سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الجمعة، يوليو ٢٨، ٢٠٠٦

ومن اليسار ما قتل .... سيرة بلا مسيرة

ومن اليسار ما قتل ...سيرة بلا مسيرة(الحلقة الأولي)

توني كليف وبقرة عبد العاطي
هاني درويش

الكتاب علي هيئة ورق مصور كان يحوي الكثير من بقايا من قرؤوه قبلي، وضعوا خطوطا تحت بعض السطور بما يعني أهميتها ، لم أكن في إحتياج إلي خارطة طريق فالكتاب المخطوطة كان يحوي عالما غريبا من الحقائق التي تحدث بها توني كليف عن ما أسماه وعنون به كتابه رأسمالية الدولة في روسيا ، عرفت من مسؤلي المكلف بضمي للمجموعة بأن هذا الكتاب هو إنجيل إنضمامي للمنظمة الثورية التي يعمل بها، كان من الصعب علي وأنا من بقي ماركيسيا أول التسعينيات أن تصدم قناعاتي هكذا بالدولة الحلم والتي كنت أنبري مندفعا أمام رفاقي بالمدرسة للدفاع عن معالم إنهيارها التي كانت تتأكد اليوم تلو الأخر ، لم أستسغ كذلك نظريات أبي التأمرية عن دور السي آي أيه في إنهيار تلك الإمبراطورية، وعندما شاهدت تلك المعاول المهووسة وهي تسقط بقايا حائط برلين حضرت نفسي لإبتسامات السخرية التي ستصفع وجهي في اليوم التالي في المدرسة، كان صديقي الذي يكبرني بنحو ست سنوات قد إختفي من حياتي تماما بعد إسبوع قضيناه معا بمعسكر طلائع حزب التجمع، هاهو يعاود الظهور في حياتي لينقذني من ضلال الكفر بالماركيسية بعد لقاء سريع علي هامش أحد عروض السنيما بالمقر المركزي للتجمع بميدان طلعت حرب وسط العاصمة ، سألني في البداية عن أخباري وعن الفتاة التي كنت أحبها طفلا بمعسكرنا الرائع، لم يندهش لكونها قد تزوجت مبكرا مثل الفلاحات وتحجبت علي الرغم من كون أبيها أحد كبار موظفي الحزب ، أسر لي ليلتها بأن زواجها كان تسترا علي فضيحة أخلاقية كبري أطاحت بالفتاة وأبيها من المقر المركزي إلي مقر الحزب بالضاحية الشهيرة جنوب القاهرة، سألني يومها عن علاقتي بالمصري ( يقصد الحزب الشيوعي المصري وهو الحزب الأكبر في الأحزاب الشيوعية المصرية السرية وكان يتخذ من التجمع كحزب علني واجهة شرعية لكوادره ) وإن كانوا قد ضموني إليهم بحكم كون والدي أحد الكوادر بالحزب الواجهة ( التجمع )، وعندما أنكرت عن نفسي وعن والدي تهمة الإنضمام لأكثر الأحزاب السرية إنتهازية ، فاتحني هو عن تاريخه في حزب 8 يناير ثم مسيرته في حزب الشعب ، إنتهت مقابلتنا الأولي بضرورة البحث عن بديل( وهي المهمة التاريخية لأي ماركسي في أي ثقافة وفي أي لحظة من التاريخ وفي أي إستراحة بين كوبين من القهوة ) ، خرجت يومها من تمشيتنا الطويلة علي كورنيش النيل محلقا بأحلام البديل ، بدت كلمات عادل تحمل أسئلة تبدو إجاباتها تؤدي إلي طريق ما، وكأنه أحد الحواه الذي يدفعك للتشويق من لعبة إلي أخري ، يخرج أولا حمامة من منديله الأبيض ثم باقة من المناديل الملونة من كفه الممدودة الخالية ، ثم فجأة يشركك في لعبته فتخرج البيضة من خلف أذنك ، لم يبق إذن إلا تسمية البديل ، وتبرعت ليلتها بتقديم ملامحه عندما تحدثت عن ضرورة مراجعة الخطأ السوفيتي برؤية أكثر ثورية ، أجل هو ساعتها الإجابة إلي الحلقة القادمة كما في المسلسلات البوليسية وبتنا علي موعد بعد ثلاثة أيام .
كنا في العام الثاني من التسعينيات الشقية ، تنتابني حمي البحث عن أشياء كثيرة أفتقد الآن تلك الروح الإسنفنجية لتشرب تفاصيل الحياة ، كنت أعمل منذ ثلاث سنوات في فترة الإجازة الصيفية في كل أعمال الحرف اليدوية، البكر وعلي عكس المألوف كثيرا مايدفع ثمن أخطاء الاسرة كبيرة الحجم ، كنت قد نزلت للعمل اليومي خلال فترة إعتقال والدي أعقاب أحداث إضراب عمال السكك الحديدية نهاية الثمانينيات، أحسست وقتها ماذا يعني أن تكون عاملا وفقيرا، لكن ذلك لم يبرر لي سرقة عمال شركة مصر للمستحضرات الطبية لمستلزمات عملهم ، كنت صغيرا لاأعلم ما هي الحكمة في التفتيش الشخصي عند إنتهاء نوبة العمل في الرابعة ظهرا، ما دام العمال يقذفون بأكياس المضادات الحيوية والفيتامينات من أعلي سور المصنع أثناء الدوام ، كما لم أفهم الحركة النشيطة للعاملات في خلفية اتوبيس المصنع وهن يستخرجن حصيلة اليوم من أمبولات الأنسولين ، كان لكل أتوبيس معاون الحركة الذي يتسلم من الجموع مسروقاتهم ليصرفها إلي الصيدليات بطرقه الخاصة ، كنت أعمل في قسم ادوية الشراب ، تحديدا علي خط إنتاج مستحض توسيفان إن ، لم أفهم الحكمة من خلو فترات الراحة وهي ساعة من الثانية عشر إلي الواحدة من أي كوب للشاي فالعاملون بالقسم كانوا يتعاطون التوسيفان إن بديلا عن الشاي والقهوة والماء ، كانت كل مهمتنا تتلخص في تحميل كاراتين المستحضر المعدة للبيع ونقلها بعربة حديدية إلي أسفل القسم ، وكان من الطبيعي أن تسقط إحدي الكراتين بين كل كرتونتين في التحميل بفعل العبث بين العمال ، مع الوقت أدركت أن العبث نظام متفق عليه لإفساد أكبر قدر من العبوات ومن ثم يتخذ العمال من المسافة الطويلة بين الطابق الخامس والأرضي داخل الأسانسير ساترا لتمزيق العبوات التي بدء تسريب أحمر يحتل جوانبها ، يقومون في تلك المسافة الطويلة مع بطء النزول بإحتساء العبوات في مشهد وحشي ثم يوزعون الزائد منها بالتساوي بينهم بينما يتكفل سقف المصعد المفتوح بالتخلص من الزجاجات الفارفة التي سرعان ما نسمع تهشمها البطيء مع وصول المصعد إلي الدور الأرضي، سأحتاج إلي سبع سنوات قادمة كي أفسر هذه المشاهد اللآهية ، ففي ليلة من ليالي النضج المتأخرة سأشاهد رفاقي بالجامعة يقتحمون الصيدليات للحصول تحت تهديد السلاح الأبيض علي نفس الكرتونة بحثا عن كيف التوهان اللذيذ الذي دفع بالتوسيفان إن دواء أمراض الكحة إلي جدول المخدرات الكيميائية الخطيرة التي تطاردها الدولة ، فثمن العبوة البالغ خمسة عشر قرشا في بداية التسعينيات سمح لجيل جديد بالدخول السريع في دائرة الإدمان، وصلت عبوة ال إن ( هكذا أصبح إسمه بين اهل الكيف ) إلي عشرون جنيها ، وإختفي نهائيا مع خصخصة المصنع الشهير، وبقي رهنا لروشتة الأطباء الذين نادرا ما يصفونه لأعراضه الجانبية الخطيرة، هذه المشاهد في تكية القطاع العام المستنزف بسرقة عماله ربما لم تخدش في أي لحظة نضالية الطبقة التي تشكل البديل فيما هي تموت في مشهد هيستريا أل إن وهي تكسر عبواته في الجوانب الخرسانية للمصنع ، ستبقي نضالية الطبقة قابلة للإستعادة بمجرد العودة للمنزل ومراجعة ما العمل للنيين، كان الأجر البسيط لعمال اليومية مثلي ( كنت أعمل طول الشهر مقابل 45 جنيها ) يقدم لي مبررا لفساد الطبقة التي أحلم بثوريتها ، لكني كنت في إحتياج لنموزج فارق لتأكيد معاناتها خارج رفاة القطاع العام الفاسدة ، قدم لي عبد العاطي فلاح بني سويف الرائع أعلي كوبري مراد حين كنا نعمل أنفارا نموذجا للحكمة اللينينية .
كنا تعمل كإحدي فرق سيزيف الأسطوري ، نقتسم إحدي البواكي الطولية للكوبري ، وننزع أحشاءه من الأسفلت الناحل كالرقع ، بعد أن كشف سطح الكوبري عن طبقة المعدن المخالفة للمواصفات ، بينما تسير المركبات في الباكية الموازية وهي تكاد تصدم مؤخراتنا، كنا نعمل علي ماكينة تسمي الرمالة، ندفع في إسطوانتها الواسعة بشكائر الرمل لتخرج الرمال مندفعة في خرطوم كومبروسر الهواء الساخن فتجلوا طبقات الأسفلت ويعود سطح معدن الكوبري لامعا، لم تكن مهمتي وعبد العاطي تقنية ، كل مهمتنا وثلاثة أنفار آخرون أن نلم ذرات الرمل المعبثرة بشظايا الأسفلت لنعيد نخلها وتقديمها لفهوة الرمالة ، المقاول يري العمالة السيزيفية أرخص من عربتين للرمل الطازج ، وعبر إثني عشر ساعة فوق الكوبري علينا أن نؤمن للرمالة المتوحشة رملها المنخول ، دون شربة ماء وتحت شمس أغسطس الحارقة ودون ساعة راحة وفي صراع مع تناقص حبات الرمل التي كنا ننفض وجوهنا منها ليس بحثا عن النظافة ولكن مخافة ان تنقص ذراته فنضطر إلي تحميل شكائر جديدة من أسفل الكوبري علي مسافة كيلو متر تحت سياط كلمات المقاول التي لا ترحم ، كانت اليومية البالغة عشر جنيهات في اليوم مناسبة لتجميع ثمن الملابس الجديدة في أول عام جامعي بالإضافة لمصروفات الكتب الدراسية ، لكنها لم تكن تكفي عبد العاطي الذي حضر إلي القاهرة منذ خمس سنوات يطارد حلم البقرة المسروقة، كان يتمدد في الليل أسفل الكوبري في ميدان الجيزة الصاخب ليل نهار وعلي مقربة من الأماكن المفضلة لمتبولي الليل، ويحكي من تحت غطاء المشمع الذي لف به جسده الرملي، يحكي عن تلك الليلة الفاصلة في حياته والتي طردته من فردوس قريته البعيدة، حين سحره قمر 14 هجري فنام أعلي الساقية يحلم بإبنة عمه ذات الأربع عشر ربيعا ، ولم ينتبه إلا علي صفعة أبيه يوقظه بعد أن سرقت بقرتهم الوحيدة من أسفله، طرده أبيه وهو في الثانية عشر ليعمل في القاهرة بحثا عن ثمن البقرة ، وكل عام يجمع ما إكتنزه من جنيهات قليلة وينزل السوق ليشتري بقرة أبيه فيجد أسعار الأبقار قد إرتفعت ، فينتطر لعام آخر وهكذا مرت خمس سنوات وهو يعمل بدلا من البقرة أو بحثا عن البقرة .
نقتسم رغيفا وثلاثة أقراص من الطعمية مع حبة طماطم وقرن فلفل وفحل من البصل حتي لا نكسر جنيه اليومية ، لم أكن في إحتياج إلي الإنتظار ثلاثة أيام علي مقابلة عادل، كنت أنتظر المقابلة منذ سنوات بعيدة فالبيضة لم تنتظر لتخرج من أذني ، كنت أرقد عليها منذ سنوات كثيرة وحان وقت أن تفقس
يتبع