الخاص قد حوَّل القضية إلى ركن ضيق حين جذب عيون محالفيه وخصومه إلى حارة ضيقة جداً في حوار الحرب. الجميع جري يولول على الموقف المصري المبكر الذي وجدوه يقدم لبنان على طبق من ذهب إلى إسرائيل. ما لا يعرفه البعض أو يضعونه في حساباتهم أن إسرائيل نفسها لم تضع في حساباتها مواقف مصر والسعودية والأردن حين تحركت لضرب لبنان، وافتراض غير ذلك يراهن على وهم مؤكد بأن هناك ثمة قوى عربية كان لابد لها من استئذانها. إسرائيل ليست في احتياج إلى استشارة كورس عربي هي الأدري بحساباته، حساباته ذات اتجاه واحد وهي حسابات بسيطة جميعنا يعرفها. كل دولة سحبت من هواء الأزمة لهيبها الأقليمي وحولته إلى شأن داخلي، شأن يخص حدودها الحقيقية. النظام المصري حدوده الحقيقية المقلمة والمشذبة بعناية لا تسمح بالتشويش على حجم إنجازه في تجميد درجة الصراع الداخلي عند درجة الموت الأكلينيكي. نخب معارضة مجهدة من موسم سياسي طويل ومحبط أعادها الموقف المصري إلى حلبة الشجار حول دور مصري مفترض، نخب لم تستطع حشد ربع قواها في المظاهرات المعدودة التي حاولت تنظيمها إعتراضا على الحرب. كان ما يحركها ليس حجم المجزرة التلفزيونية المبثوثة مباشرة على فضائية الجزيرة، بل، بالأساس، محاولة كسب نقاط على النظام السياسي. هي معارك القط والفأر التقليدية بين عشرات المتظاهرين الذين لم يحملوا أعلام حركة كفاية هذه المرة بل صور السيد حسن نصرالله يحاصرهم الآف من جنود الأمن المركزي، فيما حركة المرور لم تتعطل هذه المرة فالناس يمصمصون شفاههم من خلف نوافذ الباصات فيما هم يرفعون الدعاء كالعادة على إسرائيل. شارع يتعامل بما هو أقل من البرجماتية إن وجد هذا التصنيف، لم يؤثر حتى فيهم شلوت رفع الأسعار من نظيف. إرتفع سعر البنزين ولم يعترض راكبو الباص إلا على رفع الأجرة وبنصف مقاومة استوعبوا شجاراتهم المملة مع سائق الميكروباص ورضخوا في النهاية. النظام تفرغ هو الآخر إلى سحب الجميع على أرضية نقاشاته المضمحلة سائلاً: هل تريدون أن ندخل في حرب مع إسرائيل، وسؤال كهذا سيشل الجميع عن التفكير للحظة: من منا يريد الحرب؟ أي استطلاع محايد بين المصريين الآن سيثبت أن تشدد النظام المصري على سؤاله يبدو منطقياً لدولة يظهر هرمها السكاني ميلاً واضحاً لأجيال لم تسمع إلا عن السلام.سيكولوجيا، يبدو المصريون أبعد الشعوب الآن عن التفكير في أي معنى يرتبط بقيمة جماعية، مصير جماعة بشرية ضخمة المصالح والاختلافات تفتقد الثقة بأي نقطة إتفاق جمعي. المصريون، وهم يهللون للسيد حسن نصرالله، هم أقرب إلى مَنْ يدفع البلاء عن نفسه. فنضال السيد حسن نصرالله هو التعويض الزائف عن استراتيجية أضعف الإيمان. لن تجد بذلك تناصاً بين شعب ونخبه وسلطته كما تجده لدى المصريين. الجميع يعرف أن التاريخ والجغرافيا تتآكل ليس فقط بحكم متتاليات التأقزم الأقليمي الذي بدت فيه مصر في خضم المعركة الأخيرة، لكن أيضاً بسبب استحالة عودة عجلة التاريخ والجغرافيا إلى الوراء، وما بقي من تلك المهابة أصبح محل تشكيك وتندر. فحتى في بيعة الحرب تأخر الموقف المصري عن مثيله السعودي تأخر خطوة من أراد أن يكون الثاني أو الثالث في الطابور. النخب المصرية المتباينة والمتحاربة على صراع المواقع كانت عيونها جميعاً معلقة على الداخل خلال المأزق اللبناني. وبما أنها نخب صحافية، أي تدير حواراتها بمداد كاتبيها، كان لبنان الحاضر بسمائه المفتوحة وباطن بناياته المتهدمة وعويل أبنائه على الشاشات بعيداً على رغم دمه المسفوح إعلامياً. في ما عدا الوفد المصري الجامع للشامي والمغربي كما يقول المصريون، لم نرَ مبادرة حقيقية من مثقفي مصر أو مجتمعها المدني للذهاب إلى بيروت المحاصرة كما فعل البعض في السبعينات، تحدثوا عن ألف مبادرة وألف قافلة دون أن يصل أحد. الحرب كانت بعيدة وإعلامية وكذلك المواقف والمبادرات. الحرب كانت حاضرة فقط صحافياً. تبادل الجميع، كل من موقعه، التراشق بالمواقف. من أيد السيد حسن نصرالله أيده كفكرة مجردة، ومن دافع عن الموقف الرسمي دافع عما يخص موقعه في السلطة. حتى اليسار نفسه خرجت منه إحدى أكثر النكات السياسية فجاجة. تيار حديث اسمه اليسار الديموقراطي تحدث أحد منظريه عن الأصول الطائفية لحزب الله وموقفه من تصفية كوادر الحركة الشيوعية اللبنانية، وكأنه يجذر بتحليلاته، والتي هي أولى باليسار اللبناني لا باليسار المصري، عداءه لحزب الله. كتب ذلك المنظر الكبير عن حزب الله كفصيل فاشي جهادي وكأن المسطرة التأويلية له تبحث عن موقع في حرب المناظرات الفكرية، أو كأن جماهير حزب الله المصرية الخارجة كالجحافل ستتوجه للمعركة وعليه أن يقدم تحليله الفذ لها. أما آخر الفقرات الكوميدية فكانت الرسالة التي وجهها الزميل حمدي أبو جليل عن ضرورة الاستسلام لإسرائيل إسوة بحضارات بدأت تألقها بعد استسلامها مثل اليابان وألمانيا، وكأن لبنان هو اليابان أو ألمانيا ويملك هو قرار إستسلامها. وفيما بين الكوميديا والكوميديا، انبرت الصحف الرسمية وانبرى كتّابها بالترويج للرواية الإسرائيلية عن تهديد حزب الله وكأنهم خبراء بالإيباك، في حين والى من والى السيد حسن نصرالله على طريقة عنوان سوقي لصحيفة الدستور المستقلة التي ابتذلت القضية لمستوى النكات الشعبية حين عنونت عددها بمطلع نكتة شهيرة على لسان السيد حسن نصرالله: آه يا منطقة ما فكيش راجل، وهو العنوان الذي على ما يبدو طور به الرئيس بشار الأسد خطابه لاحقاً عندما تحدث عن أنصاف الرجال. بإختصار بقي الزمن النفسي للحرب خارج لبنان زمن انفعال رمزي مبتذل، لا اثر فيه لترجمة انفعال حقيقي من موقع المسؤولية. بقي الجميع مخلصا لفكرة أنها طالما تدور بعيداً وبعيداً جداً فإن المسرح مكشوف للاستعراض، الاستعراض على قدم واحدة وفي المكان نفسه دون خطوة للأمام أو أخرى للخلف، فالمواقع لن تتغير، سيبقي لبنان هو لبنان وسنبقى نحن من بعيد قادرين على تحويل مأساته إلى فاصل إعلاني كئيب بين فيلمين كوميديين.