سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

السبت، يونيو ٠٧، ٢٠٠٨

هي فوضي


"هي فوضي".. إبتزال السينما بركاكة خطاب "الكُشري"السياسي

قومجي يخرج أفلاما لصاحبه عضو مجلس الشعب إسمه خالد يوسف

هاني درويش

يقول المخرج خالد يوسف في أكثر من حوار تلفزيوني وصحفي أن "استاذه" شاهين أصر علي وضع أسمه معه في تتر فيلم "هي فوضي" فيما خالد يتوسل له ألا يفعل، ولايبالغ الأخير في وصف ما وصل إليه مخرج عجوز ضجر من السينما في منتهي أيامه للحد الذي يجعله وهو يدخل متاهة الثمانينات غير قادر علي إحتمال نفاذ القريحة، ومن ثم يسلم قيادة تاريخه بأكمله لمن رأي فيه وريثا شرعيا لتمرد لم يقده وغواية جماهيرية لم يتذوقها يوما، وإلا كيف نفسر ما إرتضاه لنفسه من "توسل" وإنكماش في مخبأ الشيخوخة فيما ظله الباقي (خالد يوسف) يتحدث أمام الكاميرات بلسان مدير الأعمال الذي فهم روح " الأستاذ" أكثر من كل ممن عملوا معه علي مدي مسيرة نصف قرن؟ كيف نفهم ونبرر- وقد حاولنا منذ الإنعراجة الخالدية الشهيرة في فيلم "المصير" أن نبرر لأهم مخرجي مصر- تلك الفجاجة والسطحية التي بدت معها سينماه أقرب للمناشير السياسية المكتوبة زمن الثمانينيات البعيدة، نعم الثمانينات التي شهدت تلك الصبغة التجارية المتواقحة لسينما تتحدث مثلا عن الإنفتاح علي هيئة فيلم تجاري تافه، أنه وعي الثمانينيات المفتخر والمتفاخر بالهموم وعاطفية الشنشلة واللطم علي خدود النوستالجيا، ولا يبدو "هي فوضي" آخر إبداعات المخرج المعتزل الحياة في كهف تلميذه إلا نموذجا متأخرا لصحوة هذا الوعي، لكن علي الأقل كانت تلك الطريقة في زمنها أقرب لملامح عصرها، كانت أقرب للمكلومين علي بقايا وروائح زمن "والله زمان ياسلاحي" الكلاسيكي، لكن أن تأتي سينما تجارية الروح والهدف لتتحدث عن ثورة الشعب المنتظرة فهذا مالم نتوقعه يوما مثلا من ناصر حسين أشهر مخرجي المقاولات الثمانينية، وربما تبدو مقاربة غثاء "هي فوضي" بالثمانينات ظلما فادحا لتلك الفترة، ظلما فادحا لأي مقياس مهما تبدت رداءة المقاس به، لأن ما يقدمه يوسف شاهين-في الخلفية- وخالد يوسف-في المقدمة- (وتستطيع عكسهما بحسب فهمك للمبتدأ والخبر) هو بعينه نقيض السينما بأبسط تعريفاتها البدائية، بتعريف أنها فسحة من الخيال قادرة علي "إيهامنا" لزمن مقدر سلفا بأن ما يحدث علي الشاشة حقيقي بدرجة ما، وهي بذلك التعريف وفي أحد أهم جوانبه تعني نقيض الإفتعال، بمعني آخر ماذا يكون موقفك من فيلم تبدو فيه كل الأحداث مفتعلة غير قادرة علي إيهامك بأن هذا يحدث فعلا؟ ماذا تفعل أمام فيلم يحاول كل من قدموه التأكيد علي أنهم يمثلون ويصورون ويهندسون المناظر ويخرجون شيئا غير حقيقي؟ .

يدخل خالد يوسف فيلمه من البداية بمنطق المتذاكي –الذي هو عديم الذكاء أصلا- علي جمهور ورقابة متذاكية-هي الآخون عديمي الذكاء- فتصبح المعادلة غباء في غباء، يكتب في مقدمة الفيلم أن أحداثه لاتعني وزارة الداخلية ولا تشكك في دورها الوطني!! وأن شخصية أمين الشرطة المقدمة نموذج لايعيب جموع رجال الشرطة الشرفاء، هل تتخيل عزيزي القارئ ان تلك الحيلة الساذجة تنطلي علي وزارة الداخلية أو المشاهد أو أي ذي عقل ممن يتابعون أحاديث المخرج القومجي الشنيف المعارض في الصحافة والتلفزيون؟ ولأن وزارة الداخلية المصرية الذكية تعلم تماما أن الفيلم لن يقدم أو يؤخر شيئا تتعامل معه بمنطق الواجب الوظيفي فتعترض علي مشاهد ، لكي يخرج علينا خالد ليقول أنه يقدم الواقع ويتنازل عن مشهدين ثلاثة فتزدحم دور العرض بعد البروبجاندا المحسوبة بعناية، والتي تستثمر مشاعر الجماهير، لكن إلي أين يذهب خالد يوسف بجماهيره؟ يأخذهم كالسائرون نياما إلي خلطة تجارية مضمونة الرواج، أبطال تجاريون، موضوع سياسي لا يختلف في ضجيجه وتهافته عن مظاهرات "كفاية" في ميدان التحرير، قصة حب مرضية من طرف واحد تنتهي بمشهد إغتصاب، في موازاة قصة حب تلفيقية رومانتيكية بين البطلة الفقيرة وإبن الناظرة وكيل النيابة، ياإله الرموز رفقا بالجماهير، فكل تفصيلة مرمزة ذلك الترميز الفج والمباشر، كل كلمة تصب في تلك الروح الخطابية التي نسمعها من المعارضة كما من الحكومة في برامج التوك شو، كل الشخصيات تتحدث من الشفاه لا أبعد من ذلك، ومن ضمير مسستر تقديره أن الشر شر والخير خير بلا هوامش، "كشري" سينمائي بطعم الكاري، يعطي إحساسا زائفا بالشبع ويغني عن جوع ساعتين من اللهاث خلف سيناريو لم يضع في إعتباره العلاقات السببية التي تسمح لنا بأن نفهم لماذا فعل هذا الشخص ذلك الشيئ ولم يفعل شيئا آخر، سيناريو حاول أن يضغط أحداثا وذري درامية متعددة ليصل إلي تصفيق منقطع النظير وتطهر صالاتي- نسبة إلي صالة السينما- يخرج بعده المشاهد وهو مطمئن إلي تحقيق العدالة علي الشاشة بموت الشر، وكأن كامل منطق الفيلم الذي يبشر بالفوضي إذا ما خرجت الجماهير لتحرق وتحاصر أقسام الشرطة يقدم مقلوبه، فبدلا من أن يحرض يسكن، وبدلا من ينال التصفيق يضحك الجمهور عندما يميل قائد القسم علي أمين الشرطة المنتحر ليسأله ببلاهة" أنت زعلان ليه دلوقتي مش أنت اللي عملت في نفسك كدا"، يخرج الجمهور منفهشا من تحقيق أحلامه في الإنتقام من ضباط الشرطة علي الشاشة، يخرجون وهم لم يصدقوا لحظة أن ما شاهدوه قد يحرك مشاعرهم المهفهفة إلي مستوي مهاجمة أقسام الشرطة، هل لذلك وافقت وزارة الداخلية علي عرضه في إطار تطهرها العام من تهمة التعذيب في أقسام الشرطة؟.

الفيلم بمجمله في مقام النوايا الحسنة الغير سينمائية، كل كلمة فيه وكل مشهد مهندس ليخدم تلك الدعوية الفجة بالمعارضة للحكومة، يستخدم خالد يوسف عدسة الزووم التي لانراها إلا في لقطات فيديو الأفراح الفقيرة ليظهر يافطة صديقه مرشح مجلس الشعب الناصري "حمدين صباحي" بلا مبرر وكأننا في فرح" أبن عمدة القرية"، أو كأن خالد يوسف يقدم فيلمه مصداقا للنكتة المصرية التي ينعي فيها ساعاتي بخيل والده فيكتب في إعلان الوفيات " خالد يوسف ينعي والده ويصلح ساعات" لكنه هنا يقول"خالد يوسف يخرج فيلما وهو ناصري وصديقه مرشح لمجلس الشعب"، وعلي شاكلة ذلك تأتي باقي المشاهد، لابد من إدانة الإخوان والتأكيد علي أنهم لايمثلون بديلا ، فتدخل "بهية" وإبنتها المدرسة لمكتب مرشح الإخوان ذو الذقن والشارب – لايعرف أن معظم الإخوان حليقوا الذقن- ليحدثهم المرشح عن ضرورة أن ترتدي الشاكية وأمها الحجاب، في حوار فج عن السينما تقول البطلة "مش منعوا البوس في السينما وسموها نضيفة" وترد عليها صديقتها" هوا السينما تنفع من غير بوس، وفي مشهد –قل عاشرأوعشرين- تحكي الناظرة – بلا مناسبة وبلهجة ملتاعة- عن زوجها الذي مات في المعتقلات بعد أن تعرفت عليه خلال مظاهرة في السبعينيات، ولأن الشر لابد له من عنوان علي مقاس الدارج من كلام الصحافة نكتشف في مشهد وحيد لوالد خطيبة وكيل النيابة أن عضو"لجنة السياسات" فيما المشهد يكاد يضج بروائح فساد بشكل مجاني، فالبطل الذي يذهب لبيت خطيبته يدور بينه وبين حموه ذلك الحوار فيما إبنته ترسم تاتو عارية علي يد فنان حاول خالد أن يوصمه بالمثلية الجنسية، ذكورة طافحة نستطيع أن نستدل عليها في مشهد تقديمه للخطيبة التي تدخل حوش المدرسة ترتدي الميكروجيب فيما الكاميرا- عين المخرج ووجهة نظره- تلتقطها كما فتيات الفيديو بورنو، إنتقام رخيص من الطبقة السياسية عندما يوصمها بالإنحراف الأخلاقي عبر إرتداء إبنتها الملابس الفاضحة، ويصمم علي إنعاش ذكورة المشاهدين وأخلاقيتهم عندما يدفع البطل للإنفصال عنها لأنها"ترقص" وقد أسقطت جنينها منه، لكن نفس الذكورة تقع في مطب التناقض عندما يدور حوار –مباشر آخر- بين والدة البطل ومدرستها-البطلة- حول ملابس زمان التي كانت أكثر تحررا فيما "ابلة الناظرة"- المتحفظة علي ملابس خطيبة إبنها الفاضحة-تغوي تلميذتها بإرتداء فستان عاري الكتفين!!.

لانعلم من أين جاء خالد يوسف بكامل هذا البرود حين يقتل السينما في صميم خيالها؟ لانعرف أيضا تحت أي مسمي يمكن تصنيف هذا الفساد النقدي الذي رأي أن هناك ثمة فيلم يمكن مناقشته، ولانعلم أخيرا كيف تجرأ يوسف شاهين علي وضع اسمه قبل خالد يوسف علي أفيش الفيلم!!، فالرجل وإحقاقا للحق لايملك في هذا الفيلم إلا تسمية إحدي بطلاته بإسم بهية – هل تذكرونها؟

الأزمة الحقيقة أن المحذر الأعظم من الفوضي يبدو أكبر مستثمريها، ففوضي مصر الحقيقة أن هناك مخرج إسمه يوسف شاهين – عفوا خالد يوسف.