سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الجمعة، يوليو ٢٨، ٢٠٠٦

حوار مع خيري شلبي بجريدة الحياة اللندنية

«ما مزقته من أعمال يفوق ما نشرته» ... خيري شلبي: لا أهاجم النقاد... أهاجم عدم وجود نقاد أصلاً
القاهرة – هاني درويش الحياة - 28/03/06//
خيري شلبي روائي مولع بالثقافة الشعبية. صاحب «وكالة عطية» حكاء متميز النبرة تتنقل أعماله بين القاهرة والريف المصري. هنا حوار معه:
لم تكتب كل ما تريده نتيجة محاذير رقابية أصبحت جزءاً من تركيبة المبدع، صحيح؟
- ليس بسبب المحاذير الرقابية الدينية. انا فعلاً لدي مشاريع عدة أحجم عن الخوض فيها لان المجتمع المصري ما زال يتعامل مع العمل الإبداعي بنضج قليل، لأننا مجتمع تحكمه تقاليد موغلة في القدم، وحدثت تغييرات كثيرة وان كان قد تعلم الجميع في الجامعات فهذا تقدم شكلي، وما زلنا بعد كل هذا التعليم أسرى معتقدات لا يسهل الخلاص منها. مأساتنا أننا لم نصفِّ الذات الثقافية اولاً بأول عبر العصور المختلفة، ينشر ممثل أجنبي مبادئه يختفي ثم تأتي حكومة وتنشر ثقافة وتختفي، هذا الخليط من الأفكار لم يجد من ينقيه من تعارضاته وشوائبه. الطبقة الوسطى في الماضي كانت تلعب دور «الفلتر» الذي يتصدى لكل ما هو شاذ وغريب يزلزل كيانها ويهدد قيمها. هذه الطبقة اليوم سقطت، مع ملاحظة أنها لم تستطع ان تنجز مشروعها الخاص على مدى التاريخ، كانت دائماً صاحبة الحلول الموقتة، فبقي المجتمع المصري تشوبه التراكمات الثقافية المتناقضة التي تفعل فعلها في الوجدان المصري وتؤثر في شكل سلبي.
> ألا ترى في هذه الرؤية تشكيكاً في تاريخ الثقافة المصرية حتى في اكثر لحظاتها اشعاعاً؟
- لم يكن عندنا ثقافة حقيقية حتى اليوم. الثقافة لا تسمى ثقافة الا عندما تتعرض للراسخ من العادات والتقاليد وتحللها من وجهة نظر مستنيرة، وهذا عندما يحدث نعيد الجدل والتحليل فيظهر طقس من الوعي العام يرفض ما ليس ينفع، هذا بمجمله لم يحدث في أي لحظة تاريخية، ومن ثم لا تستطيع الحديث عن ثقافة ما، لدينا نشاط ثقافي هناك، من يكتبون الشعر والرواية والمسرح، وهناك ممثلون، ومخرجون، مجرد انشطة وليست ثقافة حقيقية. الثقافة الحقيقية لا بد أن تكون وطنية اصيلة، تبحث عن التغيير في ذوق المواطن نفسه، كيف تضعه في قلب العصر، اذا حدث هذا تستطيع ان تتحدث عن ثقافة لا نشاط ثقافي.
> لكن ألا ترى أن ذلك قد حدث في لحظة تاريخية حتى ولو سابقة؟
- للأسف هذا لم يحدث، لأن الكفاءات الناضجة والمواهب الصالحة التي تعمل في الأنشطة الإبداعية، هذه العناصر يضطهدها المجتمع قبل المؤسسات السياسية والرقابية، المجتمع يقدم قارئًا ليست لديه ثقافة القراءة الروائية، فيخلط ذلك القارئ بين الكاتب والراوي، ويناقش الكاتب في احداث «الحكاية» كما يعتقد، يدمغ الكاتب بصفات أبطاله، كذلك لا يملك القارئ ميزانًا حساساً لقياس الأدب. اذا ما وصفت شيئاً داخل الممالك ربما يؤخذ ذلك عليك. انت اذا قدمت شخصية ملحدة أو مؤمنة قدمتها بكل ملامحها، فإذا ما قالت تلك الشخصية رأياً ما في الدين والجنس أو السياسة حوسبت عليه كأنك قائله. اذا اخرجت الآلاف العدة التي تستهلك الأدب والفن عن الملايين من حولك، سترى المشهد الحقيقي للثقافة. الاحظ ذلك في الندوات العامة التي يتوافر لها مجموعة من المتحدثين بلغة أهل الصيغة الثقافية، فإذا ما خرج من بين الجمهور من يتحدث لغة بسيطة، رأينا التعالي عليه رغم انه هو المستهدف الحقيقي بهذه الندوات.
> ألا ترى ان المشهد من هذه الزاوية يؤكد حالة احباط عام لدى المثقفين؟
- ليس احباطاً، الاحباط لم يسيطر على رؤيتي، لأنه لو سيطر الاحباط عليَّ ما قامت لي قائمة، تاريخي الإبداعي هو مقاومة لإحباط المجتمع، لماذا اذا يكتب الانسان، لماذا تستعبدنا الكتابة اذاً؟
> أنت ترى الحركة النقدية توقفت بعد اسماء بعينها كمندور وعلي الراعي ولويس عوض، وتهاجم انتهازية النقاد اليوم مؤكداً أنهم لو كتبوا عنك الان سيفسدونك فما تعليقك؟
- أنا لم أقل هذا. قيل ذلك في إطار تقديم خيري شلبي لشهادته في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الأخيرة. انا لا أهاجم النقاد، أنا اهاجم عدم وجود نقاد أصلاً. بعد هذه الاسماء التي ذكرتها نحن نفتقر لما يناسبنا من النقاد، المسرح ليس له نقاده، المسرح نفسه تعرض للضرب منذ السبعينات، كذلك تسرب ممثلو المسرح الى التلفزيون، وفي السبعينات ضُربت الحركة النقدية مع تحول المثقفين على لسان الرئيس الى «افندية» وأهينوا في خطاباته فتكسرت هيبتهم، فهاجر 90 في المئة من الطاقات المستنيرية إما لبلاد النفط وأما للغرب، فانقطعت الصلة بين الطاقات المستنيرة، فلم تجد الأجيال الجديدة نقادها في ما عدا نقاد الحياة الجامعية اي اساتذة الجامعات وهم غير مقيدين لأنهم يكتبون محاضرات نقدية وليس نقداً جمالياً. اساتذة الأدب حمّلوا النصوص فوق طاقتها واستخدموا النظريات الغربية من دون روح.
> لكنك كنت ابناً متأثراً بتشيخوف، ودوستويفسكي، ومكسيم غوركي، لماذا تنكر على النقاد تحليلهم للنصوص وفقاً للنظريات الحديثة خصوصًا وأن الكتابة تستفيد اكثر من غيرها باتساع الوسائط والترجمات؟
- أنا لا أهاجم أحداً، هذا مجرد تفسير، مدرسو الأدب ونقاده الجدد مع احترامنا لمجهودهم، لكن نقدهم لا يتفاعل مع الإبداع، كما أن لغتهم لا تصل الى قراء الأدب الذين ليسوا من خريجي الجامعة، وان اتسع المشهد لنقاد من خارج كليات التخصص مثل فاروق عبد القادر وعبدالرحمن الابنودي وابراهيم فتحي وفريدة النقاش احياناً، لكن فاروق عبدالقادر له مزاج خاص في اختياراته لا تستطيع ان تفرض عليه كتاباً، وله الحق في اختيار ما يريده، هو يفعل ذلك بكفاءة عالية. صبري حافظ نقدره لاهتمامه بالكتابة الشابة وهو يتميز بالاضافة الى كونه استاذاً للأدب بكونه كاتباً مهماً، يكتب من دون أن يفرض على العمل مصطلحات أجنبية. ابراهيم فتحي ربما يكون هو الناقد الذي نحن في احتياج اليه، لأنه يكتب من الزاوية الجمالية خصوصاً الجانب التقني فنحن نرى جماليات العمل من خلال تقنيته وهو النقد الذي أفضله.
> أنت من أكثر المبدعين احتفاءً بالأصوات الجديدة. هل يمكن الحديث عن مشهد روائي مصري جديد؟
- في السنوات العشرين الأخيرة هناك نقلة روائية بعد أن استطاع جيلنا ان يروج للرواية فهو المسؤول عن تلك الدفعات من الروائيين الشبان، نحن أحدثنا قلعة اسمها الرواية المصرية، نحن الآباء الشرعيين لهذه الأجيال وهذا ما لم يحدث في الاجيال السابقة. هم ليسوا لقطاء، وممن أحبهم سهير المصادفة، حمدي أبو جليل، ياسر ابراهيم، ياسر عبد اللطيف، ميرال الطحاوي، أمينة زيدان، نجوى شعبان وكل منهم لديه مزاجه الخاص.
> لكن لماذا دائماً نتحدث عن مشهد روائي بينما تختفي بقية الفنون الكتابية الأخرى؟
- لأن الرواية فن شعبي طوال تاريخها، هي ضد الارستقراطية رغم كونها ابنة للبرجوازية لكنها في مصر ابنة شرعية للسيرة الشعبية التي دربتنا على الانصات ومتابعة الحكاية، لكننا مع الأسف لم ننجح في تطوير تلك التقنية لتدريب جمهور واسع على التلقي.
> أنت في أعمالك الأخيرة تمارس تجريباً على الزمن، ما هي متطلبات ذلك؟
- الزمن طالما كان من أولوياتي، خصوصًا وان أعمالي تحوي اهتماماً بالمكان، والمكان هو ما يحتوي الزمن، عشقي للمكان يجعلني اتابع الأزمنة المتعاقبة عليه.
> لمناسبة المكان، تجولت بين القاهرة ودمنهور وتعددت مطارح سيرتك، كيف اثر ذلك في اختزالك تفاصيل داخل أعمالك الروائية؟
- عيشي طفولة مشردة في الشوارع اكتسبني حاسة الانتباه لكل ما هو حولي من صوت وضوء وبشر. ولدت في بيئة منزلية مثقفة، هذه الظروف كتبت لي تجارب مكثفة في زمن قياسي، في دمنهور كنت أدرس منفرداً متحملاً أعبائي.
> شظف العيش قرَّبك من الإبداع لكن هل كل فقير قادر على الإبداع؟ ما هي المعادلة؟
- ليس كل من تعرض للشقاء يصلح كاتباً، الفطرة هي الأساس، مثلاً عم احمد صديقي تاجر السمك لم يدخل مدرسة لكن لديه موهبة مذهلة، طريقته في التعبير، في النظر، في الحياة، والبشر، هذه موهبة كاتب مفطور، وهو موديل روائي لي عندما اكتب عن صعيدي، هو مرجعي لكتابة ملامح شخصيات كثيرة. عندما كنت صغيراً درست «علم الفراسة» من مكتبة ابن عمي، وعندما بدأت دراسته فوجئت بقدرة العرب على التقاط روح الشخصيات من التفرس (أي النظر) الى الوجوه، واستفدت من ذلك في تطبيقات عملية كنت أقوم بها في مدرسة القرية، إضافة الى تجربتي منذ الصغر مع عمال التراحيل (عمال يعملون باليومية في المزارع في أعمال زراعية، ويترحلون من مكان الى آخر) وقد كانوا أكبر مدرسة في حياتي، وساعدني ذلك على تكوين خبرة حب للبشر، فطاقة الحب تجعلك في مستوى قامة كل البشر، فإذا تعاليت على أحد اعلم انك أصبحت قزماً، وهو ما اكسبني محبة الكائنات الضعيفة. والإشفاق هنا حتى على الكائنات المزرية علم وممارسة، والكاتب الحقيقي لا بد أن يتحلى بالصبر والسماحة كي يخلع اشد الناس ضراوة قناعه أمامه، وهذا التدريب جعلني الآن قادراً على سبر أشخاص بمجرد النظر اليهم.
> كتبت نصاً بليغاً عن محنة مرضك الأخيرة، هل تصف لنا كيف تخليت عن عادات اصيلة مع دخولك تلك المحنة؟
- أنا شخص كثير المضي في كل رغباتي حتى النهاية. عندما جلست في المنزل منذ عام 1990، مع ظروف عائلية، أدمنت الشيشة واستعبدتني فلم أحس بخطرها إلا عندما أصبت بتضخم في الرئة، عاجزاً عن التنفس، صرت مجبراً على الإقلاع عن التدخين. وكان عليَّ ان اخضع الانسان الجامح داخلي لتأديب، خصوصاً وأنني مدرب على الاستغناء طوال حياتي، وظلت آخر علبة سجائر موضوعة على مكتبي ومفتوحة حتى الآن، لأني أعرف نفسي لو رميتها بعصبية ربما أعود اليها. ووصف لي الطبيب المعالج المشي، كنت كمن يتعلم المشي للمرة الاولى، فكتبت ذلك النص عن تلك المحنة.
> لك رأي شديد القسوة في كتابة المبدع السيرة الذاتية، أليس المبدع أحق من غيره بما يعيش من ازدواج بين المتخيل والواقعي في أن يكتب سيرة ذاتية؟
- أي مبدع يدعي أنه يكتب سيرة ذاتية هو كاذب. السيرة الذاتية حق للزعماء والرؤساء لأن لديهم ما يحكونه للعالم. اما المبدع فهو حين يحاول كتابة سيرة فسيكتب شخصية جديدة، كذلك ربما يضر بالعالم المحيط به، فمن اعتاد على التخيل مستحيل أن يكون أميناً مع ذاته والآخرين. ومثال على ذلك سيرة توفيق الحكيم في «عصفور من الشرق»، لا أظن من قرأها يستطيع التأكد من كون هذا توفيق الحكيم الحقيقي.
> تشكك في بعض الجوائز وتمدح البعض الاخر، ما هو معيارك؟
- الجائزة لا تسمى جائزة اذا ما أضطر المبدع الى التقدم اليها. هي في هذه الحالة مسابقة. وأي كاتب يحترم نفسه لا يتقدم الى سباق، لأنه سيخضع إبداعه لشروط التسابق، والجائزة الحقيقية تفاجئ المبدع. وان كنت عضواً في بعض المسابقات فإن ذلك يرفع من مستوى المسابقة ليجعلها بمثابة الجائزة لأن مستوى لجان التحكيم يرفع احياناً من مستوى المسابقات.
> كيف تمارس فكرة عمل جديد جدلاً معك وكيف تدير علاقتك بالنص الروائي؟
- عملية الإبداع عملية سرية لا تخضع لقانون جازم. أحياناً ابدأ كتابة عمل وأصل الى نقطة فأتوقف، وتخرجني فكرة لكتابة عمل جديد مختلف تماماً، جذور أي عمل تنمو بمعزل عن كاتبها وتلح عليه ليكتبها، وعندما ابدأ الكتابة أدخل بئراً عميقة فأنفصل عما حولي، وتزودني اسرتي بالقهوة، والشاي، في منتهى الهدوء، واحياناً ما يوقف الكتابة صوت نافر من الخارج، واحياناً اتوقف بفعل السأم. ساعتها اقوم واتحرك قليلاً وأصنع شاياً، لأعود وكأنني ولدت من جديد، وتتبدد ظلمة التوقف، تصاحبني في وقت الكتابة كتيبة من الاصوات الغنائية في مقدمها محمد قنديل وسعاد محمد وليلى مراد ومحمد عبد المطلب وحين التوهج في الكتابة لا يعلو صوت فوق السيدة فيروز فهي قرينة الخيال ومشعلته، لا اصدق احياناً أنها صوت بشري، فهي كمان طائر يخاطب الاحساس والقلب لا الآذان. اما عن طقوس الكتابة فأنا فلاح لا أتعامل مع أجهزة الكومبيوتر. لدي 40 قلماً من افضل أنواع الاقلام الحبر، واكتب في كشكول كبير. بعد نهاية الكتابة الأولى للعمل (قماشته الأولى) اتركه لمدة شهرين، ثم افصلها لتصلح رواية أو قصة طويلة وأحياناً اكرر الصياغة الثانية 40 مرة، فأول كتابة تجميع لخيوط سردية. الكتابة الثانية اقرب الى التوليف بين كل تلك الخيوط، وفيها تهذيب العمل مما قد يمارس عليه اي تشويش فيبقى منه فقط ما هو متماسك وأصيل. واحياناً تختلف النسخة الأخيرة عن المسودة الاولى وكأنها رواية أخرى. وربما أرمي النسخة الأخيرة فعدد ما مزقته من أعمال يفوق ما نشرته.