سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الأربعاء، يونيو ١٣، ٢٠٠٧

السلّم الخماسي النازل للوضوء من ماء النيل


لم تعرف الدولة المصرية المركزية منذ 7000 عام مجموعة عرقية متماسكة وعصية على التطويع كما أهل النوبة. وبما أن الفرعون المصري غالباً ما تعامل مع الجنوب بمنطق برغماتي صرف، من حيث كونه موطناً لوفرة الموارد الطبيعية والبشرية، فقد مثل ذلك الأقليم البعيد الذي سكنه هؤلاء "البرابرة" مجالاً لتفريغ موجات غضبه الدورية كلما جاءت لحظة تجديد العهود والمواثيق ببعض من الدماء الطازجة. فنطاق أراضي الذهب ـ المعنى الحرفي لكلمة نوبة ـ ظل نطاقا إثنياً إنتقالياً بين أهل مصر بتنويعات شمال الوادي بين صعيد ودلتا وبين أصحاب البشرة السمراء السودانية. النوبة ظلت أشبه بسلالة محتجزة بين مجموعتين تتعاليان عليها، شمالاً وجنوباً: مصريون، وهم خليط متجانس من أهل الأراضي المنخفضة وكافة المجموعات الإثنية التي قذفتها إما الصحراء شرقاً وغرباً وإما البحر شمالاً؛ وسودانيون (جنوباً) أكثر إندماجاً مع السلالات الأفريقية. وحتى مع طول تاريخ الهجرات العربية قبل الفتح الإسلامي وبعده لمصر ظل النوبيون مجموعة مغلقة سوّرتها المجموعات العربية الوافدة شمالاً وجنوباً، فاستقرت القبائل العربية الى شمالهم والتفت جنوباً حولهم في شمال السودان دون أن يهتز ذلك السجن الإثني إلا قليلاً ـ تزاوج بين العرب والنوبيين حدث في منطقة شمال اسوان، وقد أنجب فئة محتقرة من الطرفين يسمون عرب العليقات. وإستعصت النوبة حتى على دخول الإسلام فظل أهلها مسيحيين لقرون ثلاثة بعد دخول عمرو بن العاص، بل وبقي إسلامهم، حتى هذه اللحظة، يجمع في طقوسه بين الروح الفرعونية والقبطية. لم يعرف عن النوبيين تجرؤهم على سادة الشمال إلا قليلاً، وهم اعتصموا داخل حدود قراهم ومراكزهم البعيدة بقانون عرفي يحظر التزاوج خارج العائلة الواحدة أو العشيرة، وتعاملوا خلف عالمهم المغلق ـ في البداية مكرهين وفي النهاية أنجب التجاهل تعالياً وتسامياً ـ بمنطق أنهم أهل الأرض الأصليون والآخرون ضيوف سيرحلون عاجلاً أو آجلاً.وتمر القرون ويزداد تمركز السلطة شمالا ويزداد تعاليها كلما اتجهت جنوباً. ويعرف النوبيون بمرور الوقت مظاهر من التمرد على السلطة المركزية كانت غالباً ما تنتهي تحت حراب فرقة الوالي المرسلة لقمع التمرد. حتى سلطة محمد على الوالي الجديد قاوموها فنفى بعض قبائلهم إلى البلقان، وتحديداً إلى المجر (عرفوا لاحقا بالمجراب). وجاءت خطط بناء الدولة الحديثة المعتمدة على التحكم في مجري النهر وتنظيم مياهه لتقدمهم كبشا لفداء الدولة الأم، فشهدوا تغريبتين منذ مطلع هذا القرن: الأولى تغريبة بناء سد أسوان وتعلياته منذ بداية القرن العشرين وحتى أربعينياته، والثانية مع بناء السد العالي في الستينيات وهو ما أنتج أكبر عملية تهجير إثني لهم من أراضيهم التي تقع الآن تحت مياه بحيرة ناصر خلف السد العالي إلى الشمال من أسوان. وقد خلّفت التغريبتان جرحاً عميقاً في الخيال الجمعي للنوبيين، حيث إنفرط وللأبد عقد الأثنية الأكثر تماسكا في التاريخ المصري. وظلت الثقافة الخاصة لتلك المجموعة مقصورة على نوعين من النشاط البشري: اللغة النوبية الشفاهية والتي لم تعرف التدوين إلا قليلاً ويتناقلها ابناء الأجيال الحالية كتعويذة سحرية مندثرة يحاولون بها التأكيد على تفردهم الثقافي، أما ثاني اشكال الهوية فهو الموسيقي التي كتب عليها أن تلعب دورا مع اللغة في حفظ تاريخ المأساة النوبية.تحوّل السلّم الموسيقي الخماسي الشهير في السودان، بمزجه ما تبقى من موسيقي فرعونية قديمة بما يمكن تسميته بالموسيقى النوبية، التي كتب لها أن تبقى حبيسة الذاكرة الجمعية لأهالي النوبة حتى ظهر مبدعها الأهم أحمد منيب في ستينيات القرن الماضي.ولد أحمد منيب في 4 يناير/ كانون الثاني عام 1926، أي بعد بناء سد اسوان بسنوات قليلة، وقد عاش مخلصاً لذلك الشجن الصافي لتلك الجماعة. فكان أول من عزف على العود في النوبة وقدم مع الشاعر محيى الدين شريف أول اغنية نوبية تتكون من قالب الأغنية الحديثة ـ مذهب وكوبليهات ـ حيث فيما قبل هذا التعاون كانت الخميرة الموسيقيية النوبية هي إبنة الممارسات الاجتماعية وجزءاً من طقوسها الشفاهية، أغان تتوارثها الأجيال بتنويعات لحنية ثابتة في الأفراح وحفلات الميلاد وأغنيات العمل. كانت عين الشاب أحمد منيب في هذا التحول متجهة نحو الشمال، بحثا عن توليفة تمزج تلك الموسيقى البعيدة بالموسيقى الشرقية المسيطرة شمالاً. وليس أكثر من العود آلة قابلة لهذا التوليف. عرفت النوبة الطنبور، وهو آلة وترية قديمة ذات جذور فرعونبة، أما العود وهو أساس القالب الشرقي، فكان مهمة العازف الشاب الذي إبتدع من خلاله وصلة عشقت الخماسي الإيقاعي الأفريقي بالشرقي الطربي، وكان المفتتح لذلك هو الشجن الذي حوّل الخماسي الراقص في نسخته الإفريقية إلى موسيقى حزينة ذات إيقاعات أقرب إلى روح العديد القدبم. وإنضم الملحن الشاب لفرقة زكريا الحجاوي حيث استمرت جولته معها عامين جابا فيها كافة أنحاء مصر. فاجتمعت له ناصية الثقافة الموسيقية الشرقية وتلوناتها الشعبية إلى ما يكتنزه أصلاً من موسيقي النوبة. لذا وجد الفتى مشروعه مع إهتمام ثورة يوليو بتوطين العلاقة مع السودان وجنوب مصر، فأنشأت الإذاعة المصرية إذاعة وادي النيل لربط خطابها الأيدبولوجي بامتداد مصر الجنوبي ممثلا في السودان. لكن أحمد منيب وزميله الشاعر وجها رسالة شخصية للرئيس ناصر طالبا فيها بالسماح للموسيقى النوبية بمساحة في الإذاعة المصرية كتأكيد على مصرية نوبيته. وجاء برنامج "من وحي الجنوب" ليسمع المصريين اللغة النوبية بلسان عبد الفتاح والي وألحان العازف الشاب أحمد منيب.انتصر منيب إذن في معركة إنطاق الإذاعة لغة النوبة لكن حصار الذوق السمعي عبر غناء الأساطير (عبد الوهاب وأم كلثوم وبعدهما عبد الحليم) أجلا مشروعه الكبير، الذي ظل حبيس حفلات الأفراح النوبية في القاهرة والاسكندرية. لقد نجح نجاحاً إكسسوارياً كعادة الفترة الناصرية في الإعتراف بأطراف الصورة دون أن يتاح لها الوصول إلى المركز. وسينتظر أحمد منيب لحظة السبعينيات اثر الغياب المفاجئ لكل أساطير المرحلة ليقدم مشروعه. غيب الموت عبد الحليم وأم كلثوم وتراجع عبد الوهاب للتلحين منذ منتصف السبعينيات، ليظهر أحمد عدوية بموسيقى الحارة الشعبية المصرية خارج الأطر الرسمية. ثورة كاملة على الأقانيم الموسيقية المستقرة منذ نصف قرن، تتوافق مع مزاج عام لطبقة وسطى خرجت بمزاجها السمعي من مشهد إنتظار حفلة "الست" أوائل كل شهر ومع الأعياد الكبرى الوطنية، إلى انفتاح إقتصادي ومزاج مجتمعي كرسته ثورة الكاسيت التي أعطت الحق للجماهير في إختيار سلعها بعيداً عن التعلق بالإذاعة. التقى أحمد منيب مع الشاعر عبد الرحيم منصور ذي التجارب الناجحة مع عفاف راضي إبنة السبعينيات المدهشة، ليشتمل اللحن الحزين بالكلمة الثرية المهمومة القادمة من عمق الصعيد المجهّل عن عمد، فيما عدا مؤسسية عبد الرحمن الأبنودي الإكسسوارية التي شاغبت احلام مطرب الثورة (عبد الحليم) وزعيمها (جمال عبد الناصر).كان للحن والكلمة أن يختارا صوتهما الخاص، فكان محمد منير عام 1978 منجز هذه الترويكا المغامرة والغامضة، وأخضع هاني شنودة ويحيي خليل الموزعين تلك الثورة الإثنية الموسيقية والغنائية للمسات غنية بالتوزيع الحديث. هاني شنودة صاحب تجربة غناء فرقة المصريين وثورة الأورغ الكهربائي، ويحيي خليل ملك جاز السبعينيات الإيقاعي ذو الثقافة العالمية، لتبدأ مسيرة النجم محمد منير ومن حوله جيل الثمانينيات. 85 لحنا غنى منها أحمد منيب 51 لحناً ضمّنها ألبوماته السبعة (مشتاقين، يا عشرة، كان وكان، بلاد الدهب، راح أغني، قسمة ونصيب، حدوتة مصرية) و37 أغنية لمحمد منير وحده في أول عشر ألبومات، وهناك أغانٍ لحميد الشاعري وعلاء عبد الخالق وعمرو دياب وإيهاب توفيق ومحمد فؤاد و فارس وحسن عبد المجيد وحنان. من كاتبي كلمات نجوم تلك المرحلة، فؤاد حداد، صلاح جاهين، عبد الرحيم منصور، مجدي نجيب، عصام عبدالله،أحمد فؤاد نجم، سيد حجاب، جمال بخيت وغيرهم. لكن تجربته مع محمد منير تبقى الأكثر جذرية لأنه لا يمكن احتساب تجربة منير دون أبيه الروحي، الذي قدم معه اجمل أغنيات تلك الفترة مثل: أم الضفاير، اتكلمي، افتح قلبك، الرزق على الله، الليلة يا سمرا، شجر الليمون، بعتب عليكي، حدوتة مصرية، حواديت، نجيب سؤال، سحر المغنى، سهيرة ليالي، سيلي، شبابيك، ع المدينة، عروسة النيل، عقد الفل والياسمين، في دايرة الرحلة، في عنيكى غربة، قمر صيفي، قل للغريب، نانا، هون يا ليل، يا اسكندرية، يا أماه، منصور يا صبية، يا غربتي، يا مراكبي. إستطاع ثلاثي تلك التجربة (منيب، عبد الرحيم، منير) أن يُدخل، ولأول مرة، الثقافة النوبية إلى كل بيت وأسرة مصرية حيث انتزع اعترافاً متأخراً بثقافة عانت قروناً من التغييب والتعالي الرسمي. وكان ألبوم منير الشتوي، عاماً بعد عام، ومنذ بداية الثمانينينات هو موعد أبناء جيل واحد للتغني بأحزان وغربة المدينة، جيل لم يعش يوما في النوبة وإن توحد، وهو غير النوبي مع اغتراب أهلها في القاهرة. جيل ربما لم يعرف الغربة لكنه بألحان أحمد منيب إحتشد في غرفه المصمتة عازلا أنفاسه عن ترنح الآباء في صالات المنزل أمام سلطة أم كلثوم وزمنها الذهبي. جيل حملته ألحان منيب إلى نوستالجيا لم يرها وأكتفي بتمثلاتها في صوت، كما الكرباج، يجلد جلاديه ويحاسب، على العود، والدفوف أبناء سادة الشمال الذين أسكتوه لقرون طويلة. منذ ستة عشر عاماً مات أحمد منيب وفي ذكراه السنوية يحضر لحنا مع حميد الشاعري في ألبومه الأخير ويسجل محمد منير في ألبومه القادم أحد كنوزه التي لم تكشف بعد، فسلاماً على الخال منيب الذي احتوانا فلم ننسه.

1 Comments:

  • At ١٢:٤٢ م, Anonymous غير معرف said…

    كس امك يعود الشرموطه

     

إرسال تعليق

<< Home