سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الثلاثاء، أبريل ٢٠، ٢٠١٠

6 إبريل... إبتسم الصورة تطلع أحلى

هاني درويش
مرت ذكرى 6 ابريل - نيسان السنوية بمظاهرة مجهضة ونيف وسبعين من المعتقلين، ونستطيع أن نضم إلى نتاجها خمسة تقارير إخبارية في قنوات فضائية تتقدمهم البي بي سي وعشرات الأخبار على المواقع الإلكترونية، تظهر جميعها إفراط الشرطة المصرية كالعادة في إستخدام العنف ضد متظاهرين.
هذه الجردة الحسابية لا تعني قصورا في الأداء شاب تحرك الحركة الشبابية أو عدم إخلاص الجهات الأمنية في تنفيذ واجبها السياسي، لكن الرعب الذي بثته قوى الأمن في إنتشارها وتوترها وعنفها البالغ شكل للمواطن العادي تجهيزا لإجهاض ثورة لا لضرب مئات المتظاهرين. ولا جديد في هذا الحس الإحترازي الضخم، لكن الجديد هو قصوره عن تطوير أليات مواجهة بعض الشباب خارج منطق إشاعة الرعب، وهو منطق لا يتناسب نهائيا مع أجهزة تقدر خصومها الإفتراضيين وتتحرك بما يوازي قوتهم.
قوة 6 إبريل كحركة هي في الغالب موطن هشاشتها، حيث تضم في تنويعاتها معظم من جاؤوا إلى العمل السياسي بمنطق الهواة. يظهر ذلك في الشعارات الفضفاضة مثل التغيير، وجمهورها تربي داخل غرف الشات والمنتديات الإلكترونية. جمهور هو بطبيعته يدخل الحراك السياسي ويترجم لغة جديدة في علاقته بالسلطة، فهذه الأخيرة تتعامل مع عضوية مائية منسربة، لاملفات مسبقة، لا هيكل واضحاً مستقراً بمكن ضرب قياداته، وأيا كانت قدراتهم في المراقبة الإلكترونية تبقى الحركة عصية على تشكيل جسد متماسك، ليسوا إخوانا مسلمين يمكن التنصت على مكتب إرشادهم ولم أعضائهم من المنازل، ليسوا قوى سياسية نظامية كالناصريين أو الماركسيين القابلين للإختراق بالطرق التقليدية.
وليست السيولة وحدها هي موطن قوتهم، بل لاغائية الشعارات أو لنقل بساطتها، غائية ترفض المستقر، ترفض التحزبات المستهلكة وتطالب بالمستقبل المختلف، وهذا ما يجعلهم ثواراً جوالين بمعنى الكلمة، يغطي شعارهم (التغيير) مروحة أوسع من المطالب الفئوية أو المسيسة التقليدية التي ضجر المواطن العادي في وصل معناها بمعنى حياتي ممركز. التغيير هنا يطال ما أفترض من ثبات في المشهد، ومن ثم يمثل لغما قابلاً للتفجير في حافلة مواصلات أو عند إشارة مرور أو عند حدود الجامعة وطلابها. لغم هو الأقدر على قلب الطاولة رأسا على عقب، ومن ثم يأتي الرعب والخوف منهم.
تكنيكات الحركة أيضا مدهشة. فقبل أيام أرسلت رسالة نصية على الهاتف لمدير أمن القاهرة تستأذنه في مسير المظاهرة، وكأنها تورّطه كند تم تجريسه إعلاميا في القضية، مطالبهم كانت بسيطة ، مقابلة رئيس مجلس الشعب وتقديم ورقة للإصلاح السياسي، وهو مطلب، على خفته وبساطته، جرى تعميمه بما يعني حقنا البسيط في التعامل مع رأس السلطة التشريعية كمواطنين.
هذه مطالب وتكنيكات ما تحت سياسية بإمتياز، أو هي في المرحلة البدائية للسياسية، تطلب الإذن ، تظهر ميلا إلى إستيعاب التراتبية، وتمارس حقا دستوريا من الدرجة الأولى. أتبع ذلك قائمة من التنبيهات جرى تعميمها عبر رسائل الموبايل حملت عنوان» إبتسم وأنت تتظاهر». والقائمة تتضمن تكنيكات محددة لعدم الصدام بالشرطة، بعدم الخوف من إستعراض جبروتها في الميادين العامة، بالضحك في وجهها وأنت تسوق الأسباب لعبور الطريق بين كردوناتها، بوسائل تكنيكية جغرافية سلمية لإعادة التمركز، توحيد الهتاف في أشخاص، وكأنهم حرفيا في رحلة إستمتاع جامعية.
المتأمل للرسالة التي نشرتها جريدة الشروق، يكتشف تلك الروح الرهبانية السلمية الذكية، ربما تذكرنا ببعض تكنيكات الجماهير الآسيوية التي تناضل نضالا سلميا، وهي تكنيكات راقبت وحللت أداء الأمن المصري التقليدي في تعامله مع الحشود، وهي محاولة لم تبذلها أي من التيارات السياسية التقليدية في علاقتها بأعضائها أو جمهورها الإفتراضي، تكتيكات تعلى من شأن سلامة المتظاهر أولا، ولا تضع روح الإندفاع والدعوة الى مشاغبة الأمن وتحويل الموقعة إلى مذبحة محسومة الضحية. وتتبع هذه التكنيكات عناية الوجستية متطورة، عبر الربط بالتويتر والفيس بوك من خلال غرفة عمليات إلكترونية تبث أخبار تحركات الأمن والحشود، تحذر من كمائن الأمن المرتجلة، تعيد تنظيم تمركزات المتظاهرين على الهواء، وعلى الهواء تبث أخبارا للعالم لحظة بلحظة عن إعتداءات الأمن على المتظاهرين، لدرجة أن الخبر الأول الذي بثته البي بي سي عن الصدامات كاد أن يكون في اللحظة الأولى الواقعية.
الأمن المصري بوغت، هذا إن لم يكن فوجئ، بتغطية كل القنوات ولجأ إما إلى سحب كاميراتها، كما حدث مع الجزيرة، أو سحبته الأحداث إلى مستوى ظهور ضباطه صوتا وصورة وهم يمعنون ضربا وتهويلا في المتظاهرين كما حدث على البي بي سي. الأمن طور تكنيكه في شيء واحد، هو إستخدام عناصر نسائية لضبط المتظاهرات على تخوم الميادين عبر التفتيش الذاتي والتحرش ضربهن بقسوة، وظهرت متظاهرات عاديات وهن يبكين إما لطزاجة خطف زميل لهن، أو لخروجهن سالمات من أيدي قوات الأمن الباقية على بعد خطوات من الكاميرا.
مايبشر بالإختلاف فعلا، أن حركة 6 إبريل التي تعالت عليها القوى السياسية التقليدية واتهمتها بالنضال الافتراضي، هذه الحركة إستطاعت أن تطور أسلوبا للمواجهة واقعياً إلى أقصي درجة، وصدامي بصدور أبناءها الهواة أكثر مما أنجزته القوى التقليدية على مر نضالها المنظم، والحركة وهي تقدم على ذلك طورت ما يمكن تسميته بمجال حماية أوسع، يعتمد التكنولوجيا والميديا. فهي تعلم أن حراكها لا يهدف الى تحقيق مكسب واقعي على الأرض من النظام، هي لا تتفاوض معه، ليس لديها مرشحين أو كعكة يمكن إقتسامها مع النظام، هي تسعى تحديدا إلى فضحه في دورات من الصدام المتتالي، الصدام الذي يصبح صداعا وتنميلا لأطرافه، لا تفجيرا ولا تثويرا. وهي بهذا التكنيك تحول ما اعتبره الأمن «لعب عيال» إلى ما يمكن تسميته بحرب استنزاف إعلامي متصل. فأمس ذهب نشطاؤها إلى نجع حمادي للتحقيق المستقل فيما حدث. إعتقلتهم قوات الأمن من محطة القطار، ثم خرج أعضاؤها من بعض الجامعات لجمع تواقيع على بيان البرادعي للإصلاح، فجرى اعتقالهم.
ترث الحركة بذلك تكنيكها الأول وتطوره للنضال السلمي، فمن لبس الشارات السوداء وتعليق أعلام مصر في الشرفات بدأت في موجتها الأولى، موجة جاء أثرها في المحلة. وعلى خطى ذلك التلاحم المتزامن مع مواطن القلق اليومي، شجعت خطواتهم الحركات المطلبية البسيطة لتحسين الدخل فبات سور مجلس الشعب معملا يوميا للتظاهر.
بات التظاهر وحده تعبيرا فرضته الحركة بشعاراتها الفضفاضة، وما أقساه من تكنيك يستفز جهاز أمني بات لايعرف كيف يوزع قواه، عند الجامعة أم على أسوار الجامعات، عند مجلس الدولة أم على عتبات المصانع، وهم في هذا التكنيك أعادوا الثقة لجماهير غفيرة إبتعدت لسنوات طويلة عن الشارع بمعناه الجغرافي. الشارع بوصفه رصيفا للوقوف ورفع المطالب حتى لو إنتهى الأمر بلا مكسب واضح.
وفيما تتسع رقعة 6 إبريل ببطء، أو فيما هي تضم جمهورا جديدا على الحركة المطلبية، بشعاراتها الفضفاضة والمركزية والدون كيخوتية، تتقلص قدرات القوي التقليدية التي إستأنست إما النضال الإعلامي أو النضال المشروط بترتيبات أمنية مسبقة، وأكسبت بعفوية شبابها المطلب العام بالتغيير كما يحمله البرادعي جمهورا أو حاضنة عضوية صغيرة، بل وجعلت من مصر نقطة إخبارية مركزية عنوانها «ثمة شيء يتغير في مصر».
بين أسماء معتقلي الأسبوع الماضي المجهولين لناشط سياسي سابق مثلي لاحظت إسم طارق أبو العلا، وهو مخرج تلفزيوني وصديق قديم. عبر متابعتي البصرية لتعليقاته وأنشطته الفيسبوكية، إتسق مظهره الأخير أو لقطته الأثيرة لديّ. فطارق كما أعرفه ليبرالي وعلماني بالفطرة كما عهدته في مبنى الإذاعة والتلفزيون، محب لمحمد منير وللأفكار الإشتراكية من بعيد لبعيد، أبن أسرة برجوازية قديمة، وضع على البروفيل الخاص به صورة البرادعي، لم يكن يوما سياسيا أو مهتما بالسياسية، كان وسط عمله التقني وأحلامه في «الكارير» اللاهث بالنجاح والأموال والإقتراب والحظوة من إنتلجنسيا التزييف اليومي. كان أقرب إلى منقسم على خاصرة ما يعمله ويحقق له البرستيج الطبقي وبين حساسية محبطة من الشأن العام، قدرة 6 إبريل على جعل طارق أبو العلا معتقلا في تظاهرة في ميدان التحرير تعنى قدرتها على إختراق جمهور مختلف، جمهور هو على حواف التمرد على ركود الحياة العادية ومنتظر لفكرة تبلور له مطلبا إنسانيا بسيطا هو «التغيير». وأحسب أن أبو العلا ليس وحده في هذا السياق، بل إنه يمثل اختراقا تاريخيا للسياسة بوصفها عملاً احترافياً لمجموعة من المضطربين نفسيا أو غير المتكيفين مع الحياة. تحية لأبو العلا ولـ 6 إبريل، ولكل من يدخل هذا العالم بشروط الهواة، فقد ضجرنا والحق كلمة إحتراف.