سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الأحد، أغسطس ٠٦، ٢٠٠٦


الشاعر الجنوب افريقي بريتين بريتنباخ: أمريكا و"إسرائيل" تسعيان إلى "تعفين" الضمير الإنساني
حاوره في القاهرة: هاني درويش

متسكع عالمي ذلك العجوز الستيني الذي يحمل راية شعر المقاومة حتى لو انتهت معاركه ليشرعها في مواجهة ضمير عالمي متعفن.. هكذا بدا “بريتين بريتنباخ” الشاعر الجنوب افريقي في زيارته الأولى الى القاهرة. حدثنا عن “ذاكرة الطيور من زمن الثورة” وأكد أن “في افريقيا الذباب أيضا يشعر بالسعادة” وتأسى على “العودة إلى الفردوس”. عشرون كتابا شعريا وخمسة وأربعون عاما من التجوال بحثا عن “شجرة وراء القمر” ربما يبدو أبيض كارها لنفسه وفقا لموضة كراهية الذات لكنه في خطابه إلى شارون يؤكد أن الذاكرة لا تموت. يتصارع داخله السياسي والشاعر وعلى حدودهما الفاصلة يجري في صراع ضد البربرية وهو يدلي ب “الاعترافات الحقيقية لإرهابي مصاب بالبهاق”. إن تهمة بريتين بريتنباخ لا تزال تطارده إلى الآن فهو “ينحت كلمات تدفعه إلى الجنون، ويزرع ألوانا في مواجهة حكم نافذ بإعدام الإنسانية”.

كان بريتنباخ قد زار الأراضي الفلسطينية تضامنا مع الانتفاضة والشاعر محمود درويش وكتب على إثر ذلك رسالة شديدة اللهجة موجهة إلى “الجنرال اريئيل شارون” من باريس بتاريخ 7 أبريل ،2002 كما يذكر أيضا أنه درس الفنون الجميلة في جامعة كيب تاون وغادر افريقيا إلى فرنسا أوائل الستينات لكنه منع من العودة إلى جنوب افريقيا بعد زواجه من فرنسية فيتنامية الأصل طبقا لقانون منع الزواج المختلط 1949. وفي فرنسا كان عضوا مؤسسا في جامعة “أوكيلا” التي تحارب التمييز العنصري في المنفى.
هنا حوار مع بريتين بريتنباخ شاعر المقاومة:
عرفت المنفى منذ البداية 1959 بين البرتغال وإنجلترا والنرويج وأخيرا فرنسا كيف أثر ذلك في تجربتك الإنسانية التي انعكست على كتابتك؟
كنت شابا في العشرين عندما اضطررت للخروج من جنوب افريقيا، ربما كنت يافعا يظن أنه سيفتح العالم بطموح الشباب، كنت غبيا إلى حد ما، لأن ذلك التجوال الذي أردت أن أؤكد به رفضي لذاتي وللآخرين سمح لي بفك وإعادة تركيب شخصيتي من جديد، صرت متسكعا عالميا، لأنني كلما حطت خطاي انفتحت عيناي على حجم المعاناة التي لا تختصني وحدي بينما أتشارك فيها مع ملايين غيري، كل هذه الثقافات التي احتككت بها أخرجتني من صندوق الذات المغلق إلى ذات العالم الطلق الحر.
وكما يقول جورج موستاك المطرب الفرنسي وابن جيلنا “كنت من أقلية الأسياد وعليّ أن أصبح من أغلبية الخدم”، هناك في اللغة الفرنسية ثلاث كلمات تؤدي المعنى ذاته بشكل متناقض هناك “ماتيس” التي تعني الاختلاط بين ندين وهي إيجابية وهناك “باسترد” بمعنى الاختلاط السلبي، وهناك “ماتيك” التي تعني اختلاط الأصول الوضيعة، بت ابن مواطنة الأصول الوضيعة إنسانا ينتمي للمعاناة الإنسانية الأوسع.
أسست جماعة “أوكيلا” للمناضلين الكتاب من البيض والسود ضد نظام التفرقة العنصرية في جنوب افريقيا، في دمج للسياسي بالفني كيف جمعت بين آليتي العمل الجماعي السياسي وفردية الإبداع؟
لا أعرف أيهما كان أكثر تأثيرا فيّ ولكني أعتقد أنهما متناغمان ومتداخلان، هناك شاعر صيني اسمه “هان سانج” في القرن الحادي عشر كان يسكن مكانا يسمى الجبل البارد وكان يكتب على أوراق الشجر والصخور، كان لهذا الشاعر صديق طباخ يلم بكل الكتابات من خلفه وهكذا عرفناه، لولا ذلك الطباخ لما تغير الفكر الأخلاقي للشعب الصيني، بمعنى هناك وجود للفرد، لكن هناك شيئا مهماً في علاقة المبدع بالآخرين فالفردي والجماعي يمثلان إيقاعين مختلفين للوجود الإنساني كلاهما يغذي أنشودة الحياة.
الحرية والقهر محركان أساسيان لكتابتك الإبداعية كيف تطور داخلك ذلك المفهوم ونقيضه مع تحولات تجربتك السياسية؟
الشعر كما أرى هو محاولة قول ما لا يمكن التفكير به ومن ثم الإبداع قائم بالأساس على الحرية كشرط مسبق فالكتابة عبر كلمات هي محاولة دائمة لتجاوز الحدود، الحدود التي تقيد الإنسان، وهي أي الحرية بذلك شرط وجودي لكل الكائنات لكنها لدى الفنان مسؤولية أخلاقية فهو المسؤول الأول عن تخطي الحدود المحددة سلفا للعقل البشري، بخاصة إذا كانت تلك الحدود متداخلة البنى داخل المجتمع اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.
ومن علاقتي الخاصة بتاريخ النضال في جنوب افريقيا أرى أن ذلك النضال كان بالأساس بحثا عن الحرية والمساواة حيث لا يمكن اختصاره رغم خصوصيته في مشكلة بيض وسود بل بين الغني والفقير ومن يحكم ذلك الصراع سلطة عنصرية وعسكرية.

النظام العنصري
هذا يقودنا إلى عمليك المهمين “العودة إلى الفردوس” 1991 و”قلب الكلب” اللذين طرحت بهما منذ البداية تشككا في طبيعة التحولات في جنوب افريقيا بعد سقوط حكم بريتوريا كيف ترى ذلك؟
النظام العنصري كان بالأساس نظاما اقتصاديا طبقيا تحكمت فيه أقلية بيضاء مرتبطة بالرأسمالية الغربية في ثروات شعب غني من الفقراء هذه الأقلية كانت تحافظ على مصالح تلك الرأسمالية عبر شركاتها، ولهذا دعمها الغرب لفترات طويلة، فجنوب افريقيا سوق لعمالة رخيصة جدا وبعد التحول تغير الوضع شكليا بينما بقيت علاقات الاستغلال نفسها، الفارق أن رئيس الشركة بدلا من كونه أبيض أصبح أسود ومازال رئيس العمال يحصل على عشرات أضعاف العامل بل إن المسافة بينهما الآن أوسع مما سبق، ما حدث كان اتفاقا بين حركة التحرر والشركات العالمية للنظام الجديد ومن ثم فالصراع لا يزال مستمرا.
في “الاعترافات الحقيقية لإرهابي مصاب بالبهاق” قدمت تجربة السجن من زوايا متعددة بين التقرير والرؤى الحلمية هل مثلت تجربة اعتقالك 1975 1982 تحولا في مشروعك الكتابي؟
هدف السجن في أي مكان في العالم أن يخلق سجناء، لذا فتجربة السجن تجربة عالمية، السجن عالم سفلي لجماعات بشرية تتوحد مهما كانت جنسيتها، تجربة غنية ومؤثرة وعندما خرجت من السجن نظمت لي الحكومة الهولندية محاضرة ألقيها أمام وفد عالمي لسجون العالم، وجدت أنهم رغم اختلاف دولهم يشبه بعضهم بعضا، عندما دخلت السجن شعرت بأني مقبل على موت لا محالة، في سجن بريتوريا المشدد الحراسة وخلال أول عامين وضعوني كسجين سياسي في زنزانة انفرادية يستخدمها منفذو أحكام الإعدام لغسل أيديهم بعد تنفيذ الحكم مباشرة، كانوا يدخلون عليّ بعد تنفيذ الإعدام يضحكون ويثرثرون أو يتقيأون، لا تتخيل كم شعرت برائحة الموت كل يوم عندما كان يدخل طبيب الإعدام ليتأكد من موت الضحية كنت أموت كل يوم.
كنت ممنوعا من الدخول بسبب زواجك المختلط الممنوع وفقا للقانون العنصري ورغم ذلك خضت مغامرة للدخول بجواز سفر مزور ألا يعد ذلك انتحارا؟
هناك مثال يقول “الأسماك الميتة فقط هي التي تسبح مع التيار” لقد عدت بهدف سياسي وهو عمل اتصالات بأعضاء جدد لمنظمة “أوكيلا” وقد عشت في فرنسا بأوراق مزورة جزائرية، لقد كان نشاطي الرئيسي يهدف إلى العودة ضد التيار، عدت كمحاضر فرنسي باسم مزور جلست بين مثقفين أفارقة تحدثوا عن شخصيتي الحقيقية “بريتين بريتنباخ” وكم كانت الطرافة رائعة عندما وجدتهم يعرفون قصائدي ويتناقشون عن مكان اختفائي حتى إنهم انقسموا أين أنا الآن فأكد أحدهم بكل ثقة أنني أعيش منفيا في الصين.
في كتابك المهم عن تجربة السجن “ملاحظات روائية في مرآة” تحدثت عن محاولة هروبك كيف كانت العودة وكيف عشت هاجس الإعدام؟
بعد سنتين من الحكم وتحديدا في 1977 حاولت الهروب وعندما فشلت المحاولة كان قرار الإعدام لكوني إرهابيا متوقعا، كنت أسمع السجانين يراهنون على موتي “أصبحت مجالا للمقامرة داخل السجن”. وكانت كل تهمتي أنني أرسل أشعارا وهي مفارقة، أدركت كيف يمكن أن تصبح الكلمات مشنقة للقهر. وعندما تدخل محامون دوليون وضغطت مؤسسات فكرية ونظمت حملات للدفاع عني كنت على وشك الموت، تعرضت لتعذيب فكري ونفساني لقد كان الطعام ذاته داخل السجن نوعا من التعذيب وقد أسفرت الضغوط عن الإفراج عني لكنها تجربة مؤلمة.
الشعر هل لا يزال معبرا عن المأزق الوجودي بخاصة مع سيطرة أنماط كتابية كالرواية على عالم القراءة؟
الشعر غير قابل للتدمير أو الاستبدال بأي نمط كتابي آخر، فهو مرتبط بفطرة الإنسان الأول، فالإنسان الأول عبر عن نفسه عبر الإيقاع، نفس داخل وآخر خارج، حياتنا إيقاع، وهو بذلك أقدم آلية لعقل الضمير الإنساني منذ الخليقة، والكلمات والصمت.. هي الهمهمة لها دور إلا أن الكلمات وحدها لا تشكل الشعر، فعروض “داريو فو” المسرحية والتي تحفل بالصمت والهمهمة هي شعر، ولا يزال الشعر حتى الآن وهو وسيلة الاتصال الفردية المميزة للتحاور مع العلم حتى لو اختلفت اللغات والثقافات، فأنت عندما تعتلي منصة تلقي شعرا تحرك يدك وعينيك، تصمت تعلو بنبرتك وتنخفض، الشعر هكذا باق ما ظل هناك إنسان ينتظم داخل إيقاع الحياة.
أنت مناصر لقضايا الشعوب العربية وقدمت رسالة مفتوحة إلى ارييل شارون في 2002 محذرا من موت الضمير، الآن في 2004 هل ترى أن نبوءتك قد تحققت بعد الذي يحدث في فلسطين والعراق؟
الوضع الآن أسوأ بكثير مما سبق، لي صديق يقوم بالوساطة بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين” وكلما ذهب إلى الأراضي المحتلة يعود ليؤكد أن الوضع يزداد سوءا لدرجة أنني طالبته بألا يذهب إلى هناك كي لا يسوء أكثر “يضحك”!! أرى أن الفلسطينيين و”الإسرائيليين” لو تركوا وجها لوجه ربما تحل الأزمة على عكس ما يرى البعض فأمريكا لديها مصلحة أكيدة في أن يستمر هذا الصراع، فما يجمع الأمريكي و”الإسرائيلي” هو الاعتقاد بأن الحل الأمثل للقضية هو اختفاء الشعب الفلسطيني كله وربما العرب جميعا لأن الفلسطينيين يكرسون الآن للا أخلاقية العالم وأرى موضوعيا أن الشعب الفلسطيني ليست له حكومات صديقة كما يعتقد البعض لأنه عبر آلية منتظمة كلما تظهر فرصة استثنائية للسلام عبر شخص أو منظمة أو دولة تقوم “إسرائيل” بالاغتيال أو أمريكا بوأد المحاولة.

“إسرائيل” وجنوب افريقيا
قدمت في خطابك السابق تناصا رائعا بين دولة “إسرائيل” وحكم جنوب افريقيا العنصري فوصفت نفسك بأنك كنت يوما من أقلية تعتقد أنها “شعب الله المختار” أترى التناص قائما؟
الوضع في الشرق الأوسط أكثر سوءا مما كان لدينا فالصراع محسوم، كثيف البطش والقهر في آن والرغبة في إذلال الفلسطينيين تفوق التصور فالنية مبيتة، ونافذة على عمق تعفين للضمير العالمي. فالقتل اليومي يسرب إلى الناس أن ذلك طبيعي ويتسرب العفن إلى ضمائرنا، إن الوضع مسرحي بالكامل “شعب زرع بمكان وطنه صحراء وعندما وجد آخر فيه عليه أن يستوعبه، لم يعد أمامه إلا محوه، قتله وإبادته، إنها كلوحة “جويا” الشهيرة التي يظهر بها اثنان يقتلان بينما يغوصان في مستنقع من الوحل. لكن ستظل الذاكرة حتى لو أفنوا الشعب الفلسطيني فهناك الذاكرة وهي لا تموت لأن الذاكرة محلها القلب.
ما علاقتك بالثقافة العربية نعرف أنك صديق لشعراء عرب مثل محمود درويش وهل وثقت السياسة علاقتك بالثقافة العربية؟
أعرف عن الثقافة العربية الكثير، فأنا عشت فترة بجواز سفر جزائري في فرنسا ولي صداقات بمحمود درويش والكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي والجزائري رشيد بوجدرة والناقد محمد برادة والطاهر بن جلون وزيارتي الى القاهرة بداية جسر للتعارف ولدي هنا مشروعات للترجمة وعند عودتي إلى جنوب افريقيا سأشهر مسدسي في وجه آخرين من الكتاب لأجبرهم على مد الجسور فنحن في الخندق نفسه وعما قريب سأرى “بعد الترجمة” جسدي يتحدث بالعربية!
أرى حسا أفلاطونيا ومثاليا رغم لغة التشاؤم لديك ما منبعها؟
نحن الآن أمام مرحلة يأس في الشروط الإنسانية هل نحن قادرون على توصيل صورة الإنسان إلى حدودها الإنسانية الأصلية ربما أكون مثاليا غبيا لو توقعت الأحسن لكني أستعير حكمة بيكيت الشهيرة “لا نستطيع التقدم للأمام لكننا لا بد أن نتقدم للأمام”، حتى لو بدأنا من نقطة الصفر أشعر بأني عداء إثيوبي تعلم الجري لمسافات طويلة وربما ينتهي السباق لكنه لم يتعلم كيف يقف وسأظل أجري.

بريتين بريتنباخ

شاعر وروائي وقاص ومصور من جنوب افريقيا ويحمل الجنسية الفرنسية
ولد في 16/9/1939
درس الفنون الجميلة بجامعة كيب تاون
أسس في فرنسا جماعة “أوكيلا” التي تحارب التمييز العنصري في المنفى
يعمل أستاذا زائرا بجامعة كيب تاون ويقوم بالتدريس في معهد “جوته” بنيجيريا وأيضا بجامعة نيويورك.
معظم أعماله منشورة باللغات الافريقية المحلية وبعضها بالإنجليزية.
من مؤلفاته المنشورة بالإنجليزية: البقرة الحديدية يجب أن تكدح “شعر”، منزل الأصم “شعر”، في افريقيا الذباب أيضا يشعر بالسعادة “مقالات”، البقايا “شعر”، أحداث مأساوية “قصص”، شجرة وراء القمر “قصص”، موسم في الفردوس “رواية”، اعترافات إرهابي مصاب بالبهاق “شعر”، ذاكرة الطيور في زمن الثورة “مقالات”.

مقطع من قصيدته "أغنية التمرد"


فلتبك الأمهات
حتى تجف الأثداء
وتضمحل الأمعاء
عندئذ تقصم المقصلة
امنحيني قلبا
يدق بالنبض
يضرب أقوى من اضطراب قلب الحمامة الخائفة
يدق أعلى من الطلقات
أريد أن أموت قبل أن أموت
عندما يكون دمي مازال خصبا
وأحمر
قبل أن آكل تربة الشك المسرحي

رسالة من بريتين بريتنباخ إلى شارون
ظلم الماضي لا يبيح ممارساتك الفاشية في الحاضر


سيدي..
أنت لا تعرفني وليس هناك ما يوجب ان تعرفني او ان تصغي لكلام من هو مثلي. لا أخالك تضيع وقتاً في الإنصات الى آراء لا تتوافق مع آرائك. في الواقع كلي قناعة انك لا تنصت الى من يقول ما لا تشتهي.
أما إذا كان الأمر يهمك فأنا كاتب من مواليد جنوب افريقيا أقيم وأعمل خارجها اليوم، هناك نشأت وعشت لفترة ما بين افراد “شعب مختار” هو الآخر يتصرف كشعب من الأسياد بكل من يؤمنون بفهمهم المطلق لإرادة الله وأوامره ويؤمنون بتميز وتفرد آلامهم.
أستميحك عذراً اذا ما آلمتك مقارنتي ل “اسرائيل” بشعب الأسياد نظراً لأصداء الماضي القريب حيث كان الكثيرون من يهود أوروبا ضحايا ل “الحل النهائي”، لكن كيف أصف ممارسات جيشك بصورة مختلفة ونفسي مثقلة بالرعب من أفعالك؟ أعلم جيدا وجوب عدم استثارة العواطف المباشرة من خلال كتابتي، وهذا ما قد تؤدي اليه المقارنات السطحية، اذ إنها تلغي إمكانية تفهم واستيعاب الظواهر المدروسة على دقائقها وتعقيدها، وتسهل التهاب الحناجر وتقيؤها بسيول متدفقة من الشعارات الطنانة والكليشيهات الممجوجة.
على الرغم من المعتقدات الجماهيرية فإن “نظام الفصل العنصري” لم يكن “نازيا” ويجب ألا توازى ممارسات “إسرائيل” ضد الفلسطينيين بنظام الفصل العنصري، فكل من هذه السياسات والأنظمة على حدة تملك جميع الخصائص والمكونات التي تضمن تميزها وتفردها. مع ذلك لا يخلو الأمر من أوجه الشبه والخلاف، هذا التسابق الأعمى ما بين الطرفين على احتلال الدرجة الاولى في سلم الضحايا، فظاعة الذرائع التي تنمق “الحق الإلهي” في الدفاع عن النفس، وقاحة الأكاذيب وتشويه الحقائق، انتهاكك الذاتي لقيم مجتمعك، انعدام الاكتراث بالفلسطينيين حتى على مستوى الإغاثة الانسانية البسيطة لمجتمع مدني محاصر.
كل هذه التصرفات مألوفة ومعهودة، القناعات الأساسية التي تنبع عنها تصرفاتك هي قناعات عنصرية، وكما كان الحال في جنوب افريقيا انت ايضا تأمل في ان تخضع عدوك بوسائل العنف وإراقة الدماء والتحقير، وبعنجهيتك الساخرة تأمل ايضا في ان تحقق النجاح ما دمت تلعب الدور بالطريقة التي تتماشى مع المصالح الامريكية. لا أخالك تأبه للمصالح الامريكية من قريب ولا من بعيد لا بل كلي قناعة انك تحتقرهم لضيق أفقهم ولانغماسهم بالبلاهة والجهل في كل ما يخص سائر العالم.
صحيح ان مندوبك - تاجر الخيول المسروقة - نتنياهو يزاول مهنة الدعاية الفظة بأوقح اشكالها، وكأنه اصبع قذرة تداعب الرأي العام الامريكي، وأنت ايضا تمارس انتهازيتك عن طريق ترداد ببغاوات الرئيس الامريكي المعاق اللفظ واللغة، والذي يصف كل من هو آخر بأنه إرهابي بممارستك لهذا الدور تثبت انت ايضا انك تعتبر بقية سكان العالم قطيعاً من الأغبياء.
بالطبع لسنا جميعاً مؤمنين ان “الفضيلة العليا” هي العطش الأمريكي للنفط البخس، وعليه فلن نكرس جل اهتماماتنا وقوانا لعلاج بعض الأنظمة الفاسدة في المنطقة ولن نغمض اعيننا عن كل الباقي.
بات من السائد والمعتاد ان اي نقد لسياسات “اسرائيل” هو بالضرورة تعبير عن “اللاسامية”، وبهذا تحسم وتفض معظم النقاشات، أنا أرفض تماما هذه المحاولات القمعية، ليس هناك كم من المعاناة يقدر ان يمنحك المناعة والحصانة من النقد سواء كانت هذه معاناة التوتسي او الأكراد، الأرمن او الفيتناميين، أهل البوسنة أو الفلسطينيين، ومع مزيد الأسى يا سيدي فليس هناك كم من الاضطهاد يحصن شعباً ما عن ممارسة الفظائع نفسها عند اضطهاده شعباً آخر.
ما من احتكام الى وهم ارض موعودة صدر عن رب واحد، يبيح او يبرر ممارسات جيش محتل، لا ولا يضفي قدرا من الشرعية على المذابح والمجازر المرتكبة في حق ابرياء باسم المقاومة.
كل هذه الاستنادات والاستيحاءات من تهويمة دينية اسمها “اسرائيل الكبرى” تعجز تماما عن تمويه حقيقة كون “مستوطناتك” مستعمرات مدججة بالسلاح مبنية على أراض فلسطينية منهوبة، وإنها منغرسة هناك كالأوتاد المعدنية في لحم الفلسطينيين، أو حقيقة كون “مستوطناتك” خنادق وأوكار قناصة تهدف الى تدمير اية احتمالات لنشوء دولة فلسطينية، الطريق الى السلام لا تعبد بمحق الآخر وسحقه وإبادته مثلها مثل الطريق الى الجنة وهي ايضا لا ترصف بجثث الشهداء. شعار “اللاسامية” يثير أساي خصوصاً حين يتبناه مفكرون ومثقفون يهود يشكلون عادة جزءا معقولا من الدعامات الفكرية للمجتمعات الغربية. لماذا ينبغي علينا ان نخضع ونذعن لهذا الشعار حين يستعملونه هم، ومن ثم يحظر استعماله اذا كانت “اسرائيل” هي المرتكبة للجرائم؟
كلا أيها الجنرال شارون ان ظلم الماضي لا يبيح ممارساتك الفاشية في الحاضر، لا يجوز ان تنشئ دولتك بطرد شعب آخر له نفس المرجعية للأرض ذاتها، وعلى مر الزمن فُإن سياستك اللا أخلاقية وقصيرة النظر و”الغبية ايضا” سوف تضعف كثيرا شرعية “اسرائيل” كدولة.
أتيحت لي مؤخرا فرصة اول زيارة للمناطق الفلسطينية، وهي تشبه الى حد كبير الجيتوهات ومعسكرات البؤس المعهودة في جنوب افريقيا. ألقيت نظرة خاطفة على “اسرائيل” عند الدخول وأخرى عند الخروج بعد قضاء ليلة في فندق “دافيد” الوثير والمهجور في تل ابيب. لربما كانت رؤاي منحازة، ربما، مع أن حدودك المدججة بالسلاح والحواجز وبنقاط التفتيش والدبابات كانت شديدة الحضور طيلة فترة مكوثي - ووجدت نفسي متسائلا: هل شعباكما مختلفان الى هذه الدرجة حقا؟ كلا الشعبين يتكون من مزيج متشكل من الحضارات والثقافات، كلاهما يحتوي على نسبة عالية من المهاجرين والعائدين، شعباكما متساويا الذكاء والفطنة وبراعة التعبير عن النفس، أنتما متشابهان في الجسارة، ثمة أدمغة خلاقة ومبدعة في الطرفين الى جانب أعداد مهولة من الأنانيين عشاق القوة المتطرفين وذوي النفسيات المشوهة بمفاهيم دينية مغلوطة.
كشخص استفزازي بارد ولئيم فإنك تتميز بين أقرانك، عن طريق محاولاتك الواهية للتنكر للاتفاقيات والنكث بالوعود وتضييع اية فرصة للسلام فيما عدا سلام القبور والمنافي والمبني على “الترانسفير” او “اختفاء” الكيان الفلسطيني، فإنك تسبب هيجاناً في المنطقة بأسرها، لعل هذا من ضمن مخططاتك، وستثبت لنا الأيام ما اذا كان اجترار أفكارك ومبادئك في واشنطن سيؤثر ويحد من إرهابك وسياساتك التدميرية الجائرة او إنه سيشكل ستارا ناجعا يتيح خلق تحالف اقوى “للعالم الحر” ضد “الإرهاب” ويؤدي الى السيطرة على الموارد والأسواق العالمية والنفط البخس و”الديمقراطية”.
الأيام القليلة التي قضيتها هناك مع بعثة البرلمان الدولي للكتاب، خلفت لدي مزيجا من الانطباعات القوية والمتناقضة، ما أصغر فلسطين! ما أعمق تداخل شعبيكما! الحجارة في كل مكان، الاسماء التوراتية للأماكن، الضوء البديع، محاولة التشبه بسويسرا عن طريق اقحام بعض الصنوبريات الغريبة على طبيعة المكان، الطبيعة الجدباء للأرض فيما خلا بعض المناطق. ما أشد حزن القرى، تذكرك بمدن ألمانيا الشرقية الفاترة والراكدة. الأضواء الخضراء على المساجد، المباني غير المكتملة، قبح العمارة، تفاهة احتلالك، كل تلك الطرق الالتفافية المنارة والمقتصرة على استعمال المستوطنين و”الاسرائيليين”. حقارة تحكمك من خلال الحواجز التي لا تخدم الأمن بقدر ما تثير الرغبة في الصراخ، اذ لا هدف لها سوى التحقير والإهانة والمضايقة والاحباط ودفع مجتمع كامل تحت الاحتلال الى هاوية الجنون، الأعمار الندية لجنودك، وهم شباب وفتيات طيبو النشأة مع الأسف، طرق القرصنة والسلب المشين والتي بها هدمت الاقتصاد الفلسطيني، طرق الانتقام البدائية مثل هدم البيوت وقلع اشجار الزيتون وتدمير المحاصيل، المنظر البدائي لاستحكامات الجنود ومن فوقها رفرفة الأعلام “الاسرائيلية”، وسائل إعلامك “الديمقراطية” المغرقة في الكذب على جمهورك والمتجاهلة تماما لجرائم الحرب التي يقترفها جنودك. أسوار برلين التي تطوق مستوطناتك في قطاع غزة ومن ورائها فروع لكليات جامعية، مراكز ابحاث، فنادق لشبكات امريكية وملاعب جولف، ومن الناحية الاخرى حطام الأحياء الفلسطينية المدمرة والتي تبدو كالأرض اليباب، الطريقة التي يسد بها الأطفال أنظارهم الينا وكأنهم غير آبهين، لاحقاً فهمنا انهم مصابون بالصدمات النفسية ليس بسبب أزيز طائراتك وهمجية جنودك الذين يطلقون النار كيفما اتفق وحسب بل وأيضا بسبب هيجان الشباب حولهم، النساء المحجبات في بعض مخيمات اللاجئين صارخات انك أنت يا شارون لن تتمكن من زحزحتهن وإنهن قد طاردن جنودك الفارين كالكلاب، غليان المثقفين والفنانين المحاصرين في رام الله، يتناقشون ويطلقون القفشات حول ورطتهم، كلهم قالوا: “لا نريد ان نكون ضحايا ولا أبطالاً، كل ما نريد هو أن نمارس حياتنا الاعتيادية”. يأسهم الساخر. محمود درويش: “ثمة فائض من التاريخ وفائض من الأنبياء على هذه الرقعة الصغيرة من الأرض”. الزيارة إلى مقر ياسر عرفات. يداه المصفرتان كالشمع تتشبثان بكليشيهات فارغة: “سلام الشجعان” و”الضمير العالمي”. سيدة برجوازية تتحسر على التشويهات التي لحقت بالمناظر الطبيعية في فلسطين. محامٍ لحقوق الإنسان يصرح: “نحن شاكرون لشارون على أمرين، أولهما أنه وحد الصفوف الفلسطينية، وثانيهما أنه لم يبق أمامنا من خيار سوى المقاومة!”. فيما بعد أضاف هذا المحامي - وهو مدخن ثقيل ينضح عنه عرق الموت - ان الاضطهاد بات يعشش تحت جلود الناس، والآن لم يتبق لهم من وسائل دفاع عدا جلودهم. تلك هي القنابل البشرية.
إليك استنتاجاتي المتناقضة: أنت قد فشلت في كسر معنويات الفلسطينيين، على العكس، هم الآن مصرون تماماً على إنشاء دولتهم مهما بذلت من جهود في اضطهادهم، قد كانوا متوقعين هجومك الضاري عليهم وعرفوا أنك كنت تراقص الجنرال زيني وربما تحت بركة ديك تشيني. هم أيضاً موقنون أنك الآن وبعدما أسهمت في تعزيز قوتهم سيتوجب عليك أن تضربهم بمزيد من الشراسة واللؤم، لأنك متورط داخل دهاليز متاهة صنعتها بيديك. مثل بوش في حملته الصليبية ضد الأشرار والمشاغبين، يتوجب عليك أن تصعّد وتغالي في تعظيمك للأخلاقيات العالمية، وتزايد في ازدهائك بالمنطق السليم، وأن تسكب المزيد من المال لتغطية فساد خطواتك السياسية. الفلسطينيون يعلمون أنهم لن ينالوا رضاك مهما فعلوا، ويخشون أن تؤدي تصرفاتك إلى إطلاق عنان كل قوى الشر الكامنة بينهم، وكلهم يقين أن هذا سوف يضعف ويزعزع كيان “إسرائيل” بشكل جوهري.
ولكنك غير آبه، أليس كذلك؟
يا للخسارة ويا للرعب! يا للخسارة ويا للرعب..