سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الأربعاء، يونيو ١٣، ٢٠٠٧

إعلام الجلد السميك للضحايا... وتأبيد الخراب العام


يجلس أحد ضيوف برنامج "90 دقيقة" الذي يعرض على شاشة قناة المحور الفضائية المصرية (تشارك الدولة فيها بنسبة 55 في المئة) ليتحدث عن وقائع مهولة جرت في فيلا أحد الطيارين بمدينة الشروق الصحراوية الجديدة. الضيف عامل ريفي متعلم رحل من قريته بسبب حمّى البطالة الريفية ليعمل في فيلا ذلك الطيار مُستخدماً من قبله وقبل زوجته الطبيبة الشهيرة. أدعت الزوجة أن مستخدمها أعطى نمرة تليفونها الخاص لأصدقائه الذين أزعجوها معاكسة وتحرشا، فما كان منها، لتأديب مستخدمها خائن الأمانة، إلا أن إستأجرت إثنين من البلطجية في مهمة عمل سريعة تحت إشرافها، وهي تعذيب هذا المستخدم لنحو 36 ساعة متواصلة بمشاركة زوجها الطيار الذي سارع، بعد رحلة سريعة إلى كوالالمبور، إلى اللحاق بحفلة التعذيب لنحو 12 ساعة متواصلة (وفقاً لإعترافات الضحية وتصريح محامي الطيار).يحكي الضحية عن مشاهد وتفاصيل لا يمكن في البداية تصديق أنها مجرد رد فعل بأي شكل على تصرف المستخدم، عن أنماط من التعذيب لم نسمع عنها إلا من قبل الأجهزة الأمنية الإحترافية، مع خليط من تكنيكات أبو غريب وغوانتنامو مع حقوق حصرية لوسائل تعذيب ستسجل بإسم الطيار وزوجته، مثل إستخدام محلول معلق يستخدم عادة كدواء لحساسية الكلاب في دهن الجروح النازفة للضحية العارية وعصر الليمون عليها لإدامة عذابه؛ هتك العرض وتصويره بكاميرا فيديو ثم مشاهدته من قبل الطبيبة وحدها في غرفة النوم، ثم إعلان عدم رضاها عن "الماتريل"، ومن ثم إعادة عملية الهتك؛ إستخدام أغطية الرأس المثقوبة لتتنفس الضحية والحبس في قفص الكلاب؛ كولاج مبتكر من أخيلة سادية وجدت ضحيتها النموذجية لتمارس معها لعبة محببة للمرة الأولى... يحكي الضحية مصطحباً أهله في الحوار بمنتهى المذلة التي يشوبها بعض من فخر الضحية المازوخي وقد وجدت أخير كاميرا لتسجيل شهادتها، فيما المذيع معتز الدمرداش يقف عند كل تفصيلة من سيناريو التعذيب فاغراً فاه مشدداً على ذكر الأشياء بإسمها ومعناها وكأن يتكئ على المشاهد ـ الذي يبدو من وجهة نظره جاهلاً بمعنى هتك العرض ـ ليؤكد بأسئلة تفصيلية مملة على كيفية وقوعها إجرائياً. الضحية لاتملك وهي تحكي خيار التورية بل هي تكاد تعيد تمثل المشهد كما في برامج التلفزيون الأميركية ولا يتبقى لها إلا الإشراف إخراجياً على مشهد يؤديه ممثلون، وبين حكاية الشاب المعاد تشكيلها بكل الإكسسوار الإيمائي والصوتي، تعرض مادة فوتوغرافية لمعاينة النيابة لنتاج التعذيب على جسد الشاب لحظة إنقاذه. بين كل جملتين لا ينسى الضحية أن يوجه الشكر إلى العميد كذا والعقيد كذا رئيسي مباحث مدينة الشروق اللذين لولاهما لقضى المتهم حياته داخل الفيلا معذباً حتى الموت. لكن بين تفاصيل حكايته هناك أكثر من مفصل مدهش للتعبير عن صدام الإرادات في مجتمع يعاني من سيولة عنيفة في تصادم قواه القمعية. يحكي شقيق الشاب الضحية، والذي كان يعمل هو الآخر مستخدماً عند طيار آخر جار للطيار الأول، عن أنه، عندما سمع من الناس المتجمهرين حول فيلا التعذيب، أنه دخل الفيلا سائلاً عن أخيه الذي أفزع صوته المستجير ليل منطقة الفيلات الفاخرة، فما كان من فريق التعذيب إلا أن ضمّه، بمجرد دخوله، إلى مشهد التعذيب لمدة خمس ساعات مربوطا مع أخيه في أشجار حديقة الفيلا. وعندما أحس طياره (مستخدمه) بتأخره، ذهب إلى الفيلا الغوانتناموية سائلاً عما يحدث، فأطلق الطيار كرمى لصديقه سراح مستخدمه قائلاً له: اللي ليك خدته واللي عندي دا بتاعي وأنا حرّ فيه. فإنطلق شقيق الضحية إلى قسم شرطة المدينة مبلغاً عما يحدث لأخيه في تمام السادسة صباحا فإصطحبه قائد الشرطة بقوة من الأمن إلى الفيلا. وقفت القوة الأمنية تستأذن الجلاد دخول الفيلا فلم يسمح لها بالدخول، فيما المشهد داخل سور الفيلا يتابعه الجميع من أسطح الفيلات المجاورة والمصطفون بالشارع يتابعونه سمعياً. ومن هذه اللحظة، أي من الثامنة صباحاً وحتى الثامنة مساءً، لم تستطع الشرطة الدخول إلى الفيلا حتى مع عودتها بتصريح من النيابة بتفتيشها. إثنتا عشرة ساعة كاملة من تفاوض الإرادات التي هي بطبيعتها ضد الصدام، لكن الواضح ان الطيار الجلاد كان يجري إتصالاته بمرجعياته داخل نفس السلطة للتعمية على ما يحدث لديه، فيما الضابط المسؤول قد أثارته ربما لأول مرة في حياته وقاحة قوى موازية فتعامل مع الأزمة على أنها مسألة كرامة الشرطة التي إحتجزت مثلها مثل جماهير المشاهدين خلف أسوار القلعة المحمية بمنصب ونفوذ طيار. هذا التصادم وحده ربما كان السبب في أن يتصاعد الموقف، فما أكثر الممارسات التي يتم التعمية عليها بتوازن وتوازي الإتصالات داخل الخطوط المشتركة للسلطة ذاتها، بمعنى آخر يحق للضحية أن تشكر ـ جاهلاً بهذا الميكانيزم ـ منقذها السماوي الذي هبط عليها في صرعة كرامة مفاجئة ليعيد للشرطة هيبتها لا أكثر. فمهمة التعذيب قاصرة وحدها على نظام الشرطة ومشاركة آخرين لها هو تنازع في الإختصاص. أقول "ربما" لأن الواقع يقول ذلك. ففي هذا العام شكلت إنتهاكات الشرطة لحقوق الإنسان أكبر مآسي النظام المصري، خاصة بعد أن أصبحت تلك الإنتهاكات موضة إعلامية ومدخلا للمزايدة بين الفضائيات (أزمة فيلم "خلف الشمس" لقناة الجزيرة لا زالت حاضرة في الأذهان). والمدهش ان هذا السبق بفتح ملف التعذيب المصري كان في البداية حكراً على الفضائيات المصرية الخاصة ومكاتب الفضائيات العربية النافذة في القاهرة. قناة الأوربيت إفتتحت الموسم بقضية عماد الكبير وإغتصابه بقسم شرطة بولاق، ثم توالت القضايا التي كشفت عنها فضائيتا دريم والمحور، وكانت البداية قد دشنتها تلك القنوات بعرض الإنتهاكات التي تمارس تجاه المتظاهرين السياسيين. فهل يمكن القول عن معيار شفافية جديد تبخر من تحت طنجرة النظام لفضح ممارساته التاريخية؟ أم أن القضية بمجملها هي نتاج حركة المكاسب التي حققها الإعلام في توقيت إشاعة النظام جواً إصلاحياً زائفاً؟ الإجابة لا يمكنها أن تكون رهينة فقط بخيارين منتظمين كما في الإحتمالين السابقين، خاصة وأن الباحث في الظواهر الجديدة الخارجة من مناخ مصر في العامين الأخيرين لا يستطيع الإرتكان الهادئ التبسيطي إلى عامل وحيد واضح وشفاف لإنتاج تلك الظواهر. لكن العودة لتعريف دور الإعلام كسلطة رابعة منظمة وضاغطة على السلطات الثلاث التقليدية، يضعنا أمام مفارقة كبيرة.فالإعلام الذي يستمد سلطته التعريفية من رأي عام له حقوق عليه ومن ثم يشكل بهذا الدور الكشفي لظواهر الإستبداد السياسي إلية مبدئية لمحاسبة المسؤولين عن هذه الإنتهاكات، يقف مراوحاً حين تصب كل تلك المكاشفات أمام سلطة أدمنت حشو أذنها بالطين والعجين. بمعنى أن الآلية التي تبدو ستؤدي إلى مكاشفة وفضح تنتهي عند حدود العرض الفارغ لهذه القضايا دون أن يؤدي ذلك إلى محاسبة احد أو مكاشفة أحد. شاشة عريضة من الفضائيات تعرض المأساة المصرية بحس التنصل من المسؤولية وإلقائها على قارعة الطريق تبحث عمّن يكمل مهمتها. الأمر لا يتعلق فقط بإنتهاكات حقوقية وإنسانية، فالشاشات تعرض يوميا كل مظاهر التحلل البطيء للدولة: فساد في الصحة والتعليم والنظام العام والهوية الوطنية دون أن يحرك ذلك شعرة قلق في رأس النظام. الإعلام هنا ليس إنتحارياً لغم أجساد مذيعيه ومعدّيه ومخرجيه بغية تفجير الوضع او البحث عن حقيقة ما، ليس أكثر من مجال تنفيس واسع لأشياء يعلمها القاصي والداني. هو ينقل فقط فضاء النميمة المجتمعية في المقاهي والجلسات الخاصة وحكايات جانبية ربما تلتقطها في أي حديث بين إثنين في الشارع المصري إلى سجن الصورة. يؤمم السيرة الشعبية للهموم الوطنية داخل أشرطة تلفزيونية ربما تنتهي أهميتها بعد أن ينهي المخرج فقرة الهواء. إنها ثرثرة تنطلق من الهواء لتنتهي إلى الهواء. والدليل ان المتلقي الجالس ليشاهد ضحية التعذيب التي تتحدث بخجل (كان الضحية يصر على تسمية الطيار بالبيه وزوجته بالهانم رغم مأساوية المشهد الذي يشاركهم فيه)، ربما يحدّث نفسه قائلاً: وما الجديد فهذا يحدث يومياً وفي كل مكان. وفي إطار رثائه لحاله وحال الضحية ربما يدفعه الأمر إلى التشكيك أصلاً بالقصة رغبة منه في المشاركة بالحدث، حتى ولو بهدم توحده مع الضحية، توحده مع ضحية يكرهها كما يكره نفسه لعجزه عن الإنتقام من جلاديها. فيلجأ إلى الإنكار علّه يدفع بمورفين جديد إلى حياته التي لابد ان تستمر.لن تدفعه حكاية الشاب المعذب أبعد من تمني ألا تضعه الظروف في محله. لن تدفعه لرد الصفعة التي ستهوي على وجهه من ضابط شرطة في ميدان عام، ستجعله أكثر أريحية في إستقبالها لا في التمرد عليها. لأنه ببساطة إبن لمجتمع يهوى مازوخيته، ويكرس إعلامه لإدامة النظر الفارغ في عيون الضحايا. يكرّس للإنتهاك كواقع حياة وتمنّي دفع حادثة الإنتهاك القادمة بعيداً عنه. وفي هذا الإطار أعجبني للغاية موقف آخر ضحايا كلاب الأمير ترك حين ظهر على شاشة المحور مستسلماً للغاية، فيما المذيع يحرضه على تقديم بلاغ في اليوم التالي للنائب العام، إبتسم الفتى ساخرا من المذيع قائلاً له: "أنا مش عايز حقي يا أستاذ معتز... شوفو أنتو حق البلد وخدوه... أنا مش أشجع من مصر اللي ليها حق ومحدّش حيخده، أنت متخيّل أن النائب العام حيقدر يعمل حاجة مع الأمير؟... حقي أنا ربنا يعوضني فيه..."، صمت معتز الدمرداش لاعناً ذلك الحديث الذي دفع بالمسؤولية إلى آذان الطين والعجين، فيما الشاب قد لخص مصير ألف ضحية قادمة ليس للأمير وحده بل لأي قوى إستبداد عابرة ستختار ضحيتها بمنتهى العشوائية كي ترى في عيونها الخوف. الإعلام ومن قبله الصحافة التي تتمدد على صفحاتها يومياً مظاهر هذا التحلل الرهيب للمجتمع، لا تبحث، كما يعتقد البعض، من منظري التراكم الطويل عن شحذ المقهورين للحظة قادمة لا محالة حين تنقلب إلى منتقم جبار سيطيح بكل هذا التاريخ. إنها، وهي تقع على الحافة مكرّسة خيال الخراب العام، تبتلع قواها فجوة سوداء من عبث، فجوة لن تدفع يوماً بالصهير إلى السطح، بل هي تدفع لتكلس الأبدان بالجلد الميت، الجلد الذي يتجدد يومياً لتحمل سياط الجلاد لا أكثر. فسمك الطبقات الميتة على هذا الجسد سيحمله الشعب إلى مثواه الأخير. إنها ليست سوداوية بلهاء، إنها مجرد بعض من خبر الحقيقة المؤسفة.