سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الجمعة، ديسمبر ٠١، ٢٠٠٦

لا شيء يفوق الألم العادي لأسامة الدناصوري الغير عادي

أسامة الدناصوري شاعر مصري قليل الإنتاج كبير المقام كما يعترف الجميع، ليس بحجم حضوره القليل في ثلاثة دواوين هي "مثل ذئب أعمي" و"حراشف الجهل" و"عين سارحة وعين مندهشة"، وهي الدواوين التي ارتضى بها أسامة عبر مسيرة طويلة في الحياة الثقافية، وإن اكتفى بها فهي من روائع ما كتب في السنوات الأخيرة. ولكن قبلها وربما بينها وبعدها مثل حضوره الإنساني قيمته الأهم بين أبناء جيله، حضور ذلك المتفلسف العظيم لتفاصيل الحياة. يصمت أسامة كثيرا ويتحدث قليلا، ليس بصمت من أنسوا اللاتورط فإجتنبوا الخوض في ما لا يجدي، ولا بمنحى من إقتصد الحديث تشويقا لمستمعيه حين يحل وقت الحكمة. أسامة هو دون ذلك كله وهو يجلس هناك في أقصى المواضع أينما حللت. في ميريت للنشر، كما في منازل الأصدقاء يبدو عصيا على التصنيف بعينه التي تشتعل بمعالم الدهشة، الدهشة المتواضعة المتفاهمة دون تواطؤ. النظرة التي تطلع من أعماق سحيقة أبعد من حضوره الجسدي الضامر والضعيف، أبعد من إطلالاته العلوية التي يوزعها على الفراغات فيما يحتدم نقاش الجميع، أقرب إلى من يحمل في أعماقه تعاطف العالم مع العالم. وحين يتحدث بعد صمت متورطا في جدل هو في الأغلب حول عمل يناقش أو مقالة مثيرة للجدل، يتحدث هادئا ومكثفا وملتمسا ذلك الجانب الذي ربما أغفله الجميع. يتحول النقاش بعد إطلالة أسامة إلى ما يشبه دوامة التطاحن، أو على العكس تماما، يتبعه الصمت. يدخل أسامة للنقاش بخفة ليخرج منه أكثر خفة، وكأنه تخلص من حمل ثقيل، لايعني الحديث بل ربما يعني ما هو أبعد منه، ربما حمل الحياة نفسها.لم أحظ بصداقة أسامة يوما وإن كان الود والمحبة قد غلفا علاقتنا بما هو أكبر من حجمها الحقيقي. أسامة عامل مشترك في كل صداقاتي، هل تعلم ذلك الوضع المخل لصديق صديقك الصدوق، الذي وإن بدا أقرب الناس لمصادقتك إلا أن موقع الصديق المشترك المفصلي بينكما غالبا ما يخفض حجم توقعاتك فيه، لذا كثيرا ما تبادلنا ذلك الود العميق لأبناء فصيلة منسية دون أن نبحث في المسافة الفاصلة بيننا عن مشترك خاص. يكفينا ما لأبناء القبائل المنسية من تعاطف النسب البعيد.أسامة الدناصوري يخرج في نص يومياته الجديد والمعنون بـ"يوميات العادي"، من رحاب تلك القبيلة الأم الى وطن القبيلة العادية، قبيلة تضم بين شعابها الواسعة ذلك الخليط البشري المنوع الذي ربما تلقاه حين تنزع عن نفسك غلالة المواطن غير العادي، وأي مناسبة أدعى من الألم لتندمج في هذا العالم. الألم هنا ليس بمعناه الرومانتيكي النفسي أو الوجودي، ولكنه المرض الجسدي الذي طالت رحلته مع أسامة لما يزيد عن الخمسة عشر عاما. يغسل اسامة العادي دمه ثلاث أو أربع مرات شهريا بعد أن طاله الفشل الكلوي أحد أوبشانات المرض المصري الأصلية. يولد المصريون بالملايين وهم ينتظرون كريزة الكلي كما تنتظر النساء طمسهن الأول. لذا كان توصيف أسامة ليومياته بالعادي سخرية عنيفة لقدر يختبر الموصوف لحياة غير عادية بإختبار من النوع العادي، واليوميات فيما هي تدنو من ذلك العالم من الآلام ليست معنية فقط بها من حيث كونها مدعاة للأسى، هي قبل ذلك إضاءة ولو عبر إطلالة سريعة على تلك الحيوات التي تذوي بهدوء دون صخب فيما تستمر الحياة. مذكراته تنطلق في مفتتحها كما نشرتها جريدة أخبار الأدب في بستان عددها الأخير من إعصار داخلي بالأفكار يبحث عن شفاه تخرجه لتسمعه آذان لم يكتب لها إلا شرف التقاطع مع ذلك الإعصار. المناسبة التي ضجر فيها أسامة من أزيز تلك الأفكار وعصيانها أو عدم مناسبتها لكتابة الشعر. لا يدعي أسامة عصيان تلك الأفكار، فهو، وإن لم يكتب منذ ثلاث أعوام الشعر الذي يرضيه ـ حيث إحتشاده بالشعر كما أسرّ لي يمر بمخاضات كبرى وإن كانت بطيئة للغاية ـ إلا أن ذلك لم يمنعه من ان يجعل من تلك الكتابة العابرة للنوعية إختزالا لكل خصائصه كشاعر: كثافة السرد، وتشظي الحياة عبر تفاصيل بسيطة، أفعال التأمل القصوي للمجردات حين تتماهى خارج صيروراتها العادية. يحكي أسامة في مذكراته عن الولاعة الصفراء الجديدة التي تراوغه لتحكي عن إعصار كلماته المتدفق دون مناسبة، ويحتفي في أكثر من موضع بذلك الأرق الليلي بين جدران منزله، عن كنباته التي يتمدد عليها ومخاضاته لإدارة ألم إحدى النوبات في المسافة الفاصلة بين الأريكة وسريره في الغرفة البعيدة. الزمن المروغ الطويل وهو يتابع حياة على وشك التفتح الصباحي فيما هو يبحث عن مناسبة للنوم، ثم ينتقل فيما يلي ذلك إلى علاقته بالمرض: إنتقالاته بين وحدات غسيل الكلى وعالمها السفلي، مرضاها الذين وإن وحدت بينهم السرائر البيضاء وخراطيم الدم وإنتظار الخبر المشؤوم، إلا أنها تتماشج وتتواصل بفلسفات الحياة العادية. فمصادقة ذلك المرض الطويل المنهك لاتمنعهم، في ما يسطرهم أسامة، عن التألق بدراما صافية، دراما مفاصلها الأساسية محبة الحياة وتساويها بالموت. والأخير هذا حاضر كإعلان مبسط، إختفى فلان، تعيش أنت، دون أحزان مبالغ فيها، دماء لن تجد طريقها إلي غرفة الغسل مرة أخرى، ستنسد بها مسام أصحابها تحت أمتار من التراب حيث لا أمل في نظافة أخرى، دماء إنفصلت عن شبكة العلائق المتعلقة بلا أمل في حياة موزعة بالتساوي بين صالات إنتظار الغسيل في المراكز الطبية.أسامة العادي يبدو في تلك المشاهد كما هو في أسامة غير العادي. سخريته العنيفة مبطنة بأرق اللاعودة تجعله أكثر ميلا إلى نحت كلماته بمنتهى الوعي بهشاشة الحياة. الحياة الهشة القابلة للتداعي في طرفة عين هي ما تخرج ذلك القناص الماهر نحو كتابة لاتراوغ الواقع، لاتخضعه لمرشحات وفلاتر الشاعر الألهي. عينه المتلصصة بدأب على ذلك الواقع تختار أن تفلتره بمقياس آخر، مقياس لايستدعي رثاء الذات أو الولولة الفاقعة الدراما. أسامة الحاضر العادي أبدا لم يكن عاديا حتى لو إختار بوعي كامل أن يحتفي بذلك العادي، فثمة خلف كل هذا المشهد وبين كافة الطرائد يقبع ذلك القناص الماهر حتى لو كانت طريدته الوحيدة حياة هشة، يراقبها من داخل ذلك الصمت بدأب من يعيد تماسكها بضربة واحدة.