سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الأربعاء، ديسمبر ٢٧، ٢٠٠٦

الإخوان والأزهر .... أيهما المبتدأ ... أيهما الخبر


الهارموني بين باعة صكوك الغفران
هاني درويش


إنها جامعة الأزهر كالعادة ، ذلك الرصيد الإحتياطي التقليدي للظاهرة الإسلامية الجديدة في مصر ، ولايعني هذا الظهور الحشدي التجيشي لكوماندوز طلاب الأخوان في ساحتها أي إحتمال لصدام متوقع بين الجماعة الشهيرة ومؤسسة الدين الرسمية للنظام المصري ، فليهدأ الجميع ويخففوا من سقف تأويلاتهم لذلك المشهد الذي أضرم النار لأسابيع في الشارع السياسي المصري، فلن يجرؤ أحد علي المطالبة بحل جذري يطال بالتغيير مؤسسة الأزهر وجامعته التي تسكن كقلعة معزولة خارج المجتمع وحضارته منذ القرون الوسطي ، ولن يجرؤ آخرون في حمي التفسيرات علي وضع علاقة جماعة الأخوان بالأزهر موضع تساؤل جاد ، هناك جريمة تاريخية يعمي عنها المجتمع بملئ إرادته وحملت الكاميرا البريئة أبناء خطيئةتلك الجريمة إلي مقدمة الحدث الأول دون مبرر، فالمجتمع محموم بشكل كاف في صراع مزاد الدين بين الدولة ومعارضتها الوحيدة أي جماعة الأخوان ، وأي صوت عاقل لا مكان له الآن ، المزاد الديني مفتوح في مجتمع فقد كل مبررات حياته وما عاد له في ميزان دنياه إلا حديث الآخرة ، حكوما ونظاما ومعرضا وشارعا ، لاصوت يعلو فوق الأصوات الناطقة بإسم الله .
ولإستعادة المشهد من بداياته بحثا عن فك الإرتباط بين عناصره المتداخلة لابد من حديث التاريخ الموازي للجماعة والجامعة ، وهي عودة لبذور الفتح الناصري الخرب لوطن ضاع جريرة عقم رؤي قيادته العابثة ، في البداية كان الأزهر الذي بقي فيما قبل التشويه الناصري ومنذ بدايات القرن الماضي حصنا حصينا لثلاثي ما قبل الحداثة المثالي ، حصنا لترويكا الفقر والجهل والمرض ، فبنية التعليم الديني الأزهري الحجرية أصابها ما أصاب الفكر والفقه الإسلامي من جمود بدأ مع عصور الإسلام الوسطي ، وتحولت الإنتلجانسيا الوحيدة التي واجهت الحملة الفرنسية 1798 إلي عبأ مزدوجا علي الحداثة المتأخرة في عصر محمد علي ، حتي لو وضعنا في صدارة المشهد البروز الناصع للشيخ رفاعة رافع الطهطاوي بزخائر رحلته الباريسية ، ثم إجتهادات الشيخ الإمام محمد عبده مع تفتح بدايات قرن الإستعمار ومفاهيم الأمة والوطن ، وحتي مع ذلك ظل الأزهر بعالم تعليمه الديني مشهدا ثابتا لا تصلح معه رتوش الحداثة للشيخين الجليلين ، الأزهر يبقي وسيبقي تلك المؤسسة التي قدر لها لزمن طويل جدا أن تلعب دور دولة الظل لدولة لا ظل لها ، أو بيتعبير أدق الظل القوي للدولة الشبح ، بما في ذلك المصطلح من تناقض ، كيف يلعب الظل القوي دورا لجسد هو بالأساس شبح؟ . الأزهر هو المعني الحرفي لركون المصري المسلم منذ قرون علي دور ومكانة لا يحددها عرض زائل مثل السلطة ، لاتحددها قيمة أخري حتي لو كانت العلم فهل من علم أعلي من العلم الإلهي ؟ لذا لايبدو مستغربا مشهد إفتتاح الجامعة الأهلية المصريةعام 1914 و التي كانت أولي دعائم ما يسمي بالتعليم المدني الحديث أن يقرأ القرآن في الإفتتاح وتأتي كلمة عالم الأزهر المندوب للحفل لتؤكد أن الجامعة الجديدة لن تدرس إلا ما هو متوافق مع الدين ، الأمر الذي دفع الرائد لطفي السيد أول عميد للجامعة الجديدة أن يعلن من الصف الأول صرخته التي سرعان ما سينساها التاريخ " لادين للجامعة ، ودين الجامعة هو العلم " ثم لتدخل الجامعة الجديدة صراعاتها العنيفة مع الأزهر لسنوات طوال ، يحدث هذا في أكثر لحظات تاريخ مصر الحديث ليبرالية ، عشرينيات وثلاثينيات مصر الذهبية ، فما بالنا ونحن الآن في عصور الردة المملوكية المتأخرة ، وليستمر التناحر عقودا عديدة تنزع فيه الجامعة المدنية المدينية لتأكيد إستقلالها العلمي فيما ينفرد الأزهر بدوره النظامي المتمثل في لعب أدوار ماكينة الدراي كلين الدينبة لكل الأنظمة السياسية ، عاش الملك ، مات الملك ، جاء الضباط ملوكا جددا لايتغير شيئ، طالما المقامات محفوظة ، والجبب والقفاطين تمتد من خلف أسوار الأزهر لتصل إلي أقصي القري والجوع حاملا كلمة الله في أرضه ، بقت المدينة وجامعتها لسنوات مجال أحلام أبناءها ، وظل الفخر القروي المعمم لذوي الكولة ، المجتمع الزراعي ظل ولا يزال يرزخ تحت دعائم القوي الروحية لحملة كتاب الله ، حتي عندما دعي ناصر ببرجماتية مخابراتية إلي تحويل الأزهر لجامعة تدرس العلوم المدنية جنبا إلي جنب مع العلوم الدينية ، إستطاع الأزهر أن يتكيف سريعا مع حملة الضباط ، وبقي ما لقيصر لقيصر وما لله لله، حاول ناصر مع أفكاره القومية والعالمثالثية التي جعلت من بلاد العرب وإفريقيا أرضا لرسالته الطموحة بعالم الأزهر المهندس والطبيب والكيميائي أن يستغل رافعة الأزهر الدينية لبسط سيطرته علي محيطه الإقليمي ، وتمطع الأزهر المرن ليتقبل المهمة المزدوجة والشيزوفرينية بإدخال العلوم الحديثة علي قائمة علومه التي لم يسطر بها قلم جديد منذ قرون ، الأزهر بالآف معاهده ومدارسه المنتشرة في كل مسام القطر كان أهلا لمعركة الحداثة المنقوصة ، تعليم تلقيني كهنوتي يستوعب أفقر فقراء الريف وهامش المدينة ويمتص داخل أعداده الغفيرة تلك الرسالة السياسية المزدوجة ، بقت المدينة حتي مع سياسات مجانية التعليم الجامعي الكاذبة مسرحا لنخبة النخبة ، وتؤكد علي ذلك الدراسات المتعمقة للريف المصري الناصري ، فحركة تنمية المدينة والصناعة أنتجت إفقارا متعمدا للريف ، بقي الريف الزراعي المتجمد بصفاته الإقطاعية إبنا للمجال الحيوي للتعليم الأزهري ، ومن بين أسرة ريفية تضم خمسة إلي ستة ابناء في المتوسط تعلم واحد فقط تعليما مدينيا والباقي إما غير متعلمين او متعلمين تعليما متوسطا أزهريا ، هذا عن فترة الإزدهار الناصري والتي تزامنت مع تصدير عدد لابأس به من حملة الشيزوفرينيا التعليمية الأزهرية إلي كافة أصقاع الأرض ، ويحكي عدد لابأس به من الجزائريين مثلا عن مدرسي اللغة العربية المصريين الأزهريين فيما يشبه الكابوس التعليمي والنفسي ، أما نتائج الخلطة الناصرية لتعليم الأزهر فحدث ولا حرج ، لاالطبيب طبيب ، ولا المهندس مهندس ، ولا اللغوي لغوي ، وظلت المواد الدينية محل نجاح ورسوب فيما المواد العلمية غير معول عليها في النجاح أو الرسوب ، لذا كان من المدهش أن تقبل الجامعات المدنية الكبري كالطب والهندسة حدا أدني لا يتقل عن 90%فيما الكليات الأزهرية الموازية تقبل من حد أقصي 60%، فيتخرج طبيبا من إستطاع حفظ الثلاثون جزء من القرآن حتي لو رسب في مادة الإحياء ، وتلخيصا حاول ناصر إمساك العصا من المنتصف فإنكسرت، بل وعاد جزء كبير من هذه ألوية الفتوح الأزهرية الناصرية بفقه الصحراء وتأويلات عنيفة للدين عمقت من إنقطاع الإجتهاد الديني الأزهري وأعادته مئات أخري إلي الوراء ، ولا أكثر دلالة علي ذلك من حكاية أحد اصدقائي الأزهريين من محافظة المنصورة والذي كان معيدا بقسم الكيمياء بكلية العلوم جامعة الأزهر ، كان موهوبا لدرجة أنه إختار تخصص الكيمياء الذرية لدراساته العليا وبعيدا عن كون موضوع رسالته لم يجرؤ أستاذ واحد بالجامعة في مناقشته فيها – حيث لازالوا يدرسون مناهج الكيمياء العامة للعام 1965 – إلا أن المفارقة الكبري كانت يوم مناقشته حيث إنقسمت عائلته إلي قسمين في قاعات المناقشة بينه وبين إبن عمه في كلية الشريعة والذي كان عنوان رسالته للدكتوراة " عالم الجن بين القرآن والسنة " !!
جماعة الإخوان المسلمون في ظهورها نهاية الثلاثينيات لم تمارس أيا من الصدام مع الأزهر ، مثل الأزهر بتعليمه خط إمدادها الخلفي وعندما حدث الصدام الشهير مع ناصر وفرت عباءة الأزهر لعدد كبير منهم هجرة مثمنة إلي دول خليجية عديدة ، رحبت بهم وأثقلت من ميزان حساباتهم المالية الجارية ، ويعود الفضل لدول بعينها في عودة الراسمال المالي للإخوان عودة مظفرة مع التحول الساداتي ، عاد الإخوان بأموالهم النفطية ليحتلوا حيزا في بنية المؤسسات التعليمية الرسمية والأزهرية ، وبقي الطرفان ( الإخوان والأزهر ) يحترمان تقسيم العمل الإسلامي ، عداء وردي أزهري بلا أنياب للأخوان ، وسمعة فقهاء السلطان التي أطلقها الإخوان علي الأزهر لم تعني يوما تضارب المصالح ، فالحركة الإسلامية مهما كان شططها لاتستطيع إغفال الدور الجوهري الذي يلعبه الأزهر كقيمة روحية عامة لدي المصريين ، والأزهر مهما كان إستربتيزه السياسي مع النظام لايستطيع أن يكفر أخوة القضية ، الأزهر صالح لبيانات التنديد بعد مروق طائفة إرهابية بعملية ما ، لكنه لايستطيع مثلا أن يشكك ولو للحظة في شعار دعاة لا قضاة الذي ترفعه الجماعة ، ويلاحظ هذا التواتر الكلاسيكي في متتالية المواقف بين الأزهر والإخوان في قضايا مصيرية فمثلا عندما رفعت أصوات تتحدث عن علمانية الدولة في مصر عزف الكونشيرتو الأخواني الأزهري بتناغم فريد ، وحين تصل الصدامات البالونية الشهيرة والموسمية حول قضية مجتمعية ما نلاحظ هذه الهارمونية في الآداء حتي لو أصابها أحيانا بعض النشاز، في الخمسة عشر سنة الأخيرة وفي كل القضايا التي توالت علي جسد الثقافة المصرية رقابيا ، كان مشعلوا الحرائق دائما من التمثيل النيابي للإخوان بينما وقودها الرئيسي كان جمهور طلاب جامعة الأزهر ، من نصر حامد أبوزيد إلي أزمة وليمة لأعشاب البحر إلي أزمة الروايات الثلاثة إلي اخيرا أزمة تصريحات فاروق حسني عن الحجاب ، بل إن لجنة مثل جبهة علماء الأزهر الأشد إظلاما حتي من الأخوان تلعب الدور الحيوي في تقسيم العمل داخل جامعة الأزهر ، فهي اللجنة الممثلة بشكل حقيقي للمناخ الأكثر ظلمة فيما قمة الجامعة يبدو خطابها السياسي ممثلا في عميد الجامعة وشيخ الأزهر أقرب للواجهة الحكومية ، وأحيانا مايختلط تمثيل المناخ العنيف بتمثيل الدراي كلين السياسي كما في حالة العميد السابق ورئيس اللجنة الدينية بمجلس الشعب د. أحمد عمر هاشم أحد أكثر الشخصيات الدالة علي فصام الأزهر السياسي العقائدي وهو المعروف بسافح دماء المفكر الكبير نصر حامد أبو زيد، ويبدو الخيط السرمدي الواصل بين الجماعة والجامعة ممثلا أكثر ما يكون بحالة إحتلال الإخوان للنقابات المهنية التقنية منذ نهاية الثمانينات حيث لعب خريجي الازهر من كليات الطب والهندسة دورا في الفوز الكبير للجماعة بهذه المعاقل الكبري حتي لوبقت كريمة التمثيل النقابي ممثلة في قيادات الجماعة من الكليات المدنية ، فالتعليم المصري الحكومي المدني يتريف منذ أكثر من عقد ومع التوسع المجاني الرخيص في إنشاء جامعات إفليمية ركيكة المستوي العلمي ومع ضعف الحياة السياسية الجامعية وسيطرة الأمن علي الجامعات تحولت الجامعات المدنية الحكومية إلي صبغة جامعة الأزهر ، وإن بقت تركيبة طلاب جامعة الأزهر هي الأكثر تمثيلا للعنف الإخواني ، ربما بحكم الإمتياز الوراثي كمجاهدين وظيفيين بإسم الدين ، إلا أنهم يظلون جنودا للمشاة تحدث بينهم أكبر الخسائر ، لذا لن يبكي عليهم كثيرون بعد غضبة الدولة الإعتقالية ، بل وسيخرج عميد جامعة الأزهر ليصفهم بالخراف الضالة المارقة ، وسيدافع عنهم الإخوان ببرود الجنرال عندما يخطئ جندي مراسلته ، لكننا لن نسمع صوتا واحدا يربط بين عنف جنود المشاة وحكمة البجنرال الإخواني حتي لاتتقاطع الخطوط وينفضح تقسيم العمل الهادئ لصكوك غفران ينتظرها بعضا وسبعون مليون من المواطنين .