سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الأربعاء، أبريل ٢٨، ٢٠١٠

الحروب الجوالة للأنوثة والذكورة الطائفية في مصر هاني درويش


لايحتاج حمام الكموني قاتل الأقباط السبع ليلة عيد الميلاد إلي علاقة مباشرة بأسرة فتاة فرشوط المسلمة المغتصبة، ولا يفرق بعد الزمان والمكان بين الحادثين لتبرير إنفصالهما عن سياق المواجهة الطائفية المستعرة في مصر، لابد أذن أن يعترف الجميع بذلك أولا حتي يمكن تحليل الحادث المدوي الذي شهدته قنا أقصي صعيد مصر، أما أن تصر الجهات الأمنية والتنفيذية المصرية عن نزع الصفة الطائفية للحادث فهو دفن للرؤوس لا في الرمال لكن في بالوعات المجارير، وبمزيد من الروية يمكن تفكيك الحادث إلي أكثر من زاوية تصلح لفهم ظاهرة العنف الطائفي المتجول الحديثة في مصر.

جغرافيا، تقع قنا في أقصي جنوب مصر، وهي قبليا الأكثر مباهة بجذورها الشريفة الممتدة –وفقا لإدعاءات قبائلها- إلي الرسول، هي في ذلك أكثر جذرية في عصبية الإنتماء للصورة النقية من الإسلام من مجاوريها شمالا في سوهاج وأسيوط وأكثر تعصبا للعروبية البدوية من أسوان جنوبا التي يختلط فيها الدم العربي بالدم النوبي فينتج تسامحا أثنيا جديرا بفتوغرافيا السياحة الشهيرة في بلاد الآثار والسد.

الأشراف، هكذا يطلق علي اللحمة الأساسية للقبائل القيناوية التي تحتضن أقلية مسيحية قديمة ليست بحجم التوازن الحرج شمالها في سوهاج وأسيوط والمنيا (حيث تتقارب النسب بغلبة طبيعية للإسلام) ، ولا بندرة المسيحيين جنوبها بعد تحول النوبيين جميعا للإسلام بعد ثلاثة قرون من الفتح العربي لمصر.

وضع الأقباط في قنا هو أقرب لأقلية مستقرة في عرف رحابة صدر القبائل العربية الكبيرة، هي ليست بذلك الأقلية الحرجة علي خطوط النار كما في أسيوط وسوهاج والمنيا، الوضع الطبيعي للأسر المسيحية القليلة في القلب القناوي هي صورة طقس تتناقله الدراسات الإجتماعية والعرفية لهذه الجغرافيا الإثنية مفادها الإستعارة الزمية التالي:

يخرج كبير العائلة المسيحية المحتضنة من القبيلة العربية في طقس سنوي وهو يسحب حصان شريف العائلة المسلمة في "زفة" تؤكد الولاء والتبعية الإستزلامية، فتتجدد حماية القبيلة المسلمة للأسرة القبطية من عام لآخر، وينتهي الطقس بحفل يقوم فيه القبطي بخدمة ضيوف القبيلة المسلمة بتقديمه بنفسه للطعام والشراب.

هذا الطقس ليس مبالغة إستعارية بل هو مظهر فخر القنائيين حتي الأكثر يسارية وليبرالية منهم علي مقاهي مدينة القاهرة، بمعني آخر، هناك إستقرار ضمني تسليمي في علاقة الأقلية بالأغلبية، وهي مستوعبة داخل أطر السلطات القانونية والأمنية الرسمية، الحزبية منها والأهلية، وبهذه الرعاية العرفية عاش أقباط قنا في مدنها وريفها في إحتكاك أقل دموية من الحادث شمالهم، فلم يسجل تاريخ التفجرات الطائفية في الصعيد منذ منتصف السبعينيات أي جور طال أقباط قنا مقارنة بما حدث شمالها.

ماذا تغير إذن في هذه المعادلة المستقرة، ما الذي يدفع ضميرا جمعيا للتعبير عن صدمته بإختلال التوازن فيطلق بلطجي مسلم النار علي جمهور قبطي غفير ليلة عيدهم؟ لامفر هنا من الحديث عن فرشوط وحادثتها الإستثنائية، حيث إغتصب "أبله" مسيحي- كما بدي في بكاءه أثناء جلسات محاكمته المصورة تلفزيونيا- طفلة مسلمة، وعلي الرغم من إحصاءات الإغتصاب المرتفعة يوميا في مصر، والتحرش الذي أصبح نافلة قول في الشوارع، إلا أن إغتصاب "مسيحي" لـ"مسلمة" عبر بما لايدع مجالا للشك عن خلل تاريخي في خيال تلك العلاقة، فحوادث هروب "مسيحية" مع "مسلم" هي الماستر سين الذي يبلسم العقل الجمعي الشعبي للأغلبية المسلمة، خاصة عندما تحميه معالجة أمنية تميل غالبا إلي حماية "المسلم" الذي تشرعن عقيدته زواجه من مسيحية فيما تحرم الفعل العكسي، أقول هنا أن الحماس الأمني "المدعوم غالبا بحس تمييزي عرفي" لإنهاء مثل تلك الصدامات الطائفية علي خلفية علاقة بين الجنسين، أسس لغبن تاريخي عند الأقباط مفاده أن الأمن غالبا ما يتلكئ في إعادة فتياتهم، بل إنه يحمي غالبا وضمنيا الفعل طالما كان الذكر مسلما، علي الجانب الآخر، شرعن التواطؤ الأمني "حرب خطف الفتيات المسيحيات" وجعل منها حربا إذلالية موسمية للأقباط في صعيد مصر طالما بقت النتيجة محسومة سلفا.

نحن هنا نتحدث عن بنية مستقرة من التكيف الأمني والتنفيذي مع التمييز العرفي ضد الأقباط، بل إن محافظ قنا وهو المسيحي الوحيد في جهاز الحكم االإقليمي لنحو نيف وعشرين محافظة جاء من الأقلية الكاثوليكية داخل الأقلية المسيحية، وبدي الرجل في تصريحاته ملكيا أمنيا أكثر من الملك الأمني حين حمل أقباط فرشوط مسؤلية مذبحة أقباط نجع حمادي!.

لايحتاج إذن بلطجي يستعمله مرشحي الدولة لتقفيل إنتخابات مجلس الشعب لا إلي إذن من أحد ولا لعلاقة مباشرة بالإسلام كي ينفذ جريمته، هو أبن شرعي لهذا المناخ التمييزي التاريخي الذي صدم-علي مايبدو- بـ " جرأة المسيحيين في إغتصاب فرشوط"، هو أبن العدالة الشعبية الصامتة التي إهتز مكيالها، وفيما لم يجد مغتصب فرشوط محاميا واحدا يجرؤ علي الدفاع عنه في أول جلسات محاكمته، سيجد "الكموني" بلا شك ألف محامي للدفاع عن حقه في القتل، أو علي الأقل من ينفي عنه جرم الطائفية متكيفا مع القاعدة التي يراد بها باطل "أن كل متهم برئ حتي تثبت إدانته".

لقد إخترع عنصري الأمة معارك "الأنوثة والذكورة" الجوالة، في ظل رعاية أمنية وفراغ سياسي وإنعدام معايير مواطنة قانونية، والآن جاء وقت الحلقة الأضعف كي ينفلت عقال مؤدبيها، فمن حادثة جنائية عادية تخضع للقانون إلي إنتقام عشوائي طائفي لن يخضع لأي قانون، أللهم إلا رائحة المجارير التي نتنسمها مع كل تقبيل للحي الشيوخ والرهابان في لقاءات التلفزيون الموسمية.

من تسييس الكرة إلي "تكوير السياسة" عاش حنان أمنا الجزيرة الرياضية هاني درويش


يتخيل محمد خير مصر علي هيئة جدة عجوز تعيش في بيت أحفادها، تهددهم بالإمتناع عن الطعام والشراب إذا ما أجبروها علي تناول الدواء، ويري وائل عبد الفتاح مصر أقرب إلي أم قاسية فاقدة للذاكرة يطالبها أبناؤها ببعض الحنان، التشبيهان المبسطان لحال مصر في معركتها حول الجدار العازل(في حال وائل) أو معركتها مع قناة الجزيرة الرياضية حول بث فاعليات بطولة امم أفريقيا لكرة القدم(في حال خير) ينتميان إلي الجيل الجديد من الإستعارات التلخيصية لمصر ودورها الأقليمي في حال تعرضها لأي أزمة تتطلب منها أن تتعملق بحجم توقعات محيطيها فيما هي لازالت تبحث عن قميص محبوك لجسدها الضامر.

ها أنا اسقط في أفخاخ التشبيه والصور التلخيصية بدون إرادة، وأنا في ذلك ومن قبلي صديقي لاننحو إلي بلاغة تضخم من العلاقة بين المشيه به وبين الشبيه، بل علي الأرجح، نبحث في شكل إدارة النظام المصري لأزماته علي إستعارة محبوكة توازي أداءه النكوصي، أداءه الذي لايخرج خياله الإنفعالي الطفولي المتداعي الكارثي الأبله عن إستعارات من هذا القبيل.

الأسبوع الماضي علي سبيل المثال، لقنت قناة الجزيرة الرياضية النظام المصري درسا في "حنان المترفعين علي الصغائر"، عندما أعلنت في الساعات الأخيرة عن بث مباريات منتخب مصر في أمم إفريقيا مجانا، وكان النظام إعلاما ونخبا وجماهير قد أدار معركة من "الردح المصري الأصيل" ضد القناة الرياضية رابطا بين معركة سور غزة وخلافات النظام مع القناة الأم ومبالغة الرياضية في طلباتها المالية مقابل بث مباريات المنتخب، هكذا يتعمد مهندسو "تحويلات المجارير" في النظام المصري خلط السياسة بالكرة، ومثلما قام النظام بتسييس الكرة في أزمة معركة الخرطوم ضد الشعب الجزائري، قام الأخير بما يمكن تسميته بـ"تكوير السياسة"، أي الخلط المتعمد لمياه الصرف الصحي (السياسي) بمياة الشرب (الرياضة) ذات الشأن الإقتصادي البحت.

10 ملايين دولار هي قيمة ما طلبته الجزيرة الرياضية من النظام المصري كي يقدم الأخير "أفيونه" إلي الجماهير الغفيرة علي قنواته الأرضية، والجزيرة حددت الرقم وفقا للتسعير العالمي بينما كانت مصر تتمني المعاملة التفضيلية بلا مبرر واضح. بل وأشترط الجانب المصري(الذي لايحق له الإشتراط أصلا) أن يبث البطولة بالكامل بإستديو تحليلي مصري و"تورتة إعلانات محلية ينفرد بها الجانب المصري.

إلي هنا الأمر يبدو غريبا، أنت تطلب مني أن أبيع لك سلعة بمبلغ معين كي تعود أنت لبيعها من الباطن بأضعاف الأسعار للمعلنيين المصريين، وإلا ...وإلا ...، وإلا ماذا، اللجوء إلي شغل البلطجة والشرشحة وتشويه السمعة.

لندخل أكثر في التفاصيل، ينظم بث القنوات المشفرة في مصر شركة تسمي مصر للأخبار، متبوعة بالكامل لجهاز مدينة الإنتاج الإعلامي المملوكة للدولة، تقوم هذه الشركة بتحصيل الإشتراكات وتنظيم خدمة القنوات المشفرة، وهي بذلك تحتكر وحدها ومعها القمر الصناعي المصري النيل سات تقطير وإذلال المصريين بالفضاء العام، هي مجرد وسيط لكنها تتحكم ببساطة –في ظل غياب شركات منافسة- بمايهطل في الفضاء من مباريات وأخبار وخدمات للطبقة الوسطي العريضة القادرة علي دفع ثمن خدمة مميزة، والجزيرة الرياضية من جانبها حددت أسعارها بأدني سعر ممكن في المنطقة العربية كي تصل قنواتها المشفرة للمواطن المصري، فمن 60 جنيها (12 دولار) قبل خمس سنوات إلي 90 جنيها( 16 دولار) قبل ثلاث سنوات، وصولا إلي 120 جنيها( 23 دولار) قبل عامين و 330 جنيها (60 دولار) أخيرا بعد أن وصلت قنواتها المشفرة إلي عشر قنوات، هذه الإشتراكات سنوية، أعود وأكرر سنوية ، بمعني أن المواطن المصري قادر علي متابعة نحو 10 دوريات كروية عالمية ونحو 5 بطولات عالمية وإقليمية في مقدمتها كأس العالم والأمم القارية المختلفة مقابل ما يقل عن الجنيه يوميا للعشر قنوات.

الجزيرة الرياضية في تدني أسعارها تبدو وكأنها تتحمل عن المواطن المصري تبعات "جباية" الشركة المصرية الحكومية المتحكمة في البث، ورغم ذلك، تقدم الشركة المصرية في عصر "الريالةـ الريادة المصرية" أسؤ مستوي خدمة في العالم، حيث أنت مضطر شهريا للإصطفاف في طوابير مئوية لإعادة بث قنواتك المدفوع ثمنها سلفا.

علي الجانب الآخر، يبدو إتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري هو آخر حصون عصر الإعلام الشمولي المصري، فهو المتحكم في نحو 20 قناة أرضية مصرية يملكها ويديرها برؤية حكومية سياسية تعلي من شأن الدفاع عن "أفكار ومصالح وسياسية مصر الريادة"، يتحكم بذلك الإنفراد الرأسمالي في أكبر بيزنس إعلاني في دولة يبلغ عدد سكانها النيف وثمانيين مليونا، يضع أسعاره الإنفرادية والإحتكارية علي المعلنين، يضخ بملايين الإعلانات شرايين جهازه البيروقراطي السيادي الفاسد، يتحكم عن قرب وبفجاجة خطاب مصر الإعلامي حتي لو كان عبر قنوات خاصة كدريم أو أو تي في أو المحور، فبضغطة من مبني ماسبيرو(مقر الإتحاد) أو من مقر القمر الصناعي تسقط إشارة أي قناة إذا ما خرجت عن الحدود، ببساطة جري تحويل البث الفضائي الخاص إلي نسخة محلية ذات إمتيازات من البث الأرضي، فمالكو القنوات هم أنفسهم رجال أعمال النظام، ومثلما ترييف المدينة، جرت "محلنة الفضاء".

في مجال كرة القدم المحلية المصرية، إنفرد إتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري بتسعير مباريات الدوري المحلي للقنوات الخاصة الفضائية المصرية، بيع الدوري المصري(آخر مايملكه جهاز بيروقراطية الدولة السيادية) يملايين الدولارات، تعنتت الدولة في حقوق الأندية وإنفردت بالبيع جملة وقطاعي للدوري الذي تتابعه الملايين، والنتيجة، لاحقوق حصرية إلا لماسبيرو، يعطي من يشاء ويمنع عن من يشاء بالسعر الذي يحدده.

هكذا تتعامل رأسمالية الدولة الهرمة وقد إنفردت محتكرة وعي جماهيرها ومشاجراتهم علي الأهلي والزمالك والإسماعيلي، فماذا تفعل مع منتخبها الذي سيركب طائرة ويخرج من مجال البث المحلي المحتكر؟
فضح مدير قنوات الجزيرة وهو يلقي ب"حسنة البث المجاني " الدولة والنظام المصري، كشف علي الهواء ، وعبر بيان عمم علي وسائل الإعلام، تفاصيل المفاوضات الثلاثية الجولات التي كان الجانب المصري خلالها يتقدم ويشكر ويتمني ويوافق ثم يتراجع عند التوقيع لأنه لم يصل إلي ممولين إعلانيين يغطون الـ30 مليون دولار، نعم ، الدولة تبحث عمن يدفع لها حقوق البث كسمسار لا أكثر، بل كسمسار يبحث عن نسبته في الخدمة التي من المفترض أن يدفع ثمنها لإشغال جماهيره المليونية بالوهم الكروي.

لم يسكت الرجل، بل أكمل إجهازه علي فساد دولة "تتباهي بشعر بنت أختها" عندما أعلن تحميل مسؤلية عدم بث مباريات المنتخب المصري لنظام دفع الملايين كي تشاهد جماهيره الغفيرة مباريات كأس العالم التي لن يشارك فيها المنتخب المصري أصلا، وهنا أنطلق الكورس، في الصحافة المصرية، في الفضائيات الخاصة، ببغاوات الحديث عن مؤامرة علي السور العازل المصري في غزة، وفيما وصلة الردح مستعرة، تكرمت الجزيرة، وتفضلت علي الجماهير المصرية اليتيمة بلا أبوة نظام ببث المباريات مجانا علي قناتها الأرضية، بل والأنكي بمجموعة إعلانات مصرية هرول بها المعلنون في آخر لحظة كي لايفوتهم الحفل المليوني، بمعني آخر ذهب المعلنون إلي الجزيرة ودفعوا الملايين لشراء فترات الإعلان أثناء المباريات المصرية بينما ظلت الدولة تزبد في خجل وتهرول في قنواتها الأرضية لسرقة اللقطات من الجزيرة الرياضية كالعادة و"يادار ما دخلك شر".

قلب الجزيرة الرياضية كان "أحن" علي الشعب المصري من سماسرة نظامه الإحتكاريون، ولكن نقطة نظام، كيف أدار النظام من طرفه الضعيف بلطجة المبتز الصغير؟

خلال أيام المفاوضات المتعثرة، وعلي أنغام كورس الردح، قامت الشركة المصرية للأخبار بتعطيل خدمة الجزيرة المشفرة قبل البطولة بأيام، تنتقم إذا الدولة ممن يستطيعون دفع الخدمة المسبقة، بل إنها صورت إحتشاد الالاف منهم ثائرين في شوارع القاهرة للضغط بالجماهير علي الجزيرة الرياضية، أي أنها ببساطة رهنت مشاهدة من دفعوا بمشاهدة من لم يدفعوا، وعندما أذاعت الجزيرة أولي مباريات المنتخب الأسبوع الماضي، وبعد دقائق من التأكد من إستقرار الناس ممتنين للجزيرة أعادت توصيل الخدمة في القنوات المشفرة للمشتركين!

فالنقولها مرة أخري، أجلست الجزيرة المصرية طفل النظام الأبله وجماهيره علي "البيديه"، ألقمته الرضعة من ببرونة، ودعتهم للتجشؤ. ألم أقل لكم ، ليست مجرد إستعارات، إنها الحقيقة، صحة وعافية ياحبيبي.

طبقة وسطى جديدة في مصر ولو كره الثكالى هاني درويش


يبدو أن بعضا من خرافة اندحار الطبقة الوسطى في مصر قد انقشع من حوله الضباب. تلك الخرافة التي روج لها ثكالى مؤرخي الدولة القوية في تأويلهم لمآلات مصر بعد حقبة السبعينيات، بعد أن روعهم خروج الدولة من النشاط الاقتصادي لصالح قوى الاستثمار الجديد، والتي في رأيهم لم تؤسس بنى تنموية تعوض غياب الدولة، ومن ثم انطلقت قوى السوق بلا رادع لتعيث فساداً فيما خلقته تجربة رأسمالية الدولة الناصرية من تعريف جامد للطبقة الوسطي، تعريف يستمد قداسته مما قدمته تلك التجربة من تعليم مجاني، وإعادة توزيع الثروة، وطفرة في مجالات التوظيف في الدولة.

وفقاً لهؤلاء الثكالى، يبدو نمو طبقة وسطى جديدة خلال عصر الرئيس مبارك أمراً عصياً على التصديق، لكن مجمل مؤشرات الحياة الاقتصادية والاجتماعية تؤكد حصول ذلك، بل أن بعضاً من الخرافة التابعة المتعلقة بهذه الطبقة ووعيها المنحط لابد من مراجعته، خاصة إذا ما اعترفنا بأن شريحة لا بأس بها من تلك الطبقة الجديدة نمت خارج علاقات الاستزلام السلطوي، أو على الأقل بعيداً عن المصالح المشتركة للطبقة الحاكمة. إذا اعتبرنا توصيف مصر بالدولة الريعية الضخمة، والتي تستمر أزماتها مكتومة تحت حجم المدخلات الاقتصادية غير الإنتاجية، وإذا اعتمدنا مؤشر نمو النشاط التجاري الخدمي على حساب الصناعة والزراعة، كانت المحصلة وفقاً لهذا النمط من التفكير استقطاب عنيف بين قمة وقاع الهرم الطبقي. رغم أن هذا الاستقطاب يزداد حدة إلا أن المسافات البينية بين طرفي الاستقطاب تمتلئ يوماً تلو الآخر بشرائح متراكمة ومتداخلة.

مثلا، القطاع الخدمي المتهم من قبل منظري اليسار التقليدين باللاسياسية وانعدام وعي منتسبيه، يبدو وكأنه الأكثر ثورية في هذه الأثناء، فهو قطاع نما منذ بداية التسعينيات وفقاً لشروط رأسمالية في التوظيف والتنافس، اعتمد على خريجي التعليم الخاص، واستلهم معايير العولمة ومتطلباتها التنافسية. أتحدث هنا عن الميديا والصحافة والاتصالات والإعلانات وخدمات الكومبيوتر، وتحتها اقتصاد كامل لم يدخل إلا في ذراه العليا في علاقات سلطوية، فيما حافظ على معايير الرأسمالية في بنيته الداخلية، أي أنه حافظ على مبدأ الطموح، لكن ضيق السبل الصاعدة لأعلى جعل منتسبيه يتململون.

تزامن ذلك مع ميل إلى مركزة السلطة الاقتصادية والسياسية في شريحة تتقلص يوماً تلو الآخر داخل الطبقة الحاكمة، وهذا ما يعني انسداد شرايين الحياة لتلك الفئات الوسيطة التي اصطدمت باليد المجهولة التي تطردها لأسفل وللخارج، وما اجتماع 500 شاب مصري في الكويت للإنضمام لجمعية البرادعي إلا مؤشر أولي.

أين نري تلك الطبقة الآن، أو شرائحها العليا المتململة؟ نراهم يتدافعون لحجز سيارات جديدة عبر البنوك، نراهم يتجولون في مناطق السكن الجديدة بقوى شرائية مرنة، نراهم عند بوابات المولات يدفعون شنطاً مهولة بالمواد الاستهلاكية، هم بعض ممن رفعوا توزيع صحيفة شابة كالمصري اليوم القاهرية إلى ربع مليون نسخة، هم من خلقوا ظاهرة علاء الأسواني الأدبية، هم من يدفعون 100 ألف جنيه مصري اشتراكاً في الأندية الخاصة الجديدة، هم مئات الآلاف من ملايين تستهدفهم صناعة الإعلانات المصرية الصاعدة باضطراد، وهم آلاف في منتديات الفيس بوك يدعمون البرادعي، وبين عشرات ممن قبض عليهم في يوم 6 إبريل الجاري، بل هم من لأجلهم ظهر الدعاة المودرن، هم بعض من روابط الأندية (الألتراس) الجماهيرية، هم ذرافات يقدمون لأبناءهم في مدارس وجامعات التعليم الخاص والأجنبي.

سيرد بعض هواة قتل الأمل، وما حاجة التغيير في مصر لمثل هؤلاء؟ هل هم واعون بموقعهم الطبقي والاجتماعي ومأزقهم الأخلاقي؟ هل هم قادرون على إحداث فارق وهم الأكثر خوفاً على مكتساباتهم، وهم المتشربون والمستفيدون من حكمة الإفساد المجتمعي؟ أسئلة منطقية بالطبع، لكنها متشككة أكثر من اللازم.

المركب المتناقض لتلك الشرائح لم يمنعها من إظهار الضجر بل واليأس، ويعلم المتابعون أن سيكولوجية "التأسي المصري على سوء الأحوال" قد طالتهم أخيراً، خاصة وأن سؤال المستقبل هو سؤالهم أكثر من غيرهم، فالطبقات الدنيا طورت وعياً التفافياً على الأزمة. ناهيك عن التهميش التاريخي للفقراء، فهم يتعاملون مع الحياة بوصفها اختبار مؤجل النتائج، كما يقدمه الدين الشعبي. أما تدين الطبقة الوسطي الجديدة البرجماتي وذو الملمح البروتستانتي فهو لم يخدش إلا السطح الهش من الأسئلة، بل هم متروكين لمواجهة السقف المتدني لطموحات الصعود، وهم لا يرون أنفسهم مختلفين أو أقل استعداداً من أمم معولمة منتجة ومزدهرة باضطراد.

علاقة هذه الطبقة بوسائل المعرفة الغير متحكم فيها هي المنشط الأساسي لطموحاتهم. أحدهم كان يحدثني كيف أنه ومنذ ثلاثة أعوام، عندما شاهد المرشح الجمهوري أوباما في برنامج أوبرا وينفري على قناة إم بي سي 4، لم يكن يتخيل أن أمريكا من الممكن أن تنتخب هذا النحيف الأسمر، وهو نفسه ومع عشرات من العاملين في شركة الإتصالات الكبري، سجلوا أنفسهم في الجمعية المصرية للتغيير. موقفه السياسي الضجر من "تدهور البلد" لا يختلف عن صاحب سلسلة محلات مطعام شهيرة في وسط العاصمة، طبع اسم البرادعي لأسابيع على إيراد مطاعمه.

فائدة هؤلاء الأساسية هي دخولهم لأول مرة مجال الاستقطاب السياسي، فالعمل السياسي في مصر ولسنوات طويلة كان مجالا لنخبة من المتخصصين موالاة ومعارضة، حيث تخصص الكلام في قضايا كبيرة جذرية وضد جماهيرية. بهذا "النفس الجديد" ربما ينحو الكلام أكثر نحو تعابير نحن في أحوج للحديث عنها، فعلى لسان صديقي الآن كلمات مثل الشفافية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي على الأقل وإن خرجت من على لسانه فهي ابنة معنى حقيقي دون آمال مضخمة أو يأس معمم، هي منضبطة لأول مرة على لسان طبقة ناهضة، ليست كلها على الأقل مستلبة، وعلى القوى السياسية الحقيقة أن تتعامل مع هذه الروح بجدية.

الثلاثاء، أبريل ٢٠، ٢٠١٠

صور الانقلاب على الهوية الستينية في الميديا صراع منتجي الصورة الجديدة مع ذاكرة هزمتها العولمة

القاهرة ـ هاني درويش

ينشغل كثيرون بالسؤال عن النسخة الجديدة للهوية المصرية، ويصلون غالبا إلى إجابات يؤتى بها من أرفف المستحضرات الجاهزة. أقصد هنا مجمل النظريات التي ترسم تحولات تلك الهوية وفقا لما أعتري حياة هذا المجتمع من تراكم للهزائم والخيبات في القرن الأخير، ومن أسهل تلك المستحضرات إتهام علماء إجتماع للإنقلاب الساداتي (هكذا يسمونه) وما ترتب عليه من تحلل لمصر في هويتها الستينية الشهيرة والساكنة، وما ترتب عليه من تخليها المزري عن عمد إلتزامتها كجسد واحد متعال تجاه نفسها ومحيطها، وبمبضع جراح مبتدئ يجري الفصل عن عمد لحقبة يعتبرونها ضخمة وذات دلالة مركزية في فهم تلك التحولات وهي الحقبة الناصرية. يفصلونها بمنتهي البرودة الجديرة بإحتراف الأطباء عما كان قبلها وعما أتى بعدها. وكأن عشرين عاما فصللت بين ثورة وإرتدادها عن مبادئها قادرة على التعمية عن سياق ما قبلها وما بعدها، والحقيقة أن ما قبلها وما بعدها هو الأكثر امتدادا وإيغالا في الشخصية المصرية. والأمر يتجاوز بالطبع حساب السنين بمعناها الخطي وكثافتها النوعية. فجزء هام من مكونات ما يمكن إصطلاحه بالشخصية المصرية في تجريدها الخام (إن وافق البعض على مايعنيه التجريد من نقاوة زائدة) يعود بلا شك إلى ميكانيزم الهدم والبناء المستمرين والبطيئين، ميكانيزم يكاد يحوي القرنين الأخيرين في حرث دائم لتربة عميقة أبعد من السطح الخشن للسياسي بمعناه الفوقي. وما يقينية المصريين وعزلتهم عن هذا المستوى الأخير (كما تعبر عنه الحكمة الشعبية «أربط الحمار مطرح مايعوز صاحبه») إلا إنعكاساً لثقتهم الكاملة بالزوال السريع لتأثيرات السياسة تحت يافطة الصبر الأزلي على المضار، بضمير قدري مصدره حكمة أن الحياة لابد لها أن تمرّ.
في السنين العشر الأخيرة تنهش في تلك الطبقة السطحية الكلاشيهية معاول الهدم، والسخرية بطبعها هي الأداة الغليظة لتلك المهمة. التلفزيون والإعلانات والكتابات الساخرة وفنون الغرافيك الحديثة هي ملاعبها الأثيرة.
السينما والتلفزيون في النصف قرن الأخير كانا مسرحا مشرعا لإعادة تمثيل هوية المجتمع على مايبتغيه النظام الحاكم ونخبه. بل إنهما، بالإضافة للإذاعة، رسما صورة ذهنية عن مصر في محيطها الإقليمي، أقصد هنا سينما الأبيض والأسود تحديدا التي شهدت قبل ثورة يوليو مجدها الأهم. وغالبا ما لايعترف كثيرون بقيمة تلك التمثيلات الخيالية في بلورة وعي الذات الجمعي بنفسه وبالآخرين. وينسب كثيرون صورة مصر السينمائية التي يحملها الأرشيف الضخم إلى ثورة يوليو مع تزامن عهدها بريادة تلك الصناعة وشهرتها ونفوذها الإقليمي، بينما الحقيقة أن تلك الصناعةهي أرفع شأناً من الثورة نفسها. بل إنها في إنكفائها للتكيف مع روح الجنرالات الجدد خسرت الكثير، بمعنى ان صناعة السينما التي ورثتها الثورة كرافد فني إجتماعي سياسي لتعبير الناس عن حياتهم وأفكارهم وأخلاقهم جرى إحتسابه كرصيد منبتّ الصلة عما سبقها. كذلك هو حال مجمل منجز الأدب المصري والفن الذي كانت الفترة الليبرالية حاضنتهما الأصيلة. وما أسماء كطه حسين وعباس محمود العقاد ونجيب محفوظ ويحيى حقي وشوقي وبيرم التونسي ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم إلا ابناء فترة الوعي الوطني الأوليّ الذي نبتت مع بداية القرن. فليبرالية وحداثة مصر العشرينات والثلاثينات حمت ووفرت لهذه الأسماء المشكلة للمزاج العام المناخ التعليمي والإجتماعي والثقافي بمعناه الصناعي والإنتاجي، بينما شكل الإنكفاء الثوري وتكيف تلك الأسماء مع الواقع الجديد الذي فرضته الثورة مايبدو أقرب لمبدأ التقية الثقافي. أللهم من طور من هذه الأسماء مشروعه ليتكامل مع مشروع أهل الثكنات. ويكاد المراقب الحالي لمنتج إعادة تعريف الهوية الجديد أن يشير للحمة ذلك التعريف بما سبق يوليو، خاصة وأن منجز هوية الثورة تحديدا هو الخاضع الآن أكثر من غيره لإعادة الهدم.
الضربة الأولى لمعاول مايمكن تسميته بإعادة تفتيت وتركيب الهوية، ظهرت في عمل فيديو مستقل، فيلم صور بكاميرا فيديو أسمه» رجال لا تعرف المستحيل» قبل عشر سنوات. الفيلم صوره شباب من خارج الوسط الفني -بكاميرا فيديو بسيطة- للسخرية من تمثلات السينما والتلفزيون لإنجاز المخابرات المصرية في عملياتها ضد إسرائيل، فتحولت مسلسلات تلفزيونية راسخة في الثقافة المعممة للهوية المنسوجة على معارك الإنتصار على الآخر إلى مهزلة كاملة. مسلسلات مثل «جمعة الشوان» و«رأفت الهجان» وأفلام كـ«إعدام ميت» و«الصعود إلى الهاوية» جرى إعادة تمثيل المشاهد الراسخة منها في الذهنية الشعبية بشكل هزلي، خاصة وأن تلك الأعمال إعتمدت على خرافة الشكل الإنتصاري عبر سيناريوهات ركيكة الدرامية أو كلاسكية في أحسن صورها، في رجال لاتعرف المستحيل إلى ثمة سخرية من رؤيتنا الساذجة لليهود وإسرائيل. خاصة وأن الأعمال الأصلية سجنت الإسرائيلين في كلاشيهات مثل طريقة الحديث من الأنف والنظرات اللئيمة من أعلى نظارات مدلاة على نفس الأنوف. كما تهكم الفيلم البدائي الإسكيتشي على سلسلة كتب للمراهقين أسمها «رجل المستحيل»، سلسلة هي الأكثر تأثيرا في مخيلة جيل الثمانينات عن العداء لإسرائيل، إسرائيل المغوية الأنثوية الممثلة في شخصية عميلة الموساد سونيا جراهام التي تغوي وتقاتل كلبوة شريرة شخصية أدهم صبري ضابط المخابرات المصرية أو «رجل المستحيل».
إسرائيل الأنثى المغوية ومصر الذكورة والشهامة كانت محلاً للتهكم أيضا في صراع الشخصية الشعبوية»جمعة الشوان» وحبييبته اليهودية»جوجو». وقدم «رجال لا تعرف المستحيل» ضربة مؤثرة لمبررات الوطنية في شخصية عميل المخابرات المصري التي ربطها مسلسل «دموع في عيون وقحة» بصفات كاريكاتيرية مثل الذكاء الشعبوي، أو لا جدوى الغواية امام الحب الأصيل المستقر للزوجة التقليدية، أو عبث أن تبيع وطنك لمجرد فتح سوبر ماركت، أو موت احد أقاربك في غارة إسرائيلية لاحقة، أي إنبناء لا خيانة المصري العادي على أسباب هكذا راسخة في مفهوم المصريين عن هويتهم الأصيلة والمتخيلة.
الفيلم «رجال لاتعرف المستحيل» إنتشر على «الهاردات» المحمولة مع دخول الكمبوتر في حياة المصريين، إنتشرت لقطات منه على اليو تيوب، لم يُذعْ كمادة بصرية على الشاشات بل تحول إلى سلعة سرية متبادلة في الخفاء دون أن يحقق صانعوه أي ظهور إعلامي رسمي أو يجري الإعتراف بهم لاحقا كصناع لسينما من خارج الإطار، بل تناقلت أحاديث إعتقالهم لاحقا على يد أجهزة سيادية.
من عالم «الهاردات» المحمولة إنتقلت السخرية إلى عالم البرامج الكوميدية على شاشة الفضائيات الخاصة. والموضع هذه المرة هي السينما المصرية وتراث الأبيض والأسود تحديدا. أفلام مثل «في بيتنا رجل « أو «الأرض» أو «رد قلبي» تحولت مشاهدها الأثيرة إلى إسكتشات كوميدية في برامج رمضان. قناة رائدة في هذا المجال هي قناة «موجة كوميدي» ظهرت للمرة الأولى منذ أربع سنوات جعلت فواصلها للسخرية من افلام مثل «معبودة الجماهير» و«الخطايا» حيث تم تحويل المشاهد الرومانتيكية والدرامية الجادة جدا إلى مايشبه الكاريكاتير عبر التطرف في المكياج وتضخيم الشحنة الإنفعالية.
القناة (ودون أن تدري ما في نقلة الغرافيك أصلا من تشويه متعمد) لم تقف عند هذه الحدود، بل جسدت معظم المشاهد الكلاسيكية في نسخ غرافيكية في مسابقات يجري فك طلاسمها عبر رسائل تليفونية يرسلها المشاهدون، فقدم الثنائي سرحان ونفيسة مشاهد لأفلام مثل «العار» و«رصيف نمرة خمسة» و«صراع في الوادي» مع تحوير الحوارات بلهجة حديثة وبتفاصيل من الحياة الواقعية اليومية الآن، ويطلب من المشاهدين معرفة إسم الفيلم.
إستهداف ما يسمى بـ«الزمن الجميل» أي تراث الستينيات والسبعينيات والثمانينات يأتي كرد فعل غير واع لجيل جديد من المبدعين ضجر من تحجر «النوستالجيا». وما إصباغ المشاهد باللغة العامية وكسر الإيهام بإدخال تفاصيل الزمن الحاضر إلا صرخة من رسوخ هذا الحس الدائم بأن ما مضى هو الزمن الذهبي. هذا على مستوى، فيما ينبني مستوى آخر على عدم قدرة هؤلاء المبدعين على الربط بين ذلك التاريخ الذهبي وركاكة الواقع الحالي. بالطبع لايتحدث هؤلاء هكذا، أو هكذا يدركون الأشياء، لكن نمطا جديدا للتذوق وإرتباطا جديدا بالحداثة الإعلامية المجلوبة مع العولمة أكسبت هذا الجيل نوعا من التحرر من عبء تاريخ لم يشاركوا في صناعته، بل جرى مسخ زمانهم لصالحه.
فن الإعلانات، وهو من أكثر الصناعات المعرفية المصرية الناهضة في العشرين عاما الأخيرة، كانت له الريادة تاريخيا في خوض تلك التجربة من الهدم حتى حدوده القصوى، فألحان تاريخية كلاسيكية يعاد إحياؤها بكلمات جديدة على منتجات حداثية كانت البداية، هاجم حراس التراث والفن المصري الأصيل، كما يسمون أنفسهم، ذلك الإستخدام الوسائلي لتراث الهوية المصرية. أم كلثوم وحليم وعبد الوهاب ومجمل الأغان الوطنية جرى إعادة تقديمها على منتجات مادية كالصابون والشيكولاتة والشامبو ومسحوق الغسيل، وشهدت نهاية الثمانينيات بداية موجة الإستجوابات البرلمانية لأعضاء الإخوان المسلمين وبعض المستقلين الذين هالهم كم الإشارات الجنسية وتذاكي الإعلانات في التلاعب بالوعي الشعبي على ألحان إعتبروها مقدسة.
القداسة، إرتبطت من وجهة نظر هؤلاء بتراث جرى إنتاجه بشكل نخبوي وجرى إستهلاكه بشكل جماهيري معمم. ودفاع هؤلاء كان دفاعا عن موقعهم المتراجع أمام لاعبين جدد يهشمون أكثر مما يبنون، يشاركون في صياغة غالبا ما ظلت حكرا على «أيقونات» لاتمسها شائبة. والهول كان من تعاظم تأثير تلك الصناعة في وعي المستهلكين، لدرجة أن كثيرين باتوا لايتذكرون الأصل المقدس للحن أو الأغنية ويفرحون بالمسخ الإعلاني.
الضمير الجمعي للمستهلكين (إعلانا وسينما وتلفزيون) إستوعب تفكك الحاضر وإنقطاع صلاته بالماضي المشتهى. وفي حدود عجز تلك النخب التقليدية عن خلق أوهام جديدة صرخ الجميع: أنتم لاترحمون ولاتتركون رحمة الله أن تنزل علينا!
جزء من حسبة هذا التركة (السينما، التلفزيون، الراديو) خرجت أصوله فعلا من يد الدولة. فمنذ سنوات وجزء كبير من تراث السينما المصرية الكلاسيكية تم بيعه لمستثمرين مصريين وعرب، وأعني بالدولة التلفزيون الرسمي وبقايا شركات الإنتاج القديمة، تملكت القنوات الفضائية العربية والمصرية الخاصة آلاف الأفلام، وانتقلت بالتالي السلطة المعرفية والتاريخية لتلك الأفلام لإدارات جديدة. قامت تلك الإدارات بإعادة ترميم تلك الثروة وإعادة تقديمها بشكل جديد، ومن ضمن آليات العرض الجديد عمل ما يسمى بالتنويهات أو البروموهات، دخل على خط إعادة التخيلل لهذه الثروة جيل جديد من كتاب النص التنويهي للأفلام فإنطلقت السخرية عميقة وصافية.
تقوم حملة إعلانات «فيلم عربي ...أم الأجنبي» على مايسمى بالنص التخييلي المسلسل، حيث الحملة قائمة على مشهد ثابت يتكون من مخرج شاب «وديع» يتوجه إلى منزل منتج «إلهامي» ومعه سيناريو فيلم جديد. وفي كل إعلان من السلسلة التي وصلت أجزاؤها إلى ثمانية إعلانات، يجري التعامل مع فيلم مصري وفيلم أجنبي ترافقا في زمن الإنتاج. ويحدد العنوان الإعلاني الفيلم الأجنبي تحت عنوان»الحقيقة وراء روكي «مثلا، تظهر فيللا المنتج في مشهد خارجي على تاريخ 1975، وتدل كل إكسسوارات ومكياج الممثلين وملابسهم على صرعة الألوان الفاقعة زمن الشارلستون. يدخل المخرج بالسيناريو والسينارست على المنتج الذي يشبه تمثلات السينما المصرية لمنتجي أفلام المقاولات، من حيث الفجاجة والجهل والتعالي، وانعدام الثقافة. يبدو مشهد المخرج وهو يتذلل للمنتج كي يستمع إلى حكاية فيلمه الجديد تهكما عنيفا على تجارية فن السينما وتراتبيته التي تجعل من صاحب المال متحكما في مجمل الصناعة. المخرج أقرب لسمسار أفكار، يجلب السيناريو وبعض الممثلين ليمثلوا مشهدا من فيلم روكي. يصرخ المنتج» يعني إيه مفيش قاضية (أي ضربة قاضية لينتصر الملاكم(البطل)، ثم يخرج من درج مكتبه فيلم «فيفا زلاطة» وهو فيلم هزلي أنتج في السبعينيات من بطولة فؤاد المهندس كـ«بارودي « لفيلم فيفا زباتا. يقول صوت المعلق فيما المخرج يرفس السينارست محتفيا بمقترح المنتج: ف السنة اللي رمينا فيها روكي أنتجنا فيفا زلاطا، فيفا زلاطا عرض في 3 سينمات، حقق 70 ألف جنيه إيرادات، فيفا زلاطا على ميلودي أفلام، أفلام عربي ....أم الأجنبي (مكتوبة على الشاشة).
يتكرر الامر نفسه مع أفلام عالمية شهيرة كانت قد عرضت على المنتجين المصريين-كما يسخر سينارست الإعلان- لكنهم فضلوا أفلاما عربية ركيكة المحتوي والمضمون، رفضوا «تايتانك» وأنتجوا «لحم رخيص»، رفضوا «الراقص مع الذئاب» لينتجوا «عضة كلب»، وهكذا، والنقاط الفاصلة بين أفلام عربي وأفلام الأجنبي تستطيع إكمالها بكلمة سوقية شائعة في مصر تعبر عن فرج المرأة.
مدهش أن تعلن عن منتج (الأفلام العربية التي تملكها القناة) بالسخرية منها هكذا سخرية. وأن تعبر بفجاجة ذكية عن الفارق الضخم بين السينما المصرية والسينما الأميركية، هاجم كثيرون الحملة بمنطق أنها تحتقر الأفلام المصرية، دون أن يدركوا أن المنبت الأصلي للسخرية هو من ميكانيزم الصناعة نفسها. تجاريتها في تحكم رأس المال، إصراراها على الإقتباس وتنفيذ الأفلام المضمونة وعدم القدرة على الإبتكار، السخرية من تحكم الجنس والبطل الذي لايقهر وباقي الكلاشيهات المعروفة، وحتى لو أحسسنا أنها تحقير للسينما المصرية، فالآفلام المصرية المختارة في الحملة بالفعل أفلام تافهة، جاء المخرج ليضعها في السياق الزمني الذي كان العالم ينتج فيه أفلاما مهمة ليوسع لنا مشهد الريادة الزائف ويفضحه.
لاتقف السخرية عند حدود إستهداف الماضي فقط، بل تتجاوزها للسخرية من الواقع. فمذيع راديو كأكرم حسني وجد شهرته في إبتكار شخصية سيد أبو حفيظة مذيع «نشرة أخبار الخامسة والعشرون»، والتي يقدم فيها مزيجا من السخرية على المذيعين والضيوف في تعليقهم على الأحداث السياسية والفنية. شخصية سيد أبو حفيظة صاحب الشعر المنكوش والنظارة الضخمة ومنديل عرق الياقة تمثل قلبا لصورة المذيع التقليدية، وسخريته من معالجات الميديا للأحداث الواقعية غالبا ما يردفها على مشاهد من السينما القديمة. وقد طور برنامج لاحق أسمه الكابوس، يجمع فيه مقابلات مع من أفترض أنهم شهدوا رحلة كفاحه، ساخرا من برنامج وثائقي عرض في نفس الوقت أسمه «الأحلام» عن قصة صعود المطرب الشهير عمرو دياب.
قد يبدو رسوخ الماضي قاعدة تصويب جيدة للسخرية، خاصة لدى شعب يسخر في قيامه وقعوده من نفسه ومن الآخرين، لكن الأمر لايقف عند حدود إقامة القطيعة فقط مع هذا الماضي، ولايقف عند حدود جيل جديد يسخر من ذاكرته وذاكرة آبائه، ولاهي في النهاية تعبير عن مجرد إنتقام من بؤس الواقع. الأمر ربما يكون دعوة لبداية جديدة، دعوة لا تجد في هوية الماضي إلا صور الهزيمة، أو على الأقل نفاذ الرصيد. فقد إستهلكناها لحد الإشباع، وما بعد الإشباع، غالبا ما يحين موعد التقيؤ.

صراع منتجي الصورة الجديدة مع ذاكرة هزمتها العولمة

القاهرة ـ هاني درويش
ينشغل كثيرون بالسؤال عن النسخة الجديدة للهوية المصرية، ويصلون غالبا إلى إجابات يؤتى بها من أرفف المستحضرات الجاهزة. أقصد هنا مجمل النظريات التي ترسم تحولات تلك الهوية وفقا لما أعتري حياة هذا المجتمع من تراكم للهزائم والخيبات في القرن الأخير، ومن أسهل تلك المستحضرات إتهام علماء إجتماع للإنقلاب الساداتي (هكذا يسمونه) وما ترتب عليه من تحلل لمصر في هويتها الستينية الشهيرة والساكنة، وما ترتب عليه من تخليها المزري عن عمد إلتزامتها كجسد واحد متعال تجاه نفسها ومحيطها، وبمبضع جراح مبتدئ يجري الفصل عن عمد لحقبة يعتبرونها ضخمة وذات دلالة مركزية في فهم تلك التحولات وهي الحقبة الناصرية. يفصلونها بمنتهي البرودة الجديرة بإحتراف الأطباء عما كان قبلها وعما أتى بعدها. وكأن عشرين عاما فصللت بين ثورة وإرتدادها عن مبادئها قادرة على التعمية عن سياق ما قبلها وما بعدها، والحقيقة أن ما قبلها وما بعدها هو الأكثر امتدادا وإيغالا في الشخصية المصرية. والأمر يتجاوز بالطبع حساب السنين بمعناها الخطي وكثافتها النوعية. فجزء هام من مكونات ما يمكن إصطلاحه بالشخصية المصرية في تجريدها الخام (إن وافق البعض على مايعنيه التجريد من نقاوة زائدة) يعود بلا شك إلى ميكانيزم الهدم والبناء المستمرين والبطيئين، ميكانيزم يكاد يحوي القرنين الأخيرين في حرث دائم لتربة عميقة أبعد من السطح الخشن للسياسي بمعناه الفوقي. وما يقينية المصريين وعزلتهم عن هذا المستوى الأخير (كما تعبر عنه الحكمة الشعبية «أربط الحمار مطرح مايعوز صاحبه») إلا إنعكاساً لثقتهم الكاملة بالزوال السريع لتأثيرات السياسة تحت يافطة الصبر الأزلي على المضار، بضمير قدري مصدره حكمة أن الحياة لابد لها أن تمرّ.
في السنين العشر الأخيرة تنهش في تلك الطبقة السطحية الكلاشيهية معاول الهدم، والسخرية بطبعها هي الأداة الغليظة لتلك المهمة. التلفزيون والإعلانات والكتابات الساخرة وفنون الغرافيك الحديثة هي ملاعبها الأثيرة.
السينما والتلفزيون في النصف قرن الأخير كانا مسرحا مشرعا لإعادة تمثيل هوية المجتمع على مايبتغيه النظام الحاكم ونخبه. بل إنهما، بالإضافة للإذاعة، رسما صورة ذهنية عن مصر في محيطها الإقليمي، أقصد هنا سينما الأبيض والأسود تحديدا التي شهدت قبل ثورة يوليو مجدها الأهم. وغالبا ما لايعترف كثيرون بقيمة تلك التمثيلات الخيالية في بلورة وعي الذات الجمعي بنفسه وبالآخرين. وينسب كثيرون صورة مصر السينمائية التي يحملها الأرشيف الضخم إلى ثورة يوليو مع تزامن عهدها بريادة تلك الصناعة وشهرتها ونفوذها الإقليمي، بينما الحقيقة أن تلك الصناعةهي أرفع شأناً من الثورة نفسها. بل إنها في إنكفائها للتكيف مع روح الجنرالات الجدد خسرت الكثير، بمعنى ان صناعة السينما التي ورثتها الثورة كرافد فني إجتماعي سياسي لتعبير الناس عن حياتهم وأفكارهم وأخلاقهم جرى إحتسابه كرصيد منبتّ الصلة عما سبقها. كذلك هو حال مجمل منجز الأدب المصري والفن الذي كانت الفترة الليبرالية حاضنتهما الأصيلة. وما أسماء كطه حسين وعباس محمود العقاد ونجيب محفوظ ويحيى حقي وشوقي وبيرم التونسي ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم إلا ابناء فترة الوعي الوطني الأوليّ الذي نبتت مع بداية القرن. فليبرالية وحداثة مصر العشرينات والثلاثينات حمت ووفرت لهذه الأسماء المشكلة للمزاج العام المناخ التعليمي والإجتماعي والثقافي بمعناه الصناعي والإنتاجي، بينما شكل الإنكفاء الثوري وتكيف تلك الأسماء مع الواقع الجديد الذي فرضته الثورة مايبدو أقرب لمبدأ التقية الثقافي. أللهم من طور من هذه الأسماء مشروعه ليتكامل مع مشروع أهل الثكنات. ويكاد المراقب الحالي لمنتج إعادة تعريف الهوية الجديد أن يشير للحمة ذلك التعريف بما سبق يوليو، خاصة وأن منجز هوية الثورة تحديدا هو الخاضع الآن أكثر من غيره لإعادة الهدم.
الضربة الأولى لمعاول مايمكن تسميته بإعادة تفتيت وتركيب الهوية، ظهرت في عمل فيديو مستقل، فيلم صور بكاميرا فيديو أسمه» رجال لا تعرف المستحيل» قبل عشر سنوات. الفيلم صوره شباب من خارج الوسط الفني -بكاميرا فيديو بسيطة- للسخرية من تمثلات السينما والتلفزيون لإنجاز المخابرات المصرية في عملياتها ضد إسرائيل، فتحولت مسلسلات تلفزيونية راسخة في الثقافة المعممة للهوية المنسوجة على معارك الإنتصار على الآخر إلى مهزلة كاملة. مسلسلات مثل «جمعة الشوان» و«رأفت الهجان» وأفلام كـ«إعدام ميت» و«الصعود إلى الهاوية» جرى إعادة تمثيل المشاهد الراسخة منها في الذهنية الشعبية بشكل هزلي، خاصة وأن تلك الأعمال إعتمدت على خرافة الشكل الإنتصاري عبر سيناريوهات ركيكة الدرامية أو كلاسكية في أحسن صورها، في رجال لاتعرف المستحيل إلى ثمة سخرية من رؤيتنا الساذجة لليهود وإسرائيل. خاصة وأن الأعمال الأصلية سجنت الإسرائيلين في كلاشيهات مثل طريقة الحديث من الأنف والنظرات اللئيمة من أعلى نظارات مدلاة على نفس الأنوف. كما تهكم الفيلم البدائي الإسكيتشي على سلسلة كتب للمراهقين أسمها «رجل المستحيل»، سلسلة هي الأكثر تأثيرا في مخيلة جيل الثمانينات عن العداء لإسرائيل، إسرائيل المغوية الأنثوية الممثلة في شخصية عميلة الموساد سونيا جراهام التي تغوي وتقاتل كلبوة شريرة شخصية أدهم صبري ضابط المخابرات المصرية أو «رجل المستحيل».
إسرائيل الأنثى المغوية ومصر الذكورة والشهامة كانت محلاً للتهكم أيضا في صراع الشخصية الشعبوية»جمعة الشوان» وحبييبته اليهودية»جوجو». وقدم «رجال لا تعرف المستحيل» ضربة مؤثرة لمبررات الوطنية في شخصية عميل المخابرات المصري التي ربطها مسلسل «دموع في عيون وقحة» بصفات كاريكاتيرية مثل الذكاء الشعبوي، أو لا جدوى الغواية امام الحب الأصيل المستقر للزوجة التقليدية، أو عبث أن تبيع وطنك لمجرد فتح سوبر ماركت، أو موت احد أقاربك في غارة إسرائيلية لاحقة، أي إنبناء لا خيانة المصري العادي على أسباب هكذا راسخة في مفهوم المصريين عن هويتهم الأصيلة والمتخيلة.
الفيلم «رجال لاتعرف المستحيل» إنتشر على «الهاردات» المحمولة مع دخول الكمبوتر في حياة المصريين، إنتشرت لقطات منه على اليو تيوب، لم يُذعْ كمادة بصرية على الشاشات بل تحول إلى سلعة سرية متبادلة في الخفاء دون أن يحقق صانعوه أي ظهور إعلامي رسمي أو يجري الإعتراف بهم لاحقا كصناع لسينما من خارج الإطار، بل تناقلت أحاديث إعتقالهم لاحقا على يد أجهزة سيادية.
من عالم «الهاردات» المحمولة إنتقلت السخرية إلى عالم البرامج الكوميدية على شاشة الفضائيات الخاصة. والموضع هذه المرة هي السينما المصرية وتراث الأبيض والأسود تحديدا. أفلام مثل «في بيتنا رجل « أو «الأرض» أو «رد قلبي» تحولت مشاهدها الأثيرة إلى إسكتشات كوميدية في برامج رمضان. قناة رائدة في هذا المجال هي قناة «موجة كوميدي» ظهرت للمرة الأولى منذ أربع سنوات جعلت فواصلها للسخرية من افلام مثل «معبودة الجماهير» و«الخطايا» حيث تم تحويل المشاهد الرومانتيكية والدرامية الجادة جدا إلى مايشبه الكاريكاتير عبر التطرف في المكياج وتضخيم الشحنة الإنفعالية.
القناة (ودون أن تدري ما في نقلة الغرافيك أصلا من تشويه متعمد) لم تقف عند هذه الحدود، بل جسدت معظم المشاهد الكلاسيكية في نسخ غرافيكية في مسابقات يجري فك طلاسمها عبر رسائل تليفونية يرسلها المشاهدون، فقدم الثنائي سرحان ونفيسة مشاهد لأفلام مثل «العار» و«رصيف نمرة خمسة» و«صراع في الوادي» مع تحوير الحوارات بلهجة حديثة وبتفاصيل من الحياة الواقعية اليومية الآن، ويطلب من المشاهدين معرفة إسم الفيلم.
إستهداف ما يسمى بـ«الزمن الجميل» أي تراث الستينيات والسبعينيات والثمانينات يأتي كرد فعل غير واع لجيل جديد من المبدعين ضجر من تحجر «النوستالجيا». وما إصباغ المشاهد باللغة العامية وكسر الإيهام بإدخال تفاصيل الزمن الحاضر إلا صرخة من رسوخ هذا الحس الدائم بأن ما مضى هو الزمن الذهبي. هذا على مستوى، فيما ينبني مستوى آخر على عدم قدرة هؤلاء المبدعين على الربط بين ذلك التاريخ الذهبي وركاكة الواقع الحالي. بالطبع لايتحدث هؤلاء هكذا، أو هكذا يدركون الأشياء، لكن نمطا جديدا للتذوق وإرتباطا جديدا بالحداثة الإعلامية المجلوبة مع العولمة أكسبت هذا الجيل نوعا من التحرر من عبء تاريخ لم يشاركوا في صناعته، بل جرى مسخ زمانهم لصالحه.
فن الإعلانات، وهو من أكثر الصناعات المعرفية المصرية الناهضة في العشرين عاما الأخيرة، كانت له الريادة تاريخيا في خوض تلك التجربة من الهدم حتى حدوده القصوى، فألحان تاريخية كلاسيكية يعاد إحياؤها بكلمات جديدة على منتجات حداثية كانت البداية، هاجم حراس التراث والفن المصري الأصيل، كما يسمون أنفسهم، ذلك الإستخدام الوسائلي لتراث الهوية المصرية. أم كلثوم وحليم وعبد الوهاب ومجمل الأغان الوطنية جرى إعادة تقديمها على منتجات مادية كالصابون والشيكولاتة والشامبو ومسحوق الغسيل، وشهدت نهاية الثمانينيات بداية موجة الإستجوابات البرلمانية لأعضاء الإخوان المسلمين وبعض المستقلين الذين هالهم كم الإشارات الجنسية وتذاكي الإعلانات في التلاعب بالوعي الشعبي على ألحان إعتبروها مقدسة.
القداسة، إرتبطت من وجهة نظر هؤلاء بتراث جرى إنتاجه بشكل نخبوي وجرى إستهلاكه بشكل جماهيري معمم. ودفاع هؤلاء كان دفاعا عن موقعهم المتراجع أمام لاعبين جدد يهشمون أكثر مما يبنون، يشاركون في صياغة غالبا ما ظلت حكرا على «أيقونات» لاتمسها شائبة. والهول كان من تعاظم تأثير تلك الصناعة في وعي المستهلكين، لدرجة أن كثيرين باتوا لايتذكرون الأصل المقدس للحن أو الأغنية ويفرحون بالمسخ الإعلاني.
الضمير الجمعي للمستهلكين (إعلانا وسينما وتلفزيون) إستوعب تفكك الحاضر وإنقطاع صلاته بالماضي المشتهى. وفي حدود عجز تلك النخب التقليدية عن خلق أوهام جديدة صرخ الجميع: أنتم لاترحمون ولاتتركون رحمة الله أن تنزل علينا!
جزء من حسبة هذا التركة (السينما، التلفزيون، الراديو) خرجت أصوله فعلا من يد الدولة. فمنذ سنوات وجزء كبير من تراث السينما المصرية الكلاسيكية تم بيعه لمستثمرين مصريين وعرب، وأعني بالدولة التلفزيون الرسمي وبقايا شركات الإنتاج القديمة، تملكت القنوات الفضائية العربية والمصرية الخاصة آلاف الأفلام، وانتقلت بالتالي السلطة المعرفية والتاريخية لتلك الأفلام لإدارات جديدة. قامت تلك الإدارات بإعادة ترميم تلك الثروة وإعادة تقديمها بشكل جديد، ومن ضمن آليات العرض الجديد عمل ما يسمى بالتنويهات أو البروموهات، دخل على خط إعادة التخيلل لهذه الثروة جيل جديد من كتاب النص التنويهي للأفلام فإنطلقت السخرية عميقة وصافية.
تقوم حملة إعلانات «فيلم عربي ...أم الأجنبي» على مايسمى بالنص التخييلي المسلسل، حيث الحملة قائمة على مشهد ثابت يتكون من مخرج شاب «وديع» يتوجه إلى منزل منتج «إلهامي» ومعه سيناريو فيلم جديد. وفي كل إعلان من السلسلة التي وصلت أجزاؤها إلى ثمانية إعلانات، يجري التعامل مع فيلم مصري وفيلم أجنبي ترافقا في زمن الإنتاج. ويحدد العنوان الإعلاني الفيلم الأجنبي تحت عنوان»الحقيقة وراء روكي «مثلا، تظهر فيللا المنتج في مشهد خارجي على تاريخ 1975، وتدل كل إكسسوارات ومكياج الممثلين وملابسهم على صرعة الألوان الفاقعة زمن الشارلستون. يدخل المخرج بالسيناريو والسينارست على المنتج الذي يشبه تمثلات السينما المصرية لمنتجي أفلام المقاولات، من حيث الفجاجة والجهل والتعالي، وانعدام الثقافة. يبدو مشهد المخرج وهو يتذلل للمنتج كي يستمع إلى حكاية فيلمه الجديد تهكما عنيفا على تجارية فن السينما وتراتبيته التي تجعل من صاحب المال متحكما في مجمل الصناعة. المخرج أقرب لسمسار أفكار، يجلب السيناريو وبعض الممثلين ليمثلوا مشهدا من فيلم روكي. يصرخ المنتج» يعني إيه مفيش قاضية (أي ضربة قاضية لينتصر الملاكم(البطل)، ثم يخرج من درج مكتبه فيلم «فيفا زلاطة» وهو فيلم هزلي أنتج في السبعينيات من بطولة فؤاد المهندس كـ«بارودي « لفيلم فيفا زباتا. يقول صوت المعلق فيما المخرج يرفس السينارست محتفيا بمقترح المنتج: ف السنة اللي رمينا فيها روكي أنتجنا فيفا زلاطا، فيفا زلاطا عرض في 3 سينمات، حقق 70 ألف جنيه إيرادات، فيفا زلاطا على ميلودي أفلام، أفلام عربي ....أم الأجنبي (مكتوبة على الشاشة).
يتكرر الامر نفسه مع أفلام عالمية شهيرة كانت قد عرضت على المنتجين المصريين-كما يسخر سينارست الإعلان- لكنهم فضلوا أفلاما عربية ركيكة المحتوي والمضمون، رفضوا «تايتانك» وأنتجوا «لحم رخيص»، رفضوا «الراقص مع الذئاب» لينتجوا «عضة كلب»، وهكذا، والنقاط الفاصلة بين أفلام عربي وأفلام الأجنبي تستطيع إكمالها بكلمة سوقية شائعة في مصر تعبر عن فرج المرأة.
مدهش أن تعلن عن منتج (الأفلام العربية التي تملكها القناة) بالسخرية منها هكذا سخرية. وأن تعبر بفجاجة ذكية عن الفارق الضخم بين السينما المصرية والسينما الأميركية، هاجم كثيرون الحملة بمنطق أنها تحتقر الأفلام المصرية، دون أن يدركوا أن المنبت الأصلي للسخرية هو من ميكانيزم الصناعة نفسها. تجاريتها في تحكم رأس المال، إصراراها على الإقتباس وتنفيذ الأفلام المضمونة وعدم القدرة على الإبتكار، السخرية من تحكم الجنس والبطل الذي لايقهر وباقي الكلاشيهات المعروفة، وحتى لو أحسسنا أنها تحقير للسينما المصرية، فالآفلام المصرية المختارة في الحملة بالفعل أفلام تافهة، جاء المخرج ليضعها في السياق الزمني الذي كان العالم ينتج فيه أفلاما مهمة ليوسع لنا مشهد الريادة الزائف ويفضحه.
لاتقف السخرية عند حدود إستهداف الماضي فقط، بل تتجاوزها للسخرية من الواقع. فمذيع راديو كأكرم حسني وجد شهرته في إبتكار شخصية سيد أبو حفيظة مذيع «نشرة أخبار الخامسة والعشرون»، والتي يقدم فيها مزيجا من السخرية على المذيعين والضيوف في تعليقهم على الأحداث السياسية والفنية. شخصية سيد أبو حفيظة صاحب الشعر المنكوش والنظارة الضخمة ومنديل عرق الياقة تمثل قلبا لصورة المذيع التقليدية، وسخريته من معالجات الميديا للأحداث الواقعية غالبا ما يردفها على مشاهد من السينما القديمة. وقد طور برنامج لاحق أسمه الكابوس، يجمع فيه مقابلات مع من أفترض أنهم شهدوا رحلة كفاحه، ساخرا من برنامج وثائقي عرض في نفس الوقت أسمه «الأحلام» عن قصة صعود المطرب الشهير عمرو دياب.
قد يبدو رسوخ الماضي قاعدة تصويب جيدة للسخرية، خاصة لدى شعب يسخر في قيامه وقعوده من نفسه ومن الآخرين، لكن الأمر لايقف عند حدود إقامة القطيعة فقط مع هذا الماضي، ولايقف عند حدود جيل جديد يسخر من ذاكرته وذاكرة آبائه، ولاهي في النهاية تعبير عن مجرد إنتقام من بؤس الواقع. الأمر ربما يكون دعوة لبداية جديدة، دعوة لا تجد في هوية الماضي إلا صور الهزيمة، أو على الأقل نفاذ الرصيد. فقد إستهلكناها لحد الإشباع، وما بعد الإشباع، غالبا ما يحين موعد التقيؤ.

روايات أولى لكتّاب غير مبالين جاؤوا ليبصقوا أوراقهم ...ثم عادوا إلى نهر حياتهم الجارف

هاني درويش
من أين تأتي هذه الجرأة على الكتابة في مصر؟ في السنتين الأخيرتين لايستطيع مراقب إلا الإعتراف بهذا السيل المتدفق من إختراق العاديين لحدود التعبير عما يجول في حياتهم كتابة فنشرا. البعض يرجع ذلك إلى إقتصاديات جديدة للكتابة: دور نشر جديدة، ورساميل مغامرة تفتتح مكتبات خاصة، دخول شرائح جديدة من المستهلكين للكتاب، ألف تفسير يتأرجح بين حمأة البيست سيلر التي تسوقها العولمة بلغة أهل الإقتصاد، أو هجمة مالية تآمرية على ما اعتبر حقلا مجدبا تطيح بمواصفات الفن الراقي كما يعتقد هواة إقامة المعابد الأدبية.
سؤالي يقع في ما هو دون ذلك كله، في تلك الثقة التي تدفع آحادا من الناس إلى كتابة حياتهم دون تصنيف (رواية، قصة، شعر، مذكرات، متواليات) والمجيء من خارج المتن المستقر للكهنة، يسارعون إلى دور النشر الجديدة، دافعين أعمالهم وهم في غاية التقبل للنقد ومتطلبات إعادة الكتابة سواء من الناشرين أو محرريهم. الأمر لا يتعلق بالفعل بهواة شهرة كان الأجدى بهم في هذه الحالة إرتكاب جريمة عادية لتحتفي بهم صفحات الجرائد، أو الذهاب شوطاً أعمق في التعلق بحبال أوهام تلعب الصدفة فيها دوراً في تسويق مبتدئ الإبداع، أن تكون مطربا أو ممثلا مثلا، ولاهم متعلقون حتى بحبال نجاح كتابات دفعت بأصحابها إلى متن المشهد الثقافي بسرعة، على شاكلة علاء الأسواني في تحققه الأعم، أو بلال فضل مثلاً في أخذه بألباب قرائه عبر مقالاته الصحافية المجموعة لاحقاً في كتب الأدب الساخرة.
ولأنتقل سريعا إلى نماذج تضحض مثل هذه التداخلات، سأحدثكم عن نماذج رأيتها بأم العين وأخرى قرأتها وتشاركت مع الكهنة التندر بحكاياتها عند عتبة دار ميريت؛ الأولى مثلا لكاتب إستثنائي تشرفت بالدفاع عن عمله بعد قراءته كمخطوط، إنه مازن العقاد بعمله الأخاذ «الغضب الضائع»، مازن العقاد محام فاشل كما عبر عن نفسه في مقابلة شخصية تالية- يسكن إحدى قرى الدلتا البعيدة، جاء إلى القاهرة بمعناها الثقافي، أي وسط البلد ونواحيه من أماكن يتردد عليها منتجو المعرفة- لأول مرة في حياته منذ عامين. ترك لدى موظفة إستقبال الدار «قصته» وإختفى. أثناء تقليب محمد هاشم في تل نصوص ترد هكذا من مؤلفين مجهولين، إكتشف مسودة «الرواية» بإسم كاتبها دون أي تفاصيل أخرى، دون حتى عنوان أو رقم تليفون. ثم عبر أربع صفحات قرأها لمجرد التندر على طائفة الكتاب الجوالين إنقلب الحال، أرسل بالمخطوطة لي. لم أستطع أن أنام دون أن أكملها بعد التسلل المتثائب المعتاد مع مثل تلك التكليفات. يا الله، رواية كاملة متخيلة، الأماكن والأحداث والزمن، رواية بورخيسية كافكاوية تتحدث عن الإنتحار في القاهرة، شرم الشيخ، وغرف الشات المخصصة للمنتحرين القدامى. لا يمكن أن يكون هذا العمل نصاً أول، ربما هو كاتب إستعار إسماً مجهولاً ليمارس علينا وعلى القراء خدعة ما، وجلسنا ننتظر لنحو عام ظهور الكاتب المتنكر.
جاءني إتصال من محمد هاشم بعد ذلك بشهور. سلّم التليفون إلى شخص يبدو خجولا ويتحدث بلهجة ريفية. إنه مازن العقاد، نزلت مهرولا من المنزل لأرى الخدعة. لم يكن ثمة خدعة في الأمر، موظف بالشؤون القانونية بوحدة محلية لقرية قرب المحلة الكبرى وسط الدلتا، يدخن سجائر السوبر الشعبية ويرتدي ملابس خارج الموضة، خجل بشكل مرضي تحسبه تكلفاً أو خدعة تمثيلية، قال لي: أصل أنا فشلت أني اكون أي حاجة، أنا عندي 43 سنة، مش متجوز ولا عندي الظروف اللي تسمحلي بالجواز، عايش مع أمي وهيا اللي قالتلي يابني ماتكتب قصة يمكن تنفع الناس بدل قعدتك دي، أصل أنا جربت كل أنواع الشغل ومانجحتش في حاجة، قلت يعني لو كتبت إيه اللي حيحصل.
بلا مبالغة، كانت هذه لغة العقاد، كان مندهشا للغاية أن نكون قرأنا عمله، ثم تعمق إندهاشه من موافقتنا على نشرها. لم يأت إلى القاهرة مرة أخرى، لم يتسكع من بعدها على أي مقهى متفاخرا بروايته، يوم مناقشتها لم يصدق وجود التلفزيون فـ«هلفط» كلاماً على سجيته، ثم أختفى حتى دون أن يسأل عن نسخه، أو مبيعاته، أو أي شيئ، هكذا كفص ملح ذاب.
الرواية تحتوي لغة عادية، وبناء يشوبه بعض المشكلات، لكن الحكي بها والإنتقال من مكان إلى آخر، من زمن إلى آخر، من بؤرة إلى بؤرة، ثم قدرته الفذة على كسر كل الإحتمالات في تصاعدات الأحداث الدرامية لايضاهيها أحد في المشهد الكتابي الحإلى بمجمله. يكتب عن مدينة القاهرة وحبيبة مجهولة تصطاده لتتزوجه، تختفي فجأة بعد أن حملها منتحرة إلى المستشفى. بمجرد عبوره لشارع المنيل ومحاولة عودته لتسلم الجثة يكتشف عدم وجود جثة، ينكره أطباء المستشفى، ينكره حتي البواب في عمارته السكنية، يدخل الشقة التي تركها من ساعات ليجدها مهجورة وتعود لعائلة هجرت مصر منذ سنوات، ... فالتقرأوها أفضل.
حالة مازن هي ماستر سين هذا النفق، تكرر الأمر مع طبيب ألف رواية للمرة الأولى إسمها الباخرة كليوباترا، رواية تاريخية تدور في العشرينيات بين الأقصر والقاهرة، زمن نشاط المخابرات السوفيتية الوليدة والإنجليزية العتيقة على ظهر سفينة سياحية يختبئ فيها عميل سابق لكل أنواع المخابرات. رواية جريمة متقاطعة الخطوط السردية، حبكة منضبطة وإعتماد مدهش على نثريات التاريخ غير الرسمي لمصر، عند مناقشتها في ميريت بحضور كاتبها المتأنق بحكم مهنته إندهشت من ذلك الدأب المهول الذي يدفع شخصاً عادياً لكتابة رواية بوليسية تاريخية. ثم إختفى هذا الشخص أيضا.
تكرر الأمر مع حامد عبد الصمد، مؤلف رواية» وداعا أيتها السماء» مدرس للغة العربية بجامعة ألمانية، سيرة ذاتية مدهشة للتمرد على المجتمع وأعرافه، حماسة محمد هاشم دفعته لترشيحها للبوكر، ثم أختفى الكاتب في المانيا وهو يصارع شظايا نجاح روايته التي انفجرت في وجه الروح السلفية.
أستطيع أن أعدد هكذا أعمال كثيرة، فقط لدى دار ميريت للنشر التي وفرت لي مشهد دخول معظم هؤلاء الناس علينا فجأة بأعمالهم الأولى قبل أن يختفوا، وكأنهم ألقوا ببصقتهم على العالم. لم يبالوا بالتغطية الإعلامية في خلق أوهام تتعلق بذواتهم، لم يتأنقوا في مقابلات تلفزيونية ليتحدثوا عن الثقافة وهمومها، لم يفرحوا بمراسيم إرتداء عباءة الكهنة الجدد في محراب الثقافة المصرية.
بالطبع يصح التشكك في إكتمال هذه التجارب كمشروعات مكتملة، ويصح أيضا عدم إطلاق صفة السذاجة الكاملة على أشخاص قطعوا مسيرة حياتهم ليعرجوا قليلا للأدب، معظمهم تجاوزوا الثلاثينيات إن لم يكن الأربعينات، ومعظمهم وجد في الكتابة الأدبية مساحة للبوح بما يعتريه من شكوك حول الحياة، مآلها، أوهامها، وغالبيتهم لم تؤثر تلك الإنعراجة المؤقتة على إستمرار جريان حياتهم العادية.
لمحمد أبي سمرا في زيارته الأخيرة لمصر سؤال شهير، هو إعتقاد جزء لابأس به من المصريين بضرورة حكي حكاية ما، لايهتمون في ذلك بتجسير هوة ما يعتبر إختلافا مع الآخر، وكأن نصا كبيرا هو الدراما المصرية الحياتية يكتبه الجميع، ولا يهتم أي منهم أيضا بكيف يحكي حكايته. ثمة إستغناء أصيل في التركيبة المصرية عن «كيف تكتب الحكاية» بل تركيز على «كيف تحكي حكاية»، يرى الكاتب اللبناني أن الكاتب في بلده يبحث عن لغة تخصه، عن طريقة للتفكير في الحياة، فيما الكاتب المصري ـ هكذا إجمالا بما لايعني الإطلاق المخل ـ يبحث عن المشاركة في الحكاية الكبيرة بصوت خاص.
بالعودة مثلا إلى النماذج، يتسلل إلى عالم المثقفين الآن عمل مدهش آخر من أبناء الأدب من تحت الحزام، إعترافات-هكذا صنف العمل على الغلاف- عادل أسعد الميري المعنونة بـ«كل أحذيتي ضيقة»، سيرة شبه روائية لستيني قبطي تقلب بين المهن والأماكن والدول والثقافات، من طنطا الخمسينات، إلى لندن السبعينات، إلى شارع الهرم أواخر السبعينات كعازف جيتار في الملاهي: طبيب، مرشد سياحي، مدرس لغة عربية، بلا أي خبرة في الحياة، بل بكل خبرة من لم يختبر الحياة أصلا. مشكلته الأساسية هي أدبه الجم وتربيته المسيحية السيكوباتية في شقها الأمومي التي عطلت إستمتاعه بالحياة، لكن توفرت له الفرصة أن يواجه كل هذا التأخر في إكتساب الخبرات مجموعة عوامل أولية، كونه قبطياً متحللاً نسبياً من القيم المحافظة للمجتمع من حوله، كونه تعلم تعليما عاليا في زمن كانت دراسة الطب تتوافق مع السفر الحر للندن للعمل في مخبز لإستكماله، كونه أبن أسرة متوسطة الحال بالمعني الستيني الذي يعني رفاهية التمرد. وكأن كل حياته سارت هكذا نتيجة للمناخ العام الذي كان يسمح حتى للمضطهدين عائليا ودينيا بأن يتنسموا بعضاً من الحرية إذا ما أختاروا ذلك في لحظة.
المدهش في كل تلك الأعمال أيضا عدم ثقة فاعليها في كونها ذات أهمية، في إعتبارها رواية، كما يوصف عتاة الأدب «جرائمهم الكتابية» عادة،هل هو إنفجار لتعبيرات السيرة الذاتية عن نفسها؟ وإن كان، ما مبرر ذلك في تلك اللحظة بالذات؟
المؤكد، رغم عدم صدقية أي تأكيد في مثل تلك الحالات، أن ثمة إحساساً طاغياً بإنفلات الحياة العامة والخاصة في مصر عن حدود الفهم المشترك، عن إنضواء زمن بالكامل لصالح لحظة غير مفهومة حاضرة ومنفلتة في آن، يصلح في مثل تلك الأحوال التشبث بما إفترض في زمن سابق بأنه «قانون الحياة» ، أو كونها كانت تسير هكذا قبل أن يعتريها الغموض، وربما هو التعبير عن ملل الضمير الجمعي بما أستقر أدبيا من التعبير عن سردية واحدة ذهبية لكل ماحدث في مصر، سردية يتردد صداها في الأدب الرسمي الشرعي، حيث يحتفي الكهنة بإجترار نفس التأسي الدائري «عما كناه يوما»، أو هي إنتفاضة لاواعية عن جمعية الوسائل الأخرى في التعبير عن الحياة الفردية، وسائل مثل السينما، التلفزيون، الصحافة، الكتب الساخرة الجديدة، المدونات، مثل هذه الوسائل التي فيما هي تدّعي تعميق فردية الأشخاص، تمحو دون أن تدرك في إبتذالها قيمة الصوت الفردي العصي على الجمع والإنحباس في تصنيف واحد.
مبعث هذه الثقة في الكلمة تحديدا كأداة لإشهار الذات، هو تعبير عن إرتداد جمعي إلى ما أتفق عليه كـ«مسوّغ وجود». ثمة إنفلات في التعبيرات الخاصة عبر السينما المستقة مثلا، إلا أن الكتابة تظل في النهاية أداة ورأسمال معرفي في حده الأدنى. لاتحتاج الكتابة لمعدات تصوير باهظة التكاليف. لا تحتاج الكتابة في لحظة سيولة تسويقية إلى «سابقة أعمال من النوع الثقيل»، كل ما في الأمر ورقة وقلم، براح لايشارك فيه الآخرون ولا تحتاج فيه لهم، إلا بدرجات الإستدعاء المنضبطة. بل إنها لاتحتاج لاحقا إلى إعتراف من أحد، لا بالأهمية، ولا بالشهرة، فالجميع يكتب هكذا لأنهم يريدون قول شيء ما، وغالبا ماتجده، فقط قليل من الصبر، وايمان بأن في الحياة ما لا يزال صالحا للكشف. هكذا يعتقدون، وفي هذا ثمة إتفاق ضمني على الأقل.

6 إبريل... إبتسم الصورة تطلع أحلى

هاني درويش
مرت ذكرى 6 ابريل - نيسان السنوية بمظاهرة مجهضة ونيف وسبعين من المعتقلين، ونستطيع أن نضم إلى نتاجها خمسة تقارير إخبارية في قنوات فضائية تتقدمهم البي بي سي وعشرات الأخبار على المواقع الإلكترونية، تظهر جميعها إفراط الشرطة المصرية كالعادة في إستخدام العنف ضد متظاهرين.
هذه الجردة الحسابية لا تعني قصورا في الأداء شاب تحرك الحركة الشبابية أو عدم إخلاص الجهات الأمنية في تنفيذ واجبها السياسي، لكن الرعب الذي بثته قوى الأمن في إنتشارها وتوترها وعنفها البالغ شكل للمواطن العادي تجهيزا لإجهاض ثورة لا لضرب مئات المتظاهرين. ولا جديد في هذا الحس الإحترازي الضخم، لكن الجديد هو قصوره عن تطوير أليات مواجهة بعض الشباب خارج منطق إشاعة الرعب، وهو منطق لا يتناسب نهائيا مع أجهزة تقدر خصومها الإفتراضيين وتتحرك بما يوازي قوتهم.
قوة 6 إبريل كحركة هي في الغالب موطن هشاشتها، حيث تضم في تنويعاتها معظم من جاؤوا إلى العمل السياسي بمنطق الهواة. يظهر ذلك في الشعارات الفضفاضة مثل التغيير، وجمهورها تربي داخل غرف الشات والمنتديات الإلكترونية. جمهور هو بطبيعته يدخل الحراك السياسي ويترجم لغة جديدة في علاقته بالسلطة، فهذه الأخيرة تتعامل مع عضوية مائية منسربة، لاملفات مسبقة، لا هيكل واضحاً مستقراً بمكن ضرب قياداته، وأيا كانت قدراتهم في المراقبة الإلكترونية تبقى الحركة عصية على تشكيل جسد متماسك، ليسوا إخوانا مسلمين يمكن التنصت على مكتب إرشادهم ولم أعضائهم من المنازل، ليسوا قوى سياسية نظامية كالناصريين أو الماركسيين القابلين للإختراق بالطرق التقليدية.
وليست السيولة وحدها هي موطن قوتهم، بل لاغائية الشعارات أو لنقل بساطتها، غائية ترفض المستقر، ترفض التحزبات المستهلكة وتطالب بالمستقبل المختلف، وهذا ما يجعلهم ثواراً جوالين بمعنى الكلمة، يغطي شعارهم (التغيير) مروحة أوسع من المطالب الفئوية أو المسيسة التقليدية التي ضجر المواطن العادي في وصل معناها بمعنى حياتي ممركز. التغيير هنا يطال ما أفترض من ثبات في المشهد، ومن ثم يمثل لغما قابلاً للتفجير في حافلة مواصلات أو عند إشارة مرور أو عند حدود الجامعة وطلابها. لغم هو الأقدر على قلب الطاولة رأسا على عقب، ومن ثم يأتي الرعب والخوف منهم.
تكنيكات الحركة أيضا مدهشة. فقبل أيام أرسلت رسالة نصية على الهاتف لمدير أمن القاهرة تستأذنه في مسير المظاهرة، وكأنها تورّطه كند تم تجريسه إعلاميا في القضية، مطالبهم كانت بسيطة ، مقابلة رئيس مجلس الشعب وتقديم ورقة للإصلاح السياسي، وهو مطلب، على خفته وبساطته، جرى تعميمه بما يعني حقنا البسيط في التعامل مع رأس السلطة التشريعية كمواطنين.
هذه مطالب وتكنيكات ما تحت سياسية بإمتياز، أو هي في المرحلة البدائية للسياسية، تطلب الإذن ، تظهر ميلا إلى إستيعاب التراتبية، وتمارس حقا دستوريا من الدرجة الأولى. أتبع ذلك قائمة من التنبيهات جرى تعميمها عبر رسائل الموبايل حملت عنوان» إبتسم وأنت تتظاهر». والقائمة تتضمن تكنيكات محددة لعدم الصدام بالشرطة، بعدم الخوف من إستعراض جبروتها في الميادين العامة، بالضحك في وجهها وأنت تسوق الأسباب لعبور الطريق بين كردوناتها، بوسائل تكنيكية جغرافية سلمية لإعادة التمركز، توحيد الهتاف في أشخاص، وكأنهم حرفيا في رحلة إستمتاع جامعية.
المتأمل للرسالة التي نشرتها جريدة الشروق، يكتشف تلك الروح الرهبانية السلمية الذكية، ربما تذكرنا ببعض تكنيكات الجماهير الآسيوية التي تناضل نضالا سلميا، وهي تكنيكات راقبت وحللت أداء الأمن المصري التقليدي في تعامله مع الحشود، وهي محاولة لم تبذلها أي من التيارات السياسية التقليدية في علاقتها بأعضائها أو جمهورها الإفتراضي، تكتيكات تعلى من شأن سلامة المتظاهر أولا، ولا تضع روح الإندفاع والدعوة الى مشاغبة الأمن وتحويل الموقعة إلى مذبحة محسومة الضحية. وتتبع هذه التكنيكات عناية الوجستية متطورة، عبر الربط بالتويتر والفيس بوك من خلال غرفة عمليات إلكترونية تبث أخبار تحركات الأمن والحشود، تحذر من كمائن الأمن المرتجلة، تعيد تنظيم تمركزات المتظاهرين على الهواء، وعلى الهواء تبث أخبارا للعالم لحظة بلحظة عن إعتداءات الأمن على المتظاهرين، لدرجة أن الخبر الأول الذي بثته البي بي سي عن الصدامات كاد أن يكون في اللحظة الأولى الواقعية.
الأمن المصري بوغت، هذا إن لم يكن فوجئ، بتغطية كل القنوات ولجأ إما إلى سحب كاميراتها، كما حدث مع الجزيرة، أو سحبته الأحداث إلى مستوى ظهور ضباطه صوتا وصورة وهم يمعنون ضربا وتهويلا في المتظاهرين كما حدث على البي بي سي. الأمن طور تكنيكه في شيء واحد، هو إستخدام عناصر نسائية لضبط المتظاهرات على تخوم الميادين عبر التفتيش الذاتي والتحرش ضربهن بقسوة، وظهرت متظاهرات عاديات وهن يبكين إما لطزاجة خطف زميل لهن، أو لخروجهن سالمات من أيدي قوات الأمن الباقية على بعد خطوات من الكاميرا.
مايبشر بالإختلاف فعلا، أن حركة 6 إبريل التي تعالت عليها القوى السياسية التقليدية واتهمتها بالنضال الافتراضي، هذه الحركة إستطاعت أن تطور أسلوبا للمواجهة واقعياً إلى أقصي درجة، وصدامي بصدور أبناءها الهواة أكثر مما أنجزته القوى التقليدية على مر نضالها المنظم، والحركة وهي تقدم على ذلك طورت ما يمكن تسميته بمجال حماية أوسع، يعتمد التكنولوجيا والميديا. فهي تعلم أن حراكها لا يهدف الى تحقيق مكسب واقعي على الأرض من النظام، هي لا تتفاوض معه، ليس لديها مرشحين أو كعكة يمكن إقتسامها مع النظام، هي تسعى تحديدا إلى فضحه في دورات من الصدام المتتالي، الصدام الذي يصبح صداعا وتنميلا لأطرافه، لا تفجيرا ولا تثويرا. وهي بهذا التكنيك تحول ما اعتبره الأمن «لعب عيال» إلى ما يمكن تسميته بحرب استنزاف إعلامي متصل. فأمس ذهب نشطاؤها إلى نجع حمادي للتحقيق المستقل فيما حدث. إعتقلتهم قوات الأمن من محطة القطار، ثم خرج أعضاؤها من بعض الجامعات لجمع تواقيع على بيان البرادعي للإصلاح، فجرى اعتقالهم.
ترث الحركة بذلك تكنيكها الأول وتطوره للنضال السلمي، فمن لبس الشارات السوداء وتعليق أعلام مصر في الشرفات بدأت في موجتها الأولى، موجة جاء أثرها في المحلة. وعلى خطى ذلك التلاحم المتزامن مع مواطن القلق اليومي، شجعت خطواتهم الحركات المطلبية البسيطة لتحسين الدخل فبات سور مجلس الشعب معملا يوميا للتظاهر.
بات التظاهر وحده تعبيرا فرضته الحركة بشعاراتها الفضفاضة، وما أقساه من تكنيك يستفز جهاز أمني بات لايعرف كيف يوزع قواه، عند الجامعة أم على أسوار الجامعات، عند مجلس الدولة أم على عتبات المصانع، وهم في هذا التكنيك أعادوا الثقة لجماهير غفيرة إبتعدت لسنوات طويلة عن الشارع بمعناه الجغرافي. الشارع بوصفه رصيفا للوقوف ورفع المطالب حتى لو إنتهى الأمر بلا مكسب واضح.
وفيما تتسع رقعة 6 إبريل ببطء، أو فيما هي تضم جمهورا جديدا على الحركة المطلبية، بشعاراتها الفضفاضة والمركزية والدون كيخوتية، تتقلص قدرات القوي التقليدية التي إستأنست إما النضال الإعلامي أو النضال المشروط بترتيبات أمنية مسبقة، وأكسبت بعفوية شبابها المطلب العام بالتغيير كما يحمله البرادعي جمهورا أو حاضنة عضوية صغيرة، بل وجعلت من مصر نقطة إخبارية مركزية عنوانها «ثمة شيء يتغير في مصر».
بين أسماء معتقلي الأسبوع الماضي المجهولين لناشط سياسي سابق مثلي لاحظت إسم طارق أبو العلا، وهو مخرج تلفزيوني وصديق قديم. عبر متابعتي البصرية لتعليقاته وأنشطته الفيسبوكية، إتسق مظهره الأخير أو لقطته الأثيرة لديّ. فطارق كما أعرفه ليبرالي وعلماني بالفطرة كما عهدته في مبنى الإذاعة والتلفزيون، محب لمحمد منير وللأفكار الإشتراكية من بعيد لبعيد، أبن أسرة برجوازية قديمة، وضع على البروفيل الخاص به صورة البرادعي، لم يكن يوما سياسيا أو مهتما بالسياسية، كان وسط عمله التقني وأحلامه في «الكارير» اللاهث بالنجاح والأموال والإقتراب والحظوة من إنتلجنسيا التزييف اليومي. كان أقرب إلى منقسم على خاصرة ما يعمله ويحقق له البرستيج الطبقي وبين حساسية محبطة من الشأن العام، قدرة 6 إبريل على جعل طارق أبو العلا معتقلا في تظاهرة في ميدان التحرير تعنى قدرتها على إختراق جمهور مختلف، جمهور هو على حواف التمرد على ركود الحياة العادية ومنتظر لفكرة تبلور له مطلبا إنسانيا بسيطا هو «التغيير». وأحسب أن أبو العلا ليس وحده في هذا السياق، بل إنه يمثل اختراقا تاريخيا للسياسة بوصفها عملاً احترافياً لمجموعة من المضطربين نفسيا أو غير المتكيفين مع الحياة. تحية لأبو العلا ولـ 6 إبريل، ولكل من يدخل هذا العالم بشروط الهواة، فقد ضجرنا والحق كلمة إحتراف.