سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الاثنين، مايو ٢٨، ٢٠٠٧

الأزهر يطلق أكثر الفتاوي عجائبية


ماهو حكم الإسلام في الباب الخشبي ؟ أو ماهو حكم الإسلام في أكل لحم الجان؟ هكذا ومنذ زمن بعيد كنت أستمع إلي برنامج "أفيدونا يرحمكم الله" بإذاعة القرآن الكريم ، والذي كان يتولي فيه علماء أزهريين أفاضل الرد علي أسئلة المستمعين ، لكن الأسئلة كما تقدم لم تكن تخرج عن هذا الإطار ، بعض من الفانتازيا وكثير من الهوس ، أما فضيلة الشيخ فكان مضطرا بكل تهذب للرد علي تلك الأسئلة بمنتهي الجدية والوقار ، نعم وقار لا يمكن وصفه إلا بسلوك من تحكم في إنفعاله داخل عزاء خشية أن ينفجر في الضحك ، هكذا تخيلت نفسي للحظة أمام تلك المهمة الجبارة التي وهي أمانة في رقبة شيخ ربما تكون تلك كل وظيفته في الحياة ، أن أكون في موقعه مضطرا -مخافة أن أتجاوز نصا أو سنة -لمراجعة مئات الكتب الدينية بحثا عن موقف أو حكم الإسلام في الباب الخشبي، أو علي أقل تقدير عدم الإستخفاف بغباء السائل الذي يتحدث عن لحم للجن والمسلم القاصي والداني يعلم أنها كائنات ذات طبيعة غير مادية لايصلح معها الأكل والطبخ ، هذه كانت بعضا من الأفكار التي تراودني كثيرا مع إستماعي في فترة الطفولة للإذاعة ذات المحتوي الغير متغير منذ نصف قرن ، لدرجة أني كنت اتخيل أحيانا أن بعض تلك الأسئلة ما هي إلا خيال معد الفقرة وربما الشيخ الجليل المجيب نفسه ، لأن ببساطة من يسأل عن حكم الدين في باب خشبي ويرسل رسالة في مظروف وينتظر الحكم كان جديرا بصورة كاريكاتيرية يظهر فيها السائل ونجار وبعض الجيران متحلقين حول باب لمنزل يستند علي جدار بأحد الشوارع ويضعون أمامه المذياع في إنتظار إجابة الشيخ الجليل التي إما ستجعل النجار يركب الباب أو تضع الباب في حكم الحرام ، مما يستتبع ذلك من خيال لأزمة الباب وإنكشاف داخل المنزل أمام الماريين في شارعه ثم الدخول في باقي ذلك الخيال المضحك ، من ناحية ثانية يبدو سؤال آكل لحم الجن ذو طبيعة فانبيارية أصيلة ، حيث في حالة الإجابة عليه بأنه حرام كيف سيتصرف السائل في اللحم المذبوح أمامه وقد شمر عن ساعديه مستعدا لشواءه مثلا ، الأزمة أن الشيخ في الحالتين كان مضطرا للإجابة الفخيمة الفصيحة التي تبدأ بالإستعاذة بالله والصلاة علي الرسول ، مضطرا للتنقيب في إمهات الكتب التراثية المرجعية بحثا عن سيرة ما للخشب في التاريخ الإسلامي تربطه بمعيار التشريع أو التحريم ، فيما حاول في الإجابة علي السؤال الثاني أن يتحدث عن الطبيعة اللامادية للجن معددا الأيات القرآنية والأحاديث وأخبار الصحابة الأوائل عارجا من ذلك عن أن الجن بلا لحم أو مرق وإن أكد في النهاية أنه بما أن لا مانع شرعي واضح فهو –أي أكل لحم الجن- حلال !
إستدعيت السؤالين خلال هذا الأسبوع كثيرا بعد أن أرق مضاجع المصريين حادثتين كبيرتين علي نفس المنوال ، تحدثت حولهم الصحف ، وإجتمع علي أثرها شيوخ الأزهر ، ودشنت لهما ساعات محترمة من البث التلفزيوني ، ناهيك عن ساعات الثرثرة الممتدة من البيوت إلي المقاهي إلي التجمعات العامة ، والأولي تفجرت كالعادة مع سؤال – لاأشك لحظة في مكر سائله- وجه للدكتور عزت عطية أستاذ ورئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين وأحد علماء الأزهر الأجلاء حول حكم الإختلاء برجال في مكان العمل ، الأمر الذي جعله يفتي بضرورة إرضاع المرأة العاملة لزميلها في العمل خمس رضعات مشبعات كي تحرمه علي نفسها ، ولنتخيل وقع هذه الفتوي التي أثارت خيالا مجتمعيا كوميديا وقد تحولت بمجرد ترديدها – حيث حملتها الصحافة علي أجنحة الريح لجمهورها المتشوق للإرضاع- إلي أزمة كبري ، لم يتنصل الرجل عن فتواه الصحيحة شرعا لكنها في الواقع تبدو كارثية المعني والهدف، وبدأت الناس تتحدث عنها بمنطق الطرفة ، وهو ما أشعر الأزهر بحرج موقفهم فإجتمع المجلس الأعلي وأصدر قرار بوقف أستاذ الحديث عن العمل وإحالته للجنة التأديب، أما الثانية فكانت تصريحا للمفتي الشيخ علي جمعة ردا علي سؤال لأحد المصلين بمسجد السلطان حسن الذي سأل عن حكم التبرك ببول الرسول (ص) فكان رده كما نشرته جريدة المصري اليوم واسعة الإنتشار: إن الأساس في فتوي تبرك الصحابة بـ«بول» النبي صلي الله عليه وسلم هو أن كل جسد النبي صلي الله عليه وسلم في ظاهره وباطنه طاهر وليس فيه أي شيء يستقزر أو يتأفف أحد منه، فكان عرقه صلي الله عليه وسلم أطيب من ريح المسك وكانت أم حِرام تجمع هذا العرق وتوزعه علي أهل المدينة.
وأضاف جمعة: فكل شيء في النبي صلي الله عليه وسلم طاهر بما في ذلك فضلاته، وفي حديث سهيل بن عمرو في صلح الحديبية قال: «والله دخلت علي كسري وقيصر فلم أجد مثل أصحاب محمد وهم يعظمون محمدا فما تفل تفلة إلا ابتدرها أحدهم ليمسح بها وجهه» وحينما أعطي النبي صلي الله عليه وسلم لعبدالله بن الزبير شيئا من دمه بعد الحجامة فقال له الرسول صلي الله عليه وسلم ادفنه، فرجع فرأي النبي عليه شيء فقال له أين دفنته، قال في قرار مكين فقال له الرسول صلي الله عليه وسلم «أراك شربته ويل للناس منك وويل لك من الناس بطنك لا تجرجر في النار».
واستطرد جمعة قائلا: فأخذ العلماء من هذا ومنهم الإمام ابن حجر العسقلاني والبيهقي والدارقطني والهيثمي حكما بأن كل جسد النبي صلي الله عليه وسلم طاهر في ظاهره وباطنه، وعلي ذلك جماهير العلماء كما نص علي هذا أيضا القاضي عياض في «الشفاء» والأمام الغزالي في «الوسيط»، والإمام زكريا الأنصاري في «أسمي المطالب» وابن الرفعة والبلقيني والزركشي، وقال شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني «تكاثرت الأدلة علي طهارة فضلاته صلي الله عليه وسلم وعدَّ الأئمة ذلك في خصائصه فلا يلتفت إلي ما وقع مما يخالف ذلك فقد استقر الأمر من أئمتهم علي القول بالطهارة»
وقد أدي رأي المفتي وفتواه إلي تصريح صادم وعنيف جاء هذه المرة من الشيخ محمود زقزوق وزير الأوقاف الذي إعتبر فتوي " التبرك ببول النبي" كلاما فارغا وفقا لما نقلته صحيفة المصري اليوم حيث قال في كلمته التي ألقاها امام جمهور من الدعاة القدامي وخلال دورة تدريبية للأئمة:
تعودنا أن تكون الإساءة للإسلام من أعدائه والحاقدين عليه وهذا يحدث منذ ظهوره، ولكن الموضة الجديدة هذه الأيام - للأسف الشديد - الإساءة للإسلام من أبنائه وأتباعه ومن هذه الإساءات، التي ظهرت مؤخراً، الفتوي التي تقول إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتبركون بشرب «بول» النبي صلي الله عليه وسلم وهذه إساءة واضحة للنبي صاحب الدعوة، الذي كان نقياً في كل شيء ولا يقبل مطلقاً بهذه التخاريف.
هذا التضارب بين جهتين داخل المؤسسة الدينية ليس بجديد ، بل ومرشح للتصاعد خلال الفترة القادمة ،فالمتأمل لحال المؤسسة الدينية الرسمية يدرك تماما مفصلية اللحظة التي تمر بها الآن ، فقد فقدت شيئا فشيئا كثيرا من رأسمالها التاريخي الممتد لقرون في ذاكرة الجماعة المصرية ، خاصا وهي قد نزلت إلي وحل السياسة حتي أعلي ذقنها ، وأصبحت سيرة المفتي أو شيخ الأزهر أو وزير الأوقاف في الذهنية الشعبية مرتبطة بموالاة شروط السلطة السياسية وتكييف التشريع الديني مع كغطاء للكثير من خطايا النظام ، وليس بعيدا عن ذلك فتوي شيخ الأزهر بعدم مشروعية الإمتناع عن التصويت علي التعديلات الدستورية الأخيرة والتي وصف من يقاطعها بكاتم الشهادة مؤثما قلبه، هذا من جهة ، بينما من جهة أخري تنحو العلاقة بين المرجعية الدينية وجمهورها الشعبي إلي أن تتحول إلي حالة اكثر فردية لا تعتمد علي رسوخ مؤسسة بحجم الأزهر ، فعوام المسلمين يستمدون تشريعهم الآن إما عبر برامج الفتوي الفضائية ، أو عبر سؤال أقرب إمام مسجد أو أي زي لحية موثوف الجانب ، تنحو العلاقة أكثر إلي تبسيط يخضعها لمنطق ( سؤال وجواب شاف) ، خاصة وقد إكتسب الوعي الجمعي الديني صبغة تشظية تفاصيل الحياة الدقيقة تحت مجهر التحليل والتحريم ، وهو المجهر الذي لا يتطلب إطنابا ولغوا وفصاحة أهل العمائم الذين يبحرون داخل كتب الفقه مدللين في أحكامهم جوازا أو قبولا أو رفضا بين بحور مذاهب أربعة ، فيما المستفسر عن شأن دنيوي يبحث ببساطة عن إجابة الحرام والحلال ، وفيما تحاول المؤسسة الدينية النزول إلي معترك التنافس علي رأس مالها المعرفي والوظيفي تنافس شريحة واسعة ممن أصبح الدين تجارة لهم منافسة متأخرة ، تنافس علي أرضية ملعب جري تأميم نتائجه قبل بداية المباراة ، حيث أنتج هوس التدين الشكلي دعاته ومنتجي خطابه المتمالثين في الخيال مع ما يقتضيه العصر من تواصل مع المعارف الحديثة – حتي لو إصطبغ ذلك التواصل شكلانية برجماتية محببة في الملبس وإستخدام التقنيات الحديثة كالنت والموبايل - ، ولنتأمل نموذجا تحليليا فيما حدث مع فتوي إرضاع الكبير حيث من الواضح أن سائلها كان يحاول البحث عن سؤال صعب ، وهو هل يصح ان تختلي مرأة برجل في مكان العمل ، وربما كان ما يريده تحديدا تهدأة مخاوفه علي زوجته أو الإستدلال بحرمانية ذلك مبررا منعها عن العمل ، لكنه سأل في المكان الخطأ والشخص الخطأ ، الدكتور عزت عطية كانت ستسجل عليه لو إستعمل فقه الفضائيات الذي يحرم النزول إلي العمل ومخالطة النساء ، لذلك لم يجد حلا إلا الإبحار فيما يضمنه من مراجع وأمهات الكتب للإستدلال علي إمكان وجود خلوة مع رجل في الحلال ، أبحر الرجل خوفا من أن تسجل علي الأزهر سابقة تحريم عمل المرأة فإصطدم بقاع النصوص وأخرج من ظلال الأحكام حكمه الفقهي الذي هو بإستدلال بسيط شرعي ، لكنه لايناسب لا الحالة ولا الزمان الحالي، ويداوي هاجس وهلاوس التخوين الجنسي بنفس المادة العضوية المستمدة منها ، فلكي يصح قياسا إجتماع رجل وإمراءة لابد أن تحرم عليه جنسيا ، والإرضاع يضع الرجل في محل التحريم ومن ثم علي كل إمراءة تختلي برجال أن ترضعهم خمس رضعات مشبعات ، ببساطة لو مال المتسائل علي جار متدين لحرم له الأمر من بابه ، وحرم عمل المراءة وإنتهي الأمر لكنه ذهب إلي الموثوق بهم – أي رجال الأزهر – فأصاب المجتمع بالصدمة والنساء تحديدا بمدارة الخجل من تلصص عيون الرجال علي أثدائهن المشتهاة ، وهكذا سيدخل الأزهر حقل ألغام محاولة تطويع جمود إجتهاده في النصوص في مواجهة سوق جائع إلي المطابقة بين حياة جماهيره وأحكام الشرع .أما عن الشيخ علي جمعة مفتي الجمهورية فقد إستسلم علي مايبدو لمحاججة فقهية مكانها الطبيعي بين شيوخ الأزهر وهي لاتهم عموم المسلمين في شيئ، حين اضطر للإجابة علي سؤال لامبرر له إلا في قاعات الدرس ، مستخرجا هو الآخر قياس فقهي أكاد أشك في جدواه وفي مراجعه ، فما فائدة المسلمين الآن من إذا كان بول الرسول يصلح للتبرك أم لا ؟ وعند أي حد لابد ان يقف المفتي والمشرع عند معني وجوهر السؤال المطلوب الإجابة عليه ؟ هل هو مطالب بالإجابة علي كل شيئ وعلي أي شيئ؟ وماهي قيمة الفقه إذا ما وصل إلي مرحلة الإفرازات من بول أو لبن ؟ الإجابة واضحة ، فلا سقف واضح لحجم المعرفة التي باتت تدخل حياة المسلم يوما تلو الآخر ، ولا سقف لمعرفة الله ووظيفة الجميع من مؤسسة دينية رسمية إلي فقهاء الأرصفة هي محاولة وضع كل ماهو مفتوح بإتساع في الأول تحت سقف المعرفة الإلهية وإلا فقدوا رأسمالهم الوحيد الذي يضمن للجميع حياة إسلامية سليمة لأربعة وعشرين ساعة في الأربع وعشرين ساعة ، وما اصعبها من مهمة .