سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الاثنين، سبتمبر ١٠، ٢٠٠٧

حين إهتم سكان الأدوار العليا بقدم أبو تريكة المصابة


في عمارة " كل الفائزين " الخسارة مؤجلة
حين إهتم سكان الأدوار العليا بقدم أبو تريكة المصابة
هاني درويش
تبددت أخيرا سحب الضباب وظهر الرئيس المصري وافر الصحة في أكثر من لقطة فوتوغرافية مستقبلا توني بلير والملك عبدالله ، لكن مابقي في الحلوق من مرارة ربما سيدفع الكثيرون للتعامل مع هذين الأسبوعين كذكري سيئة من الصعب التخلص منها ، كل الأطراف كانت تتمني عدم الوصول إلي هذه النقطة تحديدا ، وهي الإجابة علي سؤال ماذا يحدث للرئيس ، أو ببساطة أين الرئيس ، لأن هذه النقطة تحديدا وهذا التساؤل يعني ضمنيا الدفع بخيال المجتمع بكل طوائفه للإجابة علي السؤال الأكثر تعقيدا وهو " وماذا بعد الرئيس ؟" ، المصريون كثيرا ما إحتسبوا سيناريوهات متضاربة كلها مرجحة وكلها غير مرغوبة في لعبة الروليت الرئاسية التي إزدادت مخاطرها منذ ظهر علي سطح الأحداث السيد جمال مبارك منذ أربع سنوات ، وربما دون هذا الظهور المفاجئ والمبيت كان من الممكن لكثيرون عدم الإهتمام بمصير قمة النظام السياسي طالما ظلت الرئاسة شاغرة بعمر الرجل الذي تربع عليها لما يزيد عن ربع قرن ، أتحدث هنا عن الناس العاديون الذين وإن بدت تلك المؤسسة بعيدة عنهم وعن خيالهم وجدوها فجأة تنزل من عليائها لتصبح أخبارها شأنا عائليا ميكانيكيا ، فالرجل الكبير سيورث ولده المحل أو المنزل أو الشركة ، نزلت سيرة الحكم إلي المقاهي والشوارع والبيوت ، وبدت مصر الكبيرة بيتا عائليا تنطبق عليه قوانين الأسرة المصرية التقليدية ..... هل عني الإهتمام شيئا أكثر من ذلك ؟ لا أعتقد ، فالسيرة العائلية للرئاسة المصرية نقلت فقط الحديث عن الإله الفرعون إلي مستوي الحكاية الشفاهية لكن لم يعني ذلك للمصريون نزوله إلي مستواهم ، بمعني تحوله إلي شخص يمكن محاسبته أو مراجعته في أي شيئ، فالرئيس يبقي رئيسا ، والشعب يبقي شعبا حتي لو نزل الرئيس للعب الكوتشينة معهم علي المقهي ، لذا تعامل المصريون مع رد فعل النخب المقاومة للتوريث بكثير من اللاميالاة والشك ، اللامبالاة التي يختصرها عم محمد سائق التاكسي الذي حاولت إستفزازه للحديث فقال : ياعم ماهو الصول في البلد دي بيطلع أبنه صول ... مستكتارين ليه علي الريس أن إبنه يبقي ريس " ، والشك كما عبر عنه عم جلال النجار جارنا العزيز حين قال ردا علي سؤال حول الإشاعة : ربنا يقوم الريس بخير ... ما هو يابيه اللي نعرفه أحسن من اللي منعرفهوش " ثم أردف " يعني هوا مين ينفع يحكم البلد ... أيمن نور ؟ لأ دي كبيرة عليه قوي ... وبعدين إحنا ضامنين أن الريس شبع ...واللي جي منعرفش ممكن يعمل أيه ؟ " ، هذا طبعا غير الردود الجاهزة التي تؤرخ لقيمة الولاء الفارغة من معني أللهم إلا معني الخوف العميق مثلما قال عم فؤاد سفرجي المقهي المجاور : مفيش أحسن من الريس مبارك ... ربنا يقومه بالسلامة ... مين اللي حيجي ؟ أصحاب الدقون ..دول حرامية ..والله ياأستاذ أنا بقيت أشتري من نصراني ولا أشتري من واحد منهم ... دول مركبينها تركيب ويقولولك قال الله وقال الرسول وهما يصلوا الفرض وينقضوا الأرض " ...... هكذا تفاعل المصريون ببساطة مع شائعة تدهور صحة الرئيس ، علي عكس ما أدعته القوي السياسية التي رأت في صحة الرئيس هما شعبيا يحق للناس دستوريا ولأنهم منتخبيه الحديث فيه ، الأمر كان أقرب لعمارة ضخمة متعددة الأدوار تدور فيها مشاجرات في الأدوار العليا ويعلو فيها الصوت فيما الأدوار السفلي صامتة ولا مبالية ، ففي جميع الأحوال ستسير الحياة ، وليس هناك ما هو أسؤ من الواقع فلما الإهتمام المبالغ فيه ؟، ببساطة إهتم المصريون بحقن الفولتارين التي أخذها أبو تريكة قبل مواجهة الأهلي وأسيك أبيدجان في بطولة إفريقيا أكثر مما إهتموا بالجدل النخبوي عن صحة الرئيس ، هذا الجدل كان سيجد مبررا بين الطوابق الأرضية في عمارة الوطن لو إستطاع المصريون ربطه مثلا بقضية أسعار السلع وهم يستقبلون شهر رمضان ، أو ماذا سيفيدهم هذا الحوار فيما أبناءهم علي وشك دخول المدارس ؟ ، كل هذه الأسئلة البسيطة كانت أهم من سؤال صحة الرئيس ، خاصة وأن سيناريو الإشاعة وجد طريقه للتضخم والإنفلات منذ البداية دون أن يلقي بالا من مؤسسات الدولة المعنية بذلك ، فإعلام الريادة صمت ، والصحافة البيضاء ( القومية ) لم تهتز ، والرجال حول الرئيس علي مايبدو لم يصدقوا أن الشعب المصري مهتم إلي هذه الدرجة بصحة الرئيس ، ولأن فراغ التفسيرات للإختفاء الحصري للرئيس من مناسبات تقليدية لمواعيد ظهوره لم يقلق إلا النخب ، تعاملت المؤسسات المتحدثة بإسم الرئيس علي أن الشائعة ستموت بالقصور الذاتي ، وإستسلمت للسيناريو التقليدي الذي تعالج به مثل تلك الأزمات ، الصمت ، ثم الصمت ، ثم الإنكار ، ثم التهديد والوعيد علي صبرها المستنزف ، ثم البطش ، الصمت الأول إحتقاري ، والصمت الثاني لتقييم الموقف ، ثم الإنكار بهمهمة متعالية ، ثم التهديد بمنطق القط الذي يخمش بأظافره فأرا في زاوية ضيقة ، ثم البطش بعنف علي خلفية كورس ضخم من مطربي الصحف القومية الحكومية الداعية للإنتقام ، ظهور السيدة الأولي في حوار العربية مثلا كان علامة علي مرحلة التهديد ، بعد أن إلتقط مشعلوا الحرائق إشارات الصمت والإرتباك الرئاسي كان من الطبيعي أن يحيلوا الإشاعة علي المشاجب الجاهزة ، الإخوان وحماس ، ثم بعد نفي الأخيرين ، علقوها بتزامن علي السفير الأمريكي ، فنفي الأخير متبرما ، لذا أضطر الكورس للجؤ إلي أضعف الإيمان وهو هنا الصحافة المستقلة والمعارضة ، فقدم محامي مجهول من عشاق الكاميرات بلاغا ضد إبراهيم عيسي رئيس تحرير جريدة الدستور وتحركت باقي أجهزة الكوراس ، إستدعاء من نيابة امن الدولة وتحريض لهيبي من عبدالله كمال رئيس تحرير روزاليوسف علي خلفية طبول الإنتقام من صديق عمره ( إبراهيم عيسي) ، ثم أخيرا لعن الله الإشاعة ومن أيقظها عندما أفرج عن إبراهيم عيسي بقرصة أذن ، لتثبت الدولة ديمقراطيتها ويظهر الرئيس المطعون في شرف حياته مبددا ضباب الأدوار العليا للوطن .
كثيرا مع تأمل أحوال مصر أكاد أجزم أننا وطن كل الفائزين ، لاخاسر في مصر ، كل الناس تفوز وكل الناس سعيدة ، سكان الأدوار العليا كما سكان الأدوار السفلي ، وهو ما يؤكد لي أننا وطن الخسارات المؤجلة بإمتياز.