سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الجمعة، ديسمبر ٠١، ٢٠٠٦

فليعش وحيد حامد مرطّب مشاعر الجماهير المنافقة


في حواراته التي تلت عرض الفيلم بدا وحيد حامد سيناريست عمارة يعقوبيان المتحدث الرسمي باسم أسرة الفيلم، ليس فقط بسبب حجم مشاركته في إنتاج الفيلم مادياً، وهو صاحب حق تحويل الرواية ذات السمعة الى نص سينمائي، وليس كذلك بحجم المساهمة العائلية المباشرة ممثلة في إخراج ولده مروان للفيلم، ولكن قبل ذلك وبعده لأنه صاحب المعالجة الأكثر التباساً للنص الأدبي. وحيد حامد في صدارة المشهد آلة إعلامية ضخمة متفق على تأثيرها الفعال، كذلك هو برزخ آمن بين معارضي النظام ومؤيديه الذين وجدوا في الفيلم مناسبة سياسية صالحة لفتح كل الملفات. فالسيناريست الشهير لعب دوراً هاماً في المواجهة الأيدولوجية بفرعها السينمائي خلال مواجهات الدولة مع التيار الراديكالي الإسلامي منذ نهاية الثمانينات. أفلام مثل الإرهابي ومسلسل "العائلة" مثلاً أطلقا ما يمكن أن يكون تشهيراً حكومياً بشخصيات الإرهابيين. قدم حامد قراءة تخدم كل الأطراف مموهة بوعي اجتماعي وسياسي لتاريخ حركة الإسلام السياسي في الخمسين سنة الماضية. وحيد حامد يعود في "يعقوبيان" بمعالجته السينمائية الى ما هو خارج النص المتفق عليه ضمنياً عندما يعترف أخيراً بأن الإرهاب ربما يكون صنيعة الدولة الأمنية المستبدة حين يجعل طه ابن البواب يقتل ضابط الأمن الذي أمر بإغتصابه داخل أقبية مبنى أمن الدولة. لذا كان من الطبيعي أن ينال وحيد حامد أكبر حفلة ذم في تاريخه من صحف طالما تعاملت معه كنموذج لمثقفها الآمن. لكن يبقى السؤال المشروع يبحث عن إجابة: هل خرج وحيد حامد عن النص المتواطئ عليه، أم التزم حرفياً وربما غامر بتوازنات لحظة سياسية جرب فيها أن يلعب دور الناصح الأمين، مثله في ذلك مثل منتج فيلمه صاحب مشروع الحملة الدعائية للرئيس في انتخاباته الأخيرة؟ هذا الكلام، في ما هو سياسي وشخصي، ربما لا يصلح الاحتكام إليه إلا في سياق البحث عن إجابات في ضمائر وحيد حامد ومنتجه وقبل ذلك في دهاليز الصراعات الداخلية بين أجنحة النظام الحاكم في مصر، وهو جدير بكتابة أخرى. يكفينا هنا استيعاب حالة التسخين السياسي التي صاحبت منتجاً سينمائياً فانشغل الجميع بتأويلاتها دون النظر الى المنتَج من حيث هو فن ربما يحمل خطاباً سياسياً، لكن قبل ذلك هناك ضرورة لتقييمه وفقاً لمعياره الفني.يعرف الجميع أن هناك تصنيفاً كلاسيكياً لطرق الاقتباس السينمائي لعمل أدبي يقسمه الى ثلاثة أنواع، الأول هو الاقتباس النصي الذي يراعي العلاقات الزمكانية للنص الأدبي ويتعامل مع النص حرفياً، أي ينقل ما فيه من تتابع سردي وحوارات وبناء درامي كما قدمت في النص الأدبي؛ والثاني اقتباس روح النص بمعنى الحفاظ فقط على العلاقات الزمكانية مع بناء وحوارات وسرد يناسب السينما كوسيط مختلف؛ والثالث هو الاقتباس الاسمي حيث التناص بين الأدبي والسينمائي يقف عند حدود التسمية. عمارة يعقوبيان الفيلم ينتمي للنوع الأول، وغالباً ما يضطر سيناريست هذه النوعية من المعالجات الى اختيارها عندما يتعامل مع نص أدبي عصي على التفكيك أو المراوحة، وأحياناً يكون ذلك نتيجة سهولة النص نفسه وبساطته ما يدفع السيناريست الى التناص كاملاً معه، هو بذلك اختيار للتطرفات على تناقضاتها، السهل الممتنع أو الصعب المستغلق. وفي ما يخص يعقوبيان الرواية كان من الواضح ـ وكما أسلفنا في المقال السابق ـ أن بوصلة الكاتب علاء الأسواني هي من البداية السرد السينمائي القائم على الخطوط المتوازية والنقلات التي تشبه المونتاج، ومن ثم مثلت الرواية كنزاً لسيناريست إما موهوب أو كسول للغاية، موهوب ربما يحلق بمعالجته خارج التأطير الروائي فيكسب عمله إضافة جديدة، أو كسول يرتكن على ما في النص وحده من إمكانات درامية متاحة وسهلة. في اعتقادي، كان وحيد حامد من النوع الكسول الذي استسلم لما في نص الأسواني من دراما شكلية ربما يكون مبعثها الأساسي رسم الشخصيات في حكي تاريخي. نتحدث هنا عما يمكن تسميته معلومات تاريخية قدمها الروائي بأضعف التقنيات الروائية وهي الحكي الخالي من الدراما، وهي هنا ملامح يرسمها الروائي بحدة معلوماتية ليؤهل القارئ الكسول بطبعه لاستيعاب سلوك شخوص الرواية. يتبقى إذن أن تتحرك تلك الشخوص في مواقف درامية وحوارية لتنفجر طاقاتها، وهنا تحديداً نصب علاء الأسواني بضعف موهبته كميناً لمن يعالج روايته سينمائياً. فالمواقف الدرامية من حيث هي شخصيات تتحرك لممارسة فعل ما ضعيفة لولا اتكاؤها الحكواتي، والحوارات داخل النص الأدبي ضعيفة ومرتبكة ومختلطة اللغة، وكما هو معروف فإن الحكي عن الشخصيات وتاريخيتها ربما يصلح سينمائياً فقط في الهمس لأبطال المعالجة السينمائية كي تتلبسهم ملامح الشخصية قبل الفعل الدرامي فقط. ما يحكى داخل الأدب يظل أسير الحكاية لا أسير الدراما. فإذا ما وضعنا ذلك الى جانب موهبة صغيرة ممثلة في مخرج الفيلم مروان حامد الذي يتعامل مع كل نجوم السينما المصرية الكبار لأول مرة وهو ما يعقّد مهمته في إدارة ممثليه، لن يتبقى إذن إلا أن يقرأ كلاً من شخوصه كحالة منفصلة. كل الممثلين يتحدثون عن شخصياتهم في الفيلم، وكل يقدم شخصيته من أقرب خبراته: عادل إمام قدمها من مساحة شخصيته في فيلم السفارة في العمارة، ونور الشريف ربما أغرته سمية الخشاب ليذهبا سوياً في أدائهما الى مسلسل الحاج متولي، وهكذا ذهب كل من أبطال الفيلم الى أقرب مسيرة متجاهلين أن الفيلم ربما، باشتباك خطوطهم، يمثل مسيرة منفصلة لعمل جديد، فسقط الجميع في شبهة أعمال أخرى.معالجة وحيد حامد، فيما هي تقارب السطح الخشن لأفكار علاء الأسواني المسطحة بالأساس، لم يجد اتكاءً في حجم الخطوط المتوازية الطويلة والمملة في الرواية إلا أن يقص ويلصق من عنده بعضاً من خطوطها، ليس بتكثيف مللها الروائي ولكن بميكانيزمات هي أقرب الى الارتجال، تارة يسرع الخط الدرامي بصورة غير مبررة كما فعل مع شخصية طه ابن البواب، وتارة يلخص شخصية في مشهد ضعيف كما في شخصية ملاك وأخيه أسخريون، وتارة تعجبه شخصية فيمطّ مشاهدها دون دواع إلا لأنها شخصية عادل إمام أو يسرا، وأخيراً عندما يضبط شخصية في إيقاعها المتزن روائياً تفضحه الدراما الروائية الضعيفة مثلما لدى شخصية حاتم رشيد أو بثينة ساكنة السطوح، ولم تكفه حتى الثلاث ساعات الطويلة التي تشكل زمن الفيلم لحل تلك الأزمات. وعندما لم يخلص لحرفية الاقتباس من الرواية كان ارتجاله إما سياسياً أو أخلاقياً. ولنتأمل مثلاً كيف بستر وحوّل شخصية كمال الفولي نموذج الفساد السياسي الى حالة فردية. في الرواية وبعد أن يحاول مليونير شارع سليمان باشا التنصل من دفع نسبة القوى السياسية الفاسدة يطلب مقابلة ما أسماه الأسواني الراجل الكبير، وبالفعل يذهب لمقابلة الشخصية المجهولة في قصره فيحدثه عبر ميكرفون مهدداً ومتوعداً في مشهد روائي أقرب لمغامرات المغامرون الخمسة. إلا أن وحيد حامد يغلق مجال الثرثرة السياسية الفضائحية لذلك الخط عندما يجعل كمال الفولي هو من يهدد ويتوعد وينفذ تهديدات الشخصية الكبيرة، فكيف يحمي وحيد حامد فيلمه من بطش الشخصية الواقعية التي يلسن عليها الأسواني روائياً؟يسوق وحيد حامد تبريراً ساذجاً بحريته في التعامل مع النص عندما يواجهه هذا السؤال في حوار صحافي، أما ثاني الانحناءات فتتمثل في المصير الدائري الأخلاقي لشخصية المثلي جنسياً. المعروف أن الشخصية الروائية التي أبدع الأسواني في وصفها بعبارات تحقيرية أخلاقية في أكثر من موضع تنتهي بعقاب إلهي، جندي الأمن المركزي الذي يعاقبه ربه لعلاقته المثلية بحاتم رشيد حين يموت ولده، ينتقم لنفسه وأبنه بقتل الصحافي الكبير المثلي جنسياً في خاتمة دائرية تداعب أخلاق القارئ الذي لن تهدأ ثائرته إلا بمقتل المثلي جنسياً. هذه المعالجة تتأرجح عندما نلاحظ أن الأسواني نفسه وعبر تفاصيل عمله يتحدث في بعض المواضع عن احتياج حاتم رشيد للاستقرار العاطفي بعد فترة من التخبط في علاقات جنسية موقتة، وهو ما يكسب شخصية حاتم شيئاً من التعاطف خصوصاً إذا ما أبدع الأسواني في تحويل مأساة فقدان شريكه الى مأساة حب أجهضته الظروف. هو هنا يؤكد على أن ما جمع بينهما علاقة حب حتى ولو كانت من طرف واحد هو حاتم رشيد، ورغم ذلك لم تكن كل تلك التفاصيل كافية للتغطية على الموقف الرجعي والتحقيري للمثليين كما يظهر في لغة الأسواني الوصفية أو في دائرية مصير الشخصية التي تنتهي بمقتل المثلي. المصيبة أن وحيد حامد ربما يكون قد استكثر على الشخصية حتى تلك الفقرات الإيجابية فنجده يغلق ملف علاقتهما بمشهد فلاش باك يؤرخ فيه لاغتصاب حاتم رشيد كضحية لشذوذ، ليس باختياره ولكن بإهمال والديه، ثم سرعان ما يحاول اصطياد فريسة جديدة من أحد الشوارع ليكون مقتله مجانياً أكثر مما هو في نصّ الرواية. القتل المجاني من عابر مجهول هو المصير الأخلاقي الأكثر رجعية لدى وحيد حامد للمثلي جنسياً، نازعاً عنه فكرة الحب التي هومت حولها الرواية وكأنه يرفض الشرف الوحيد للأسواني. لذا كان من الطبيعي أن يستحق وحيد حامد كل هذا التصفيق من جمهور كل الحفلات في مشهد القتل المجاني. شكراً لوحيد حامد مرطب مشاعر الجماهير المنافقة الأوحد.لكن ما هو وضع الفيلم خارج مجال الاستعارات بين النصين الأدبي والسينمائي؟ هنا لا بد من الإشارة الى المجهود التقني الشكلاني لإخراج مروان حامد. الفتى الذي يدخل عشرينياته بأكبر ميزانية في تاريخ السينما المصرية لم يبخل على فرصته التاريخية الثالثة ـ الأولى كانت انتاج التلفزيون لفيلم روائي قصير له بعنوان "لي لي" لكن بانتاج ضخم وهو ما زال رضيعاً بمعهد السينما، والثانية بإخراجه فيلماً عن حياة الرئيس مبارك شخصياً في حملة الرئيس بانتاج منتج عمارة يعقوبيان الكارتل الإعلامي عمرو أديب ـ لم يبخل ننوس عين النظام الحاكم بكل البهارات الأميركية السينمائية التي تعلمها في مدرسة أستاذه التجاري الشهير شريف عرفة، التصوير المبهر تقنياً، والإضاءة التي تشعرك أنك في لوس أنجلوس، والموسيقى الصاخبة التي كثيراً ما غطت على درامية القليل من المشاهد الناجحة، استعراض اخراجي مبهر لمن يتعاملون مع السينما بمنطق فغر الفاه. لكن أين الفيلم؟ الفيلم مثلاً يتحدث عن عمارة يعقوبيان كحيز مكاني وموقع جغرافي، لم نشاهد العمارة كبنية تشكيلية إلا لماماً وفي مشاهد واسعة ومكررة. لم نسمع صوت شوارع وسط البلد، لم نلحظ في أي مشهد أن هذه الحكايات تدور في مكان واحد حتى ولو عبر مشاهد الباساج الشهيرة التي تتقاطع فيها الشخصيات. وإن كان علاء الأسواني نفسه قد فشل روائياً في ذلك، فإن الفيلم كرسه بصرياً. بدا الفيلم، كما الرواية، وكأنه يدور في ثلاث علب ديكورية وسطح مكشوف أشك في أنه سطح حقيقي، لذا يمكن إذا ما اقتطعنا الخمس دقائق الأولى الأرشيفية، والتي يتحدث فيها صوت يحيي الفخراني عن تاريخ العمارة مدعوماً بشريط صورة من أرشيف القاهرة في الثلاثينيات. إذا ما دخلت الفيلم متأخراً ولو لخمس دقائق لن تعرف أن هذه الأحداث تدور في عمارة تسمى يعقوبيان. هل تتذكر هنا عزيزي القارئ ما تحدثنا به في مقال آخر عن أن علاء الأسواني ذاته وقع في نفس الفخ؟ فخ أنك تلبس العمارة كحيز تلك الرؤى السياسية والاجتماعية الجاهزة والتي تبحث عن ثوب روائي. نفس الفخ سقط فيه مروان وحيد حامد المخرج المنبهر بتحابيش السياسي والديني والجنسي في صيغة روائية. هل يشبه الفيلم الرواية في ذلك التماهي الساذج مع تحليل سياسي واجتماعي مسطح للوطن؟ علاء الأسواني، وهو يفعلها روائياً، كان يراهن على ذلك الهوس الشعبي بالنميمة السياسية، وقد التقطت كارتيلات إصلاحية اقتصادية داخل نخب النظام تلك الرسالة وأعادت تشفيرها لما يصلح ولو قليلاً وجه نظام قبيح، آن لجناح منه أن يتفاخر، ولو بالقبح، بديموقراطية ساذجة، تلعب نفس الدور المعكوس لصحف سياسية صفراء تلعب هي الأخرى على تفريغ معالم الأزمة في صورة جعجعة لكن بلا طحين. السينما هنا نصف راديكالية وبوعي ينفس عن أتون مجتمع يستعر. يدخل المصريون عمارة يعقوبيان الفيلم ليشاهدوا، بمازوخية رنانة، ذلك المزيج من تعذيب الذات. ينبهرون بالمثلي جنسياً الذي لم يخرج يوماً من نكاتهم السرية، وينتقمون منه بالتصفيق الحاد. يشاهدون الإرهابي وهو ينتقم لشرفهم المسلوب في أقسام الشرطة دون أن يتجاوز ذلك استعارة الجو المكيف لصالات السينما. يتألقون وهم يشاهدون فتاة فقيرة تقبل أن يستمني عليها صاحب العمل ثم تقبل بالحل الانتهازي بالزواج من عجوز متصابٍ، يبررون للحاج المليونير انتهازية شعارها "عشان ما نعلي... نعلي.. نعلي.... لازم نطاطي... نطاطي.. نطاطي"، ومثلما تبقى المصائر في الفيلم؟ الرواية مستمرة، ستبقى مصائرهم سائرة. لا قلق ولا إحباط. إنه مجرد جُلد جماهيري بطيء. جلد تكلف 25 مليون جنيه شارك فيه كل نجوم الوطن، من أجل أن يبقى الوطن... مجرد كلاشيه ساخر ربما يؤرخ ذات يوم لمجتمع أدمن تاريخياً الكذب على نفسه... فبات يكذّب ويصدق نفسه.