سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الجمعة، يوليو ٢٨، ٢٠٠٦

إليكما - تعليق شخصي علي ما يدور في لبنان

إليكما.. ربما أستطع اللحاق بمدينة تحترق في مخيلتي
هاني درويش

لا أملك من شرف المحاولة للكتابة عنها إلا بالكتابة عنكما ، هي الصامدة ببهجة من إعتاد علي مقابلة الموت كمن يلقي علي جاره السلام صباحا ، هي رجع الأنين بالإنابة عنا ، هي بيروت التي تختصم يوما تلو الأخر من صمتنا المهين ، وأنتما رجل وفتاة بحجم وطن ضجر من التخفي في إستعارات الكتب وأغاني فيروز ، ملت بيروت مني بعد طول شوق ربيته علي هوادة منذ غلاف كتاب الصور الموثقة لمجزرة صبرا وشاتيلا الأزرق أول الثمانينيات ، وحتي إطلالتها بسحائب الدخان اللآنهائي علي شاشة الجزيرة، ملت مني المدينة التي أحلم بها من حين إلي آخر كما أحلم بحبيباتي الخائنات ، هن ربما يجدن مبررا بحجم الذكريات ، فما بال بيروت التي يحكي عنها وأ شاهدها في رجع صوتكما تؤرقني ، تجعل إمتداد البصر في صحراء تحيطني علامة للخجل ، الخجل من إنبساط أرضنا المسطحة التي تلوك مصائر أبنائها لقمة العيش المكدود والسهرة أمام فيلم عربي قديم ، ما بالي أتأمل فأتألم وتسحقني اللغة والصورة والنغم النشاز ، هل لأني أبن وطن مسطح علي الخريطة يفتقد إلي تضاريس الوادي والجبل والسهل والتعدد الأثني واللغوي والديني وكل كلمات العطف والنعوت المتعارضة والمتنوعة ؟ هل لأن مصر بنت الرحابة والبساطة والسكينة والوداعة تذيبني يوما تلو الآخر في أرقام تتدرج حتي السبعين مليون ، كم كنت أتمني ان أكون أبن بلد صغير وعلي الحافة كبلدكم ، ربما هي غيرة غير مسؤلة ومقحمة علي سياق يعلو فيه ضجيج الموت أعلي بناياتكم ، لكنها ليست مبالغة المزايدين ، أنت علي الأقل يا رنا حايك أذكرك بإتفاقنا علي تبادل الهويات الذي أسكر ضحكاتنا كثيرا ، هل تقبل ياحسن داوود دعة السكن أمام صحراء لانهائية وتقايض ببيتي بعض القذائف ، أغار منك ومنها وأخجل ، هل تقبلا أن تهباني بعضا من أحزانكم الشيعية الرومانتيكية بعد أن ضجرت من ضباب سبعين مليون سلفي برجماتي ، هل تهباني نافذة متسعة وكأس من العرقي أمام شارع تمر فيه فتيات جميلات يهربن من لحظة القصف، بعضا من صلاة مارونية في دير أعلي جبالكم التي تحترق حشائشها ، وكثير من الفخر بالإنتماء لسبعة عشر طائفة سأكون أنا طائفتها الثمانية عشر ، نازفا حتي الموت من حمي الأختلاف، سامحوني جميعا ولتسمحوا لي ولو لمرة بإسترداد فيروز ، بالحديث عنها وكأني أحد أقاربها البعيدين ، بالخروج ببيروت من هوس الكتب في طبعات الساقي ورياض الريس وسينما زياد دويري ورندا شهال وموسيقي زياد رحباني ، بالخروج من كل تلك الأرحام البعيدة إلي التسكع الحقيقي في الحمرا ، إلي مغامرة البحث عن السيد حسن نصرالله في حارة حريك والأختلاف معه ، في صعود الجبل إلي السيد وليد جنبلاط وسماع بعضا كاريزمته الخطابية ، هل تسمحي لي يا رنا حايك بمقابلة أبيك الخجول الرائع ، بتنسم جبهة أمك العريضة وتقبيلي يديها الصغيرة المدملكة ، وأنت يا حسن داوود هل تسمح لي بمتابعة خلاف عارض بينك وبين ندي ، أو تأمل حنانك الصافي علي فراس ، يالا أرق العيش في المخيلة ، لما تسألونني كيف تعيش بيروت هكذا حتي وأنت لم تراها ، كنت أربيها في المخيلة جامعا بين صور حسن داوود الصديق الذي بمثابة الأخ الكبير الأقرب إلي الأب وبين صور العزيزة رنا حايك الصغيرة والأقرب إلي الأخت ، تتمدد بيروت المخيلة بين جيلين من لحم ودم ، جيل الدم المسفوك والأحزان الصافية كما تطل من عيون حسن داوود ، وجيل البراءة المفعمة بحب الحياة الحاملة أحلام تفوق طاقتنا كما في إطلالة رنا حايك ، وأنا واقع بين الخاصرتين كفاصل فلكلوري من ثقافة مندثرة ، يخجلني مديح حسن داوود المشجع غير قادر علي أن أوفيه بعضا من حقه ، وتبهرني سذاجة رنا حين ينصب لها محمد خير كمينا في حكاية ملفقة ، هل تعلمون جميعا كم أبكي حالي عندما أتخيل ان المسافة بين القاهرة وأسوان بالقطار ربما تزيد عن زمن الرحلة الجوية من القاهرة إلي بيونيس أيريس ، ربما تستطيعون الألمام بطرفي وطنكما في ساعتين بجولة للسيارة علي كورنيش البحر فيما نقتتل في نفس الزمن للوصول إلي أعمالنا في يوم قاهري مزدحم ، هل هو الفارق في الزمن الداخلي ما يجعل المصريون يتعاملون مع ما يحدث لبيروت بدرجة تفاعل تساوي تفاعلهم مع إعصار تسونامي في إندونيسيا البعيدة ، هل تعرفين يا رنا حجم المسافة الفاصلة بيننا الآن ، هناك الخروج من القاهرة المختنقة إلي شبه جزيرة سيناء البعيدة ومنها وبعد ساعات من التضقيق الأمني ربما أدخل الحدود الأردنية بعد يوم، ثم هناك يوم آخر حتي الوصول الي دمشق ومنها إليكم في بيروت إذا لم يطل القصف مجنون مثلي يقطع الطريق بشكل عكسي ، هل تعرفين حجم التأشيرات المطلوبة ، كم عدد رجال الامن المتجهمين الذين سيسودون وجوهنا بإطالة التحديق ، من قال أننا وطن عربي واحد فهو كاذب ، كاذب بإتساع الجغرافيا وإمتداد التاريخ ، كاذب لأني لم أراه وطنا واحدا في أية لحظة ، بيروت الآن فيما تحفر قبور قتلاها طيارات جيش الدفاع الإسرائيلي تدفن معها آخر ما تبقي من إستعارة الوطن العربي ، لم يتبق من الإستعارة إلا رنينها الأجوف في قناة الجزيرة وبعد الأعمدة الصحفية ، سائق العربة البيك اب الذي أوصلني إلي المنزل ترجم الموقف إلي خسارة شرفية لمصر عندما أغرقت البوارج الإسرائيلية سفينة شحن مصرية تحمل أسمنت إلي سوريا الشقيقة ، متأسفا طالب السائق الرئيس مبارك بطلب تعويض من إسرائيل عن " فلوسنا اللي راحت " ناسيا أن مصر لم تطلب توضيحا حتي عن الحادث من إسرائيل وكذلك سوريا الشقيقة ، أصبحنا جميعا غارقين غرق السفينة التي لم تجد من يطالب بإستحقاقاتها ، بيروت أيضا تشبه هذه السفينة ، طالتها النيران بالوكالة ، عفوا بنصف الوكالة ، كل الأطراف تتعامل مع ما يحدث بنصف الوكالة ، حزب الله يحارب بنصف نضال ونصف وكالة ، والدول العربية تتنصل بنصف خزي ونصف وكالة ، وأمريكا والغرب يشجبون ويدافعون عن إسرائيل بنصف وكالة ، لهذا ستصطلي نيرانك يابيروت وحدها كسفينة إشتعلت في عرض البحر ولم يجدوا ماء لإطفائها ، لأن البحر قد جف فجأة ، لأن الصحراء إتسعت فتجاوزت المدي ، أكتب عنك يا سيدتي في المخيلة وعن أحبائي فيك، عنهم لعل تذكرتي لهم بحجم غيرتنا منك يعوضهم ولو قليلا عن خجلنا منهم ومنك ، لاتراهنوا علينا كثيرا فنحن في متاهات أوطاننا الكبيرة نتأقزم ، نصغر ونضيع فيما أنت حسن داوود ورنا حايك ومن خلفكم بيروت ومن خلفها لبنان كله تصبحون الدنيا التي حلمنا بها وأوطاننا التي عشقناها والبشر الذين كنا نتمني أن نكون .