سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الجمعة، ديسمبر ٠١، ٢٠٠٦

فاروق حسني ... أقل من شهيد وأكبر من دوبلير في فيلم حركة


المعتكف انتظاراً لدخان نافذة القصر الرئاسية فاروق حسني... أقل من شهيد وأكبر من دوبلير
في فيلم حركة
اعتكف الوزير الفنان فاروق حسني ملوّحاً كعادته باستقالة استعراضية يعرف هو تماماً أنها لن تتجاوز فمه، إعتزلنا فاروق حسني الوزير الأطول بقاءً في عمر الوزارة المصرية منتظراً دخاناً صاعداً من شرفة البابا، فالمصير السياسي للوزير الشاب ـ هكذا عرف في العشر سنوات الأولى من ولايته على شؤون ثقافة مصر ـ معلَّقٌ هذه المرة في يد الحسابات الضيقة بينه وبين من يدعمه في ترويكا العائلة الرئاسية. باعه الأقربون من الوزراء ورئيس مجلس الشعب وأمين التنظيم بحزب حكومته على خلفية 160 عضواً منوعي المشارب السياسية ويتقدمهم أعضاء في الحزب الوطني. الأزمة ليست في تصريح مثير للجدل حول الحجاب الذي راأه الوزير في زيف وعيه الليبرالي علامة على التخلف، وما ترتب عليه من تصعيد بدأه أعضاء جماعة الأخوان المسلمون حَمَلة ألوية التفسير الديني ورعاة مملكة الربّ؛ بل الأزمة في خريف الوزير الساهي الذي حول نفسه في غفوة من حسابات الكياسة والتي كثيراً ما احتسبها له خصومه قبل مؤيديه، وقد حوّل نفسه الى "بنداج" (كيس رملي يستخدمه الملاكمون في التدريب على اللكم) ملاكمة يتبارى الجميع على التمرّس بلكمه، وجوه مكفهرة لأعضاء الجماعة الباحثة عن جنازة قد تشبع فيها لطم الخدود، وأيد ثخينة مدلسة ومزورة لأعضاء حزبه الذي لايعرف عنهم شيئاً تتحالف في مباراة للصفع واللكم؛ الوزير الفطن الذي ما عاد فطناً جاء ليلعب فانقلب السحر على الساحر، لا جديد في سلوك صحافية "المصري اليوم" التي ادعى بأنها حوّلت دردشته التلفونية الى مناسبة للطعن، وهي نفس الصحافية كثيراً ما استخدمها بتصريحات أكثر إرهابا لمعارضيه من المثقفين، ومن ثمّ فحكاية الاستخدام لا تنطلي على وزير يعرف تماماً كيف يحدّث الصحافيين منذ نعومة أظافره الوزارية. فالصحافية فتحية الدخاخني، وصحيفة "المصري اليوم" المستقلّة هما إحدى واجهات السجال المفتوحة للإخوان المسلمين، مثلها في ذلك مثل جريدة "الدستور" التي تبيع نسخها المئة ألف بتكليفات المرشد العام للإخوان المسلمين، والوزير ليس بسذاجة الانقياد الطوعي لكمين فتاة لم تتجاوز العشرين ربيعاً. الوزير صاحب ثقافة "الشو" الإعلامي الذي حول الثقافة المصرية الى مناسبات برّاقة تصلح لفلاشات الكاميرا كان يبحث عن فضيحة، أرادها لخصومه فانقلبت عليه؛ أرادها مناسبة لحشد مثقفيه من الحظيرة الى الحقل، فلم يُلبِّ نداء الراعي سوى محبيه من الرسميين، ولم يتورط مثقف واحد من المعروفين بخصومتهم له في الدفاع عنه. ففزاعة الإخوان التي راهن عليها حسني لجمع مبايعة المثقفين بدت كلعبة قديمة صدئة يخرجها طفل لاهٍ أمام أصدقائه الذين يلعبون على الإنترنت، يبدو أن النرجسي الأوحد لم يدرك بعد أن بساطه في انسحاب تدريجي، يطل فجأة من حديقة قصره الفارغ الى الشارع المصري فيكتشف هول ظاهرة الحجاب، وبئس القضية التي قد تُبْتَذل لمصلحة لعبة استعراضية فاشلة، ظاهرة الحجاب التي أرَّقت الوزير الوحيد إلا من صورة ذاته بدت كأنها اكتشاف جديد، فمتى استيقظ الوزير الغافل إلا عن تحطيم الثقافة المصرية على مذبح ليبراليته الزائفة ليشاهد التحول الخطير؟ هل إستيقظ فجأة وهو من سلم الثقافة الى جنرالات الجيش المحافظين والمتدينيين أكثر من الإخوان ؟ هل استيقظ فجأة على أخلاق المجتمع وقد تحوّلت وهو من نحت تعبير "الحفاظ على قيم وأخلاق المجتمع" إبان معركة تكسير العظام في أزمتي "الوليمة" و"الروايات الثلاث"؟ هل استيقظ فجأة بعد أن قُتِلَ فرج فودة وحاولوا اغتيال نجيب محفوظ وطردوا نصر حامد أبوزيد؟ هل استيقظ صباحاً فلم يعبر شط النيل الى هيئة الكتاب المصرية التي يرأسها ليرى عمّال المطابع وهم يحذفون من أعمال المبدعين بين صلاتي الظهر والعصر؟ ثم لنتأمل قليلاً محتوي النص الفارغ والمعنْوَن من قبله بالدردشة فيما تراه الصحيفة تصريحاً بملء فم الوزير النائم: يتحدث فاروق حسني عن قضية الحجاب بمستوى السذاجة اللآئق بمدّعي ثقافة. خطاب قد تسمعه في مقهى بوسط العاصمة على لسان فتى ينصب فخاً رومانتيكياً لصديقته البلهاء، "النساء كالورود"! يا لها من ضحالة تشبيهية عقيمة لا تختلف في تجريدها عمّن يرى النساء أجساداً مشتهاة! "خلقن للشمّ وإمتاع النظر" مستلهماً ثقافة الكليشيه التشكيلي تشبيهاً مبتذلاً، الى آخر التصريح الذي اعتقد أنه سيلهب أيدي تلاميذ الإبتدائية تصفيقاً، وتنفجر الأزمة فيبدو الارتباك الشامل للوزير المختال. لن أعتذر! هكذا أعلنها، بل وطالب خصومه بالاعتذار أولاً. الخصوم من جهتهم وهم كثر وقد فاجأوا الوزير "فرشوا له الملاية" (لفظ عامي مصري يعني المشاجرة الكلامية المبتذلة)، بل ووصل الأمر الغمز العلني سخرية من هويته الجنسية، وهو المستوى الذي ما كانت لتصل إليه الأمور إلا بعد بيعة الحكومة له، فيما يبدو أنه مؤشر على سوء علاقة الوزير بقطاع لا بأس به من نخبة الحزب الحاكم، بل وشماتة بعض المقربين من الرئيس (زكريا عزمي، رئيس ديوان رئاسة الجمهورية) خاصة وأن تهديده الأول بالاستقالة بعد أحداث مذبحة بني سويف منذ عامين لم يمر مرور الكرام في خيال النخبة. فالوزير مكلف يأتي بقرار ويمشي بقرار ولا سماحة في استعراض (مجرد إستعراض) ملكية قرار البقاء أو الرحيل. المزايد الأعظم كان يتمنّى أحد الحسنين البقاء بوضعية أكثر قوة أو الاستقالة التي ستدخله التاريخ وتحلّه من ذنوب ربع قرن من حكم الثقافة المصرية، كأول وزير يخرج بيده لا بيد عمرو، لكن عمرو كان أكثر ذكاء مما يعتقد الوزير المعزول، خاصا وأن المعركة الأولى بعد بني سويف هزّت نسبياً صورة المدّعي بإدخال المثقفين في حظيرة الدولة. مثقفون كثر وقفوا وطالبوا باستقالته ومن ثم فالأمور ليست على ما يرام بالنسبة للمراقب من نافذة الرئاسة، ها هم وقد تكاثروا عليه انبطح يستعرض، لكن ما يبشر بأن احتمال أن تخرجه أزمة الحجاب من الحسابات قليل، فالنظام لن يعطي نصراً مجانياً للإخوان، وحرق فاروق حسني في أقرب تعديل وزاري (بيد عمرو) ستكون مكاسبه أكبر، فمن جهة ربما يقدم دليلاً على تطهرية النظام من أفشل الوزراء الذين أصبحوا عبئاً عليه، بالإضافة الى أن الفاصل سيسمح باختيار بديل مجهول حتى هذه اللحظة، بديل يتناسب مع مرحلة الترتيبات الجديدة، أكثر غوبلزية وذي كاريزما شعبوية، بعد أن خرج المثقفون بالكامل من حسابات السلطة السياسية، لا نفع حتى في موظف مثقف في ظل مجتمع ينحو الى الشعبوية الدينية، لا نفع لمثقف لازال يمارس الدور المزدوج والشيزوفريني في علاقته بالسلطة. لاصوت في المرحلة القادمة لأنصاف الحلول، أو لمكياج مؤسسة ترعى مثقفين كباراً، فما لدى المؤسسة الثقافية الرسمية فيما هو دون صفّها الأول الإعلامي غثاء من الموظفين، لايرقون حتى لمستوى الكتبة وناقلي الخطابات والمراسلات. فالتجريف البطيء والمتعمّد للحياة الثقافية أخرج المثقفين أنفسهم من لعبة النظام، ومن بقي منهم نشيطاً فاعلاً كان في صفوف معارضيها أكثر من بعض المتنطعين على شاشاتها وجرائدها؛ أو بمعنى أدق، معادلة فاروق حسني السياسية الثقافية التي لعبت على دور ثقافي في نهاية الثمانينات لمواجهة خطاب الإسلام السياسي في طريقها للفشل، بعد أن تحوّل الشارع الى مجال واسع بدرجات طيفه للإيديولوجية الدينية، بل إن دور مؤسسة تقليدية كالأزهر سيبدو أكثر نفعاً في ترتيبات المرحلة القادمة حيث مجالات الاستقطاب الجماهيري ستكون تحت أسنة المصاحف لا الكتب. وتبدو المهزلة متجسدة في مشهدها الأخير المأسوي، فوزير التنوير نفسه بات أسير محبسه تحت ضربات الخصوم ومن افترض فيهم الموالاة، بقي المتباهي وحده في نهاية الفيلم متشبثاً بمشهد قديم، مشهد كان جديراً بأواسط الثمانينيات البعيدة، حين كان شاباً ورهناً للإشارة. لكن الفيلم لازال محتاجاً الى مشهد أكثر دراماتيكية فقد عودتنا مصر على النهايات المغلقة، نهاية البطل الذي إكتشف متأخراً أنه أقل من دوبلير في مشهد عنيف وطويل استغرق نيفاً وعشرين عاماً.