سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الأحد، يونيو ٢٢، ٢٠٠٨

ليلة لم يأكل فيها السويسريون الكباب التركي


ليلة لم يأكل فيها السويسريون الكباب التركي
وحضر السلطان سليمان القانوني إنتصار موقعة "بازل"
هاني درويش

عندما احرز اللاعب حاكين ياكين رأس حربة المنتخب السويسري هدف بلاده الأول لم يجري سعيدا علي عادة الإنفعال الدارج الذي تلوح فيه القبضات وتجز الأسنان، بدي خجلا كمنفذ حكم الإعدام بالكرسي الكهربي ، الذي يرفع مقبص الفولت العالي بآلية من يقول صباح الخير، لم يجري سعيدا بل وحاول أو تجنب فعليا إحتضان زملاءه المهنئين المنفعلين، ذلك انه احرز هدف التقدم في تركيا بلده الأم، وكأنه يكفر ضمنيا عن هذا الذنب، كان ذلك أحد المشاهد الفارقة في ملحمة لقاء تركيا بسويسرا يوم الاربعاء الماضي في إطار بطولة الأمم الأوروبية لكرة القدم، فقد قدر للمشاهدين أن يحضروا تلك المعركة المجازية الكبري لمدة 120 دقيقة من صعود وهبوط المواجهة بين شرق وغرب كلاهما يتبادل الشيفونية مجازا علي هيئة كرة قدم مطاطية، كرة قدم ركلت بعنف بدائي، عنف تناص بالمبارة من ذلك الطقس الوثني التطهري المنتمي للعصور الوسطي والذي به دشن الإنجليز لعبة كرة القدم من قلب محاكم التفتيش، كان القرويون الإنجليز في العصور الوسطي يقطعون رأس المهرطقين ويركلونها بالإقدام من قرية إلي أخري، فعرفت كرة القدم من قلب تلك المعمعة الإنتقامية البدائية، وفي ليلة إستاد بازل إستدعي الجميع وأستحضروا القيمة المخبؤة في هذا الطقس حتي لو خفف من حدة المشهد الإعلانات التجارية البراقة وجمال أرجاء الملعب ذو الحشائش الخضراء والتنظيم الدقيق والأضواء المبهرة، فصباح المعركة الكروية خرجت الصحف الشعبية السويسرية تحمل عنوانا دالا "الليلة سنأكل الكباب التركي" في إستعارة أقرب لتاريخ قريب وقف فيه الفييناويون- وكانت سويسرا جزءا من أمبراطورية النمسا الشهيرة- يغيظون جيش الحصار العثماني لمدينتهم بعجينة مخبوزة تشبه الهلال الإسلامي وهم يمضغونها بتلذذ، عجينة ستتحول مع الأيام إلي "الكورواسون" الشهير رمز مهانة السلطان سليمان القانوني الذي انتهت مغامرته عند أسوار العاصمة النمساوية وبدء منذ تلك اللحظة مسيرة "للخلف در" التي أكسبت بلده لاحقا لقب "رجل أوروبا المريض".
السلطان سليمان كان حاضرا في نحو ما يزيد نصف مليون تركي يعيشون في سويسرا، اشتري منهم نحو 40 ألفا تذاكر للمباراة ذات الحس الثأري، كان حاضرا في علم الدولة الأحمر ذو الهلال والنجمة، بينما أوروبا تواجهه بعلم أحمر آخر يحمل صليبا ابيض، أوروبا في نسخة هشة أسمها سويسرا المنقسمة علي خاصرة اربع لغات، بلد الخدمات والرفاة الراقية والمهاجرين والثلوج و الفيفيا والحياد، تواجه أبناء الأناضول المتحفزين في كرة القدم كما في السياسة لإثبات هويتهم الأوروبية المنقوصة، ذهنيتان تتصادمان في ليلة حملت لها الأقدار أمطارا حولت حلبة الملعب إلي بركة من الركل والماء المتطاير والأنوف التي تمخر بخار الماء وكثير الكثير من الدماء التي إنفجرت من رؤوس اللاعبين، نزف لاعبو تركيا من جباههم الدماء فصرخ المذيع المصري "هاهي الدماء الساخنة تستفز من أجل رفعة الوطن التركي المسلم" وكأن موقعة بازل إنتقام للشرف الممرغ في تراب الدنمارك، وفيما بدأ هطول الأمطار إلتجأ المشجعون السويسريون- المحتسبين للأمر بدقة ساعاتهم الشهيرة -في إخراج معاطف المطر الشفافة كان المشجعون الأتراك يلتمون وجوههم كعصابات قطاع الطرق، أما في ساحة المعركة حيث قعقعة الركل والضرب والدماء فكان المنتخب السويسري الذي لم يعرف عنه الحمية أو العنف متفاخرا بعنفوان الشباب في فريقه، متوسط اعمار الفريق السويسري لم تزد عن ال23 عاما، ضم لاعبان تركيان وآخر إيطالي وفرنسيان وواحد من جزيرة الرأس الخضراء، محفل كوزموبوليتاني من أبناء الجيل الثاني من المهاجرين يواجهون رؤوسا مربعة اناضولية أقرب للميلشيا بمتوسط أعمار يصل إلي الثلاثينن، كان المذيع المهووس بإذكاء تلك الجلجلة بنيران مواجهة الشرق للغرب يذكر كل دقيقيتين مشاهدينه بأعداد الأتراك والمسلمين في أوروبا، ومحتفيا بالدماء الأناضولية النازفة قال: هاهم أبناء الأناضول يستعيدون أمجاد الأزمان الغابرة، قبل ان يستدعي –كل دقيقتين أيضا- ذكري معركة كروية قريبة أخرجت فيها سويسرا تركيا من تصفيات كأس العالم ملمحا بمؤامرة تحكيمية رجحت كفة الفريق السويسري في تلك الليلة.
لم يبك المشجعون السويسريون عندما أطلق الحكم صافرة النهاية، أنصرفوا بوجوهههم الملونة فيما الأتراك الفائزون انهاروا بكاءا بعد أن سجلوا هدف الفوز في الدقيقة الثالثة من الوقت الضائع، لم يبك من اللاعبون السويسريون غير اللاعبين الأتراك، سقطوا علي نجيلة الملعب الموحلة وقد إنهار إحساسهم بمنحة الهوية الأوروبية التي لم تحمهم من عصبية الجذور، يبقي أن نشير إلي أن المذيع المصري وإمعانا في تسخين أجواء المعركة منذ ركلة البداية أشار إلي أن مدينة بازل السويسرية تحمل جرحا عربيا مفتوحا بإستضافتها منذ مايزيد عن القرن المؤتمر الصهيوني الأول ، قال تلك الإشارة ثم تحدث عن تسامح السويسريون وأدبهم وإحترامهم -الذي لم ينجيهم من الهزيمة-، وكأن قانون المجنونة المستديرة ينتصر لروحه البدائية القديمة فتفوز تركيا وينهزم السويسريون، لكن هل يعني ذلك ما هو أكثر من مجرد مبارة؟ لم يجيب المذيع عن السؤال.