سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الأحد، يونيو ٢٢، ٢٠٠٨

شهادة متأخرة عن بيروت المحتفية بالطبوغرافيا والصخب


شهادة متأخرة عن بيروت المحتفية بالطبوغرافيا والصخب
هنا وهناك ...من يكفرون عن ذنب انهم وجدوا
هاني درويش
" تأخرت هذه الشهادة عن بيروت طويلا، ولا ذنب لبيروت أولي في ذلك، فكتابتها الأولي تمت فورعودتي منذ شهران، لكن ماشهدته بيروت من مآسي بعد اسبوع واحد من عودتي أخرتها، وربما عمقت تلك الأزمة شهادتي فيما هو أبعد قليلا من فورة الحماس الذي ظللت أيام العودة الأولي، فشاء للشكوك أن تجد أخيرا تحققها، وشاء للأمل في تلك المدينة ألا ينقطع.
***
هي ذي أخيرا بيروت، أمل أخير بالدهشة، ومفاجأة حين تندر المفاجأت بحكم إعتيادنا دائما علي تحقق أسؤ الإحتمالات، جيلي المجبول علي تهذيب خياله علي فقر الواقع، ستصيبه تلك الصدمة البطيئة التي تركتها تتسرب بعمق في مسامي لنحو 8 أيام، الفرح بأن هناك ثمة مايمكن الحكي عنه في مدينة الأحلام تلك غير مستوي عري بناتها أو فحش مظاهر إحتفائها بالإستهلاك، حتي مع أقسي الإتهامات التي تعلبها في عيادة جراح تجميل تزدحم فيها النساء حقد ما علي هذا المستوي من محبة الحياة التي بتنا نكرهها، نعم نكرهها، ونكره فيما نحن نقتتل يوميا علي البقاء فيها أن يتمادي آخرون في محبتها، كان من حق محمد أبي سمرا أذن أن يلخص القاهرة في أول زيارة له بأنها مدينة هرمة ومتعبة، ذلك ان التداعي البطئ الصبور المصمم والكارثي بلاعودة لمدينة بحجم القاهرة أمسي علامة للتعجب، ربما لاننا ونحن نعيش بها تحت خيار اللاموت/اللاحياة قد نسينا أن هناك ثمة حياة يمكن أن تعاش أو موت قد يفاجئنا، مدينتي هرمة علي نقيض صبا بيروت المتجدد بلانهاية، مدينتي تنمو كراهيتها بصبر لايفجر طاقة إحتماله إلا مواجهة نقيضة علي حين غرة، إلا بيروت، فكثيرا ماأرقني ذلك الإنكفاء المصري الصميم علي إعتبار أن مصر هي أول العالم وآخره، سبعة آلاف سنة من الحضارة لاأعرف كيف اختبرها في غضب الوجوه اليومي، فحجم قطيعة التاريخ والواقع اصعب من أن تملئ فجواته أعتي التحليلات السياسية والتاريخية، قطيعة أقرب إلي نكوص جيني طبيعي ربما اصاب مدينتا بتدرج، أو كأننا بتنا فئران تجارب في معمل سري يشرف عليه نمط مندثر وشيطاني من الساسة ورجال الدين والعسكر.
من كلاشية المذبحة الزرقاء إلي بازار النضال والحداثة الفارقة
تنسمت بيروت لسنوات عبر ذلك الكتاب القديم الذي أتذكر غلافه الأزرق الذي تتمدد عليه صور مذبحة صبرا وشتيلا، كنت ابكي لسنوات كلما تذكرت صوره بتعليقاتها البسيطة، تحديد حدود المخيمان، الإنذار الأخير لقوات الكتائب، مراقبة الإسرائيليين، الجرافات، بتر الأثداء وبقر البطون، إغتصاب، قتل، تقطيع أجساد بالسكاكين والسواطير، بيروت هي المذبحة لا أكثر، خروج المقاومة الفلسطينية، يوميات الحرب الأهلية ، رؤوف مسعد، "بيروت بيروت" لاحقا لصنع الله ابراهيم، وتركيب كل ذلك علي صوت فيروز في ليالي الشتاء، وصوت مارسيل في تسجيلات ثورية بصدي الصوت وارد الأردن وسوريا، تتقاطع مع تلك الذاكرة كتابات لاحقة لمراسلين أجانب عن الحرب الأهلية تحتوي علي تلك الإستعارة الشعرية في حكاية العمة التي تحكي لأبن أخاها الناجي قصة موت أسرته بعد مذبحة أهدن، الحرب الأهلية تناسبت مع وعي مغرم بالحكاية البوليسية في روايات أجاثا كريستي وارسين لوبين، وإن بدت مشاهد القتل المتنقلة والكر والفر من وإلي الأشرفية ونحو خطوط التماس بيت البيروتتين اقرب لخيالي غالبا من اجواء السير الشعبية، الحديث هنا عن موارنة يحملون الصليب وفلسطينيون يحملون شرف العروبة وخيالات التحالف مع إسرائيل ابعدت كثيرا عن ذهننا نحن في القارة الأخري الدور الذي لعبته القوات السورية التي بدلت تحالفاتها كتبديل الثياب مشعلة الحرب من حي إلي آخر، بدت بيروت الثمانينيات البعيدة وكانها مدينة خرجت عن عقلها بالكامل، خاصة وان ميلنا الفطري لتصديق القضية الفلسطينية في كل كتاب لم يكن كافيا لفهم تلك التحورات والإنقسامات المتوالية والتحالفات المتقاطعة بين الفرقاء اللبنانيون، وكأن تاريخ الدماء المسفوح أنسي الجميع من اين ابتدوا والأقسي إلي أين انتهوا، فأصابني الضجر من القضية(فلسطين) والساحة البعيدة (بيروت) أيضا فجأة، تسرب إلي شك حقيقي -في هذا التوقيت- في معني هتاف ادمي مدامعنا حين كانت أعناقنا تشرئب مرددين في الجامعة "طفلة حلوة لكن قتيلة ...جوا صبرا وف شتيلا"، لم يكن ذلك الشك فقط وليد ما أصابنا من صدمة مع مؤتمر مدريد للسلام، كان هناك في عمق انفعالنا اليأس من فورة منتهية الصلاحية، وبدت بيروت أوائل التسعينيات في أذهان جيلنا من يسار لحظات الجزر العليا أقرب لمدينة أشباح إبتنيناها بالكامل في متاهة العقل، أنسنا بشكل لاواعي إلي خصخصة النضال –وهو زمان الخصخصة بإخلاص عبر كل ضفاف العالم- في حزب الله، كان تقسيم العمل آن ذاك ان تنهض مدينة الأشباح تلك من غفوتها (غفوتنا) بأي ثمن، أصل ذلك الإحساس إنبني وفقا لما حكاه اصدقاؤنا العائدون لأول مرة من رحلاتهم الصحفية إلي بيروت، كان برنامج الرحلة- التي أشتهرت سياحيا- ثابتا مهما كانت شخصية أو انتماء الزائر، بيروت المخيمات الفلسطينية، زيارة الجنوب في حماية مناضلي حزب الله، التقاط الصور قرب الحدود مع فلسطين المحتلة، البعض ضم إلي بازارات التباهي لاحقا بعضا من تراب الجنوب المحتل مسجلا بداية التحرير بالحفنة، كانت المدينة (البلد) تعيد انتاج صورتها من جديد، صورة منضبطة تبدأ غالبا بزيارة سوريا الأرخص والأقرب بحكم أواصر المحبة الستينية لتبدو بيروت للمغامر المصري رحلة ليومين أو ثلاثة يصحبك خلالها (التور ليدر) فيما تبقي من بازار النضال القديم(الجنوب) وجسد الحداثة الصاعدة(بيروت)، وكان القادمون منها غالبا ما ينقسمون حول شيزوفرينيا المدينة بين مرحب علي مضض وهم قلة، أو مختصر لوجهها في طلته النضالية وهم الأغلبية.

بدءا من السابع عشر من شهر إبريل وحتي الرابع والعشرين منه وفر لي ملتقي أشكال ألوان الفرصة أخيرا لمطابقة مدينة الخيال بمدينة الواقع، قبلها لعبت الصدفة دورا في اكتشاف الصديق حسن داوود خلال دورة من دورات مؤتمر الرواية بالقاهرة، ثم تشرفت بالإنضمام لقافلة المستقبل منذ خمس سنوات، كان حبل الغرام قد اتصل بحكم الكتابة التي كثيرا ما وصفها مقربون لي بأنها اقرب للمدرسة اللبنانية في الصحافة، فكان ملحق نوافذ إسما علي مسمي، فمن خلاله أصبحت الكتابة حرفة بروح الهواية والغواية، ولازلت حتي الآن افخر بكون بيروت هي قبلتي المهنية والفكرية، لذا كان طبيعيا ذلك التوتر الذي صاحب مكالمتي الأولي مع البديعة كريستين طعمة، فكما يقال في المثل المصري"قالك الجمل طلع النخلة ...طب آدي الجمل وآدي النخلة".
بيروت علي مرمي النظر من كوة الطائرة تصيبني برعشة خفيفة وتقافز لشعيرات جلد اليدين، فمشهد المدينة البحري خلال مناورة الطائرة للهبوط في مطار رفيق الحريري ذكرني بأوروبية متوسطية لم أفهم معناها إلا حين راقبت نفس المشهد أعلي مدينة "نيس"، قبلها وفيما نضبط أحزمة الأمان علي متن طائرة "الميديل أيست" فرض تحدي اوروبية بيروت نفسه، فهناك ذلك الترف والرفاة التي نخشاها ونخشي علي أنفسنا منه في مصر، عندما مرت المضيفة ذات الإبتسامة الخشبية بعربة جرائد خفت أن أمد يدي تخفيفا منذ البداية للنفقات المتوقعة، فوجئت بلا مبالاة جاري وعدم تردده عندما سحب "النهار" وسأل عن "البلد"، إذن هي مجانية، يا الله ثمة أشياء لازالت مجانية، طلبت المستقبل لأراها مطبوعة لأول مرة، في عودتها طلبت الأخبار والسفير والنهار"بثقة من فهم الفولة"، أريحية تحرك المضيفات دون خجل من أجسادهن لفتت إنتباهي إلي خروجي من المجال الحيوي للنفق الجسدي الذي نسير داخله كمصريون، تزامن ذلك مع ظهور الراكبات اللبنانيات اللآتي أحسسن بإنشراح العودة للوطن هروبا من كثافة التلصص عليهن في مصر، نساء بالمعني الإصطلاحي للكلمة لا يعنين من أرق أو عبء تحمل جمال أجسادهن فطفقن يبرزن مواضع جمالهن دون حرج، تلك الصدمة الأولي في الطائرة أرهبتني بشكل مبالغ فيه مخافة أن احسب علي تلك الفئة التي وإن عادت من بيروت بقت تتحدث لسنوات عن جمال نساءها، عتبة التهذيب بالصدمة في الطائرة ذكرتني باليوم الأخير للسفر في الجريدة، كنت قد علقت ورقة في لوحة الإعلان بالجريدة تحمل تكليف الزملاء بتسليم موضوعاتهم إلي من ينوب عني في إدارة الصفحة، لذا كان طبيعيا أن ينهال الزملاء علي توديعي وطلب "سيفونيرز"من بيروت، في العادة ، الأصدقاء سيطلبون مني زجاجة عرق أو كتاب صادر من بيروت، في هذا اليوم طلب مني نحو 13 شخص من اصل 15 قاموا بالتعليق علي سفري لبيروت طلبوا "موزة حلوة " أي بنتا علي مواصفات الكليبات الغنائية، هذا الإنشغال ببيروت "الأنثي الطافحة إغراءا" اجبرني منذ اللحظة الأولي علي الطائرة لعدم إطلاق شهية النظر المتأمل للجمال حتي بدون إكسسواره المصري الفج، ضربت وعدا رهبانيا مفاده التكفير عن هذا الخطأ المصري الكامن في تناول لبنان، ورغم ذلك ، وفيما أسلم قيادة نفسي لأول وجه لبناني طالعني في المطار- جو سائق العربة الذي صحبني إلي الفندق في الحمرا- لم استطع منع عيني من متابعة ذلك المحفل الطاغي بمحبة الجسد كما أبرزته الإعلانات في الطريق، صيف بيروت المنتظر والذي أصابني بعض "شوبه" أطلق أجساد فتيات الإعلان بالدعاية لمايوهات بكيني زاخرة بأجساد ذات سمرة ساحرة، صاحبني إعلان المايوهات وأحاطني طوال الزيارة بأجساد مشرئبة في فضاء المدينة، واكتمل تأميم الفضاء بكم الواجهات الزجاجية البراقة التي تعكس إحتفاء المواطن العادي –ذكرا كان أو أنثي- بصورته، صورة تعكسها كل المرايا في مدينة أهم ما يميزها أريحية إدامة النظر في الواجهات دون الإحساس بالغبن، دون الإحساس بأن هناك ثمة عدوانية في المطالعة، أنا القادم من مجالات وفضاءات يتبادل فيها المصريون نظرة عداء منكسرة فيما يعبرون داخل انفاق لا مرئية تقلص أي إحتمالية لتلامس أجسادهم، يخرج المصري صباحا ليرسم في الفراغ ممرا أنبوبيا يمتد من خارج باب بيته وصولا إلي العمل مرورا بالشوارع يحاول فيه أن يحمي جسده من إعتداء متوقع من مجهول، ربما لهذا تحديدا أصبح رمي كلمة "السلام عليكم" من بعيد دون إحتضان وتقبيل فولكلورا إجتماعيا أكبر من تأويله الديني، في لبنان ليس هناك ذلك الإنبوب الوهمي، الأجساد هنا تحتفي بالفضاء فيما يحتفي الفضاء بها. الفضاء يدعوك بالإعلانات والواجهات الزجاجية ونظافة الهواء والمكان إلي عدم الخوف من جسدك بل إلي التباهي به للدرجة التي تصل أحيانا إلي إستعراض ذكورة/أنوثة مدوخ، ويبدو التشكيل المعماري الناهض لبيروت معمقا لذك التلاصق الأريحي المدهش، المباني هنا بعيدا عن حداثتها المتباهية أو قدمها المفاخر بحنينيته محتشدة للدرجة التي قد تضر أحيانا بوظيفة المبني المعمارية، مبان مصممة بجمايات تحتاج مثلا لفراغ حولها كي تظهر أبعادها الجمالية لاتجد ذلك الفراغ، ثم اثناء مرورك إلي جانبها ينفجر ذلك الجمال كقنبلة موقوتة صامتة، هذا الإحتشاد في "اللاند سكيب" تعمقه أيضا الطبوغرافية البديعة للمدينة القائمة علي تباين مستويات الإرتفاع والإنخفاض لأحياءها، هنا في بيروت ثمة مبررلإستخدام كلمتي"تنزل" و"تطلع"، لاوجود أذا للتسطح المصري، للإنسياب في أبعاد طولية وعرضية ذات ابعاد أحادية، في بيروت يطغي البعد الثالث أي عمق الفضاء البصري.

ماذا تعني الحياة في مدينة مسطحة؟
هناك حكمة قاهرية شهيرة مفادها أنك إذا ما ارتكبت جريمة في ميدان التحرير فإن نهاية مغامرتك ستكون عند الطريق الدائري علي مسافة 10 كيلومترات، الدولة حاضرة تبسط قبضتها بمنطق الأبعاد المسطحة، لا مجال للمناورة في دولة يبلغ الفارق في الإرتفاع بين أقصي جنوبها(أسوان) وأقصي شمالها(الأسكندرية) عشرات الأمتار، فإذا ما اضيف لذلك مركزية العيش علي ضفاف نهر النيل في هذه المساحة الشاسعة(مليون كيلو متر مربع) أصبح منطقيا أن يضل عن المسيرة الضخمة للكتلة البشرية المصرية من أخذ قرارا بالخروج شرقا أو غربا، متاهة الصحراء من حول المصريين تربطهم بالأرض والدولة والنظام والعائلة والدين ومجمل مطلقات الحياة، ويلعب التسطح في الأبعاد دورا في تقنين التفاهل الذهني بينهم علي مستوي دوائر الأدمغة المتصلة بشبكة واحدة، لامجال هنا للطفو في الخيال أو الغوص في الذات، لامجال للخروج عن مستوي الأفكار الدارجة أو المستهلكة داخل هذه الدائرة المغلقة، كنت اقول ذلك لمحمد أبي سمرا وهو يقود سيارته نزولا وطلوعا في طريقنا من جبل الكنيسة إلي مرتفعات مونتفيردي، الطريق بين الجبال الصامتة لم تخدشه للحظة مرور سيارة منذ ساعتان ، إلتفت لأسأل وضاح شرارة :متي جاء الأسفلت إلي هذه الجبال؟ رد ببساطة ...نهاية القرن التاسع عشر، الأسفلت في مدينتنا يعني قرارا مركزيا من الدولة بأن هناك ثمة جباية منفعية في التمدد في هذا المكان، بمعني آخر لازال جزء كبير من المسطح المصري مقطع ومعزول ومكشوف ومهمل، إجابة وضاح أكتملت بأن الرهبان الذين تملكوا تلك الجبال هم من أدخلوا أسفلت الطرق منذ أكثر من قرن ونصف، إذا المجتمع هنا حاضر بما قد يتجاوز أصلا مبرر الدولة المركزية، حاضر إلي مستوي إنتفاء فائدتها بمفهومها الحديث ، مصر ولبنان علي طرفي نقيض التاريخ والجغرافيا، وحضور ذلك التعقد الطبوغرافي نفسه أثر بما لايدع مجالا للشك في التركيبة النفسية، هذه الجبال توحي بالقدرة علي الحضور والغياب معا، الحضور بالدرجة الكافية للتكيف مع المجال العام مع الإحتفاظ بالخصوصية، في بيروت ثمة مكمن ومخبأة عند كل ناصية، فإذا ما أحتسبنا المسطع مضاعفا بمعني إلتفافاته وزاواياه المختبئة وجباله صعودا وهبوطا تضاعفت فعليا مساحة المسطح من عشرة آلاف كيلو متر لتقارب المليون كيلو المحتسبة دون مبرر في مصر، لكنها هنا قيمة مضافة غير محسوسة جغرافية، قيمة في العمق الذي ينتج 19 طائفة محكومون بالتجاور الحرج، في المقابل هناك في مصر ذلك الإحتفاء الرقمي بالكم والكتلة المسطحة، بسيادة الدين الواحد والدولة الواحدة والكتلة البشرية الممتدة في عراقة التاريخ، كل ذلك يخضع لتحلل بطئ وربما غير معلن .

في ليلة "وليمة" التي دعتني إليها الصديقة رنا حايك، كان هناك وجه آخر لبيروت، وجه أن يكون البار منزلا أو مجاورا للمنزل، فبالصدفة البحتة أكتشفت كيف أن فندق إقامتي ملاصق للبار، ثم كيف أن بارات بيروت في معظمها هي جزء من البيوت، أو بتعبير آخر جزء من تركيبة الهندسة الإجتماعية للمدينة، فلا يعني كون المكان ترفيهي عزله وتجميده خارج روح الإقامة والحياة العادية، في القاهرة تضمحل أماكن السهر وتنزوي في أماكن يمكن الإشارة عليها عن بعد، في الفنادق، في المباني الخدمية كالمولات، هناك ذلك العزل الذي يحقر الإحتفاء بالبهجة، الذي يجعل من مكان السهر نقطة يشار إليها ببنان الإستهجان، أما في بيروت فخلف باب بيت تقليدي تقبع مفاجأة البار، ممر هادئ أوصلنا مثلا إلي "تايم أوت" حيث جلس يوسف بزي وزوجته في فوتيه منزلي خلفهم ستارة وأمامهم ترابيزة عامرة بإحتفاء الأسرة بمضيفها، لم أتخيل يوما أن تكون هناك تقنية قادرة علي عزل صوت الموسيقي والهرج والرقص بهذه الحدة، في داخل البار الذي صحبتني إليه إليه رنا، كانت هناك مفاجأة من نوع آخر، عشرات من شباب اليسار يرقصون ويغنون بإحتفاء بالغ علي أنغام محمد عبد الوهاب خلف زياد سحاب، بوغت كما لو أني أسمع أذان الظهر أعلي ناطحة سحاب في طوكيو، لأول مرة أري تراثي كمصري خارجا عني إلي هذا الحد، أنا هنا الغريب فيما لغتي وموسيقاي تلهم آخرين، تلك الصدمة ألجمتني، لدرجة أني وأنا المهووس بالرقص عاودتني أزمة جسدي مرة أخري، فضيق المكان لايترك مجالا للحرج المصري من الملامسة العابرة الخالية من النوايا، كانت الفتيات يهرولن بين البار وساحة الرقص متحللات من أعتذاراتي وهن يفاجئني بالملامسة كأني كرسي أو كتلة جامدة لاخوف منها ولا يحزنون، إلتصقت اكثر بملابسي وإرتكنت علي الحائط، كأس الجن بدأ في تليين مفاصلي المتخشبة من المفاجأة، دخلت حلبة الرقص متجرءا مع فورة الكحول، وفي قلب مبارة الرقص أعادتني صدمة أخري الإلتصاق بالحائط، قبلها تململت قليلا من فلسفة غناء ألحان الشيخ إمام الحنجورية وسط هذا المحفل المبتهج بالحياة، ما نوع الشيزوفرينيا الذي يسمح لنا بمجاورة محبة الموسيقي بالجعير؟، هل يحتاج هؤلاء الشباب فعلا لتغطية محبتهم للحياة بإكسسوار نضالي زائف؟، أستعدت وعيي فورا، هل يعرف زياد وأصحابه دلالات أغنية "الأرض بتتكلم عربي" التي غطي بها سيد مكاوي موقفه التضامني من زيارة السادات للقدس؟ هل يعرفون أنها دخلت تاريخ اليسار كأغنية مبايعة للسادات؟، ماقيمتها فعلا وهي أشبه بمارش عسكري فاشي مع وصول الراقصين إلي نشوة الكأس الرابع عشر، إنسحبت بيقين أن هنا كما هناك في مصر، هناك ثمة من يكفرون عن محبتهم للحياة.