سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الجمعة، يوليو ٢٨، ٢٠٠٦

حوار مع صنع الله إبراهيم بجريدة الحياة اللندنية

«انا فعلاً انطوائي وطاقتي محدودة» ... صنع الله ابراهيم: الكتب والأرشيف مصادري وندمتُ على قراءة «11 دقيقة»
القاهرة - هاني درويش الحياة - 14/02/06//
صنع الله ابراهيمكيف يخلو الحوار مع صنع الله ابراهيم من السياسة؟ مهمة شاقة لمن يحاول تخيله خارج مشهد الناسك الساكن في قمة بناية في ضاحية مصر الجديدة في القاهرة. تذهب اليه محملاً بأسئلة الكتابة فيواجهك بأسئلة التاريخ. وحين تحاول تنقية نقاشكما من عصب الايديولوجيا. يطرق صامتاً ليتحدث معك عن بواب البناية وأمراضه. ليس عليك الا ان تحسده على اختياراته التي يبدو مخلصاً لها حتى النهاية، قابلاً بالحد الادنى من متطلبات الحياة والاصدقاء والشهرة. ولا تفوته الفرصة للسؤال عن احوالك الشخصية كأحد الاصدقاء القدامى، فيما يطلب الصفح للجميع قبل نفسه. صنع الله ابراهيم الذي يشبه ذاته لا يجد غضاضة في أن يتركك محملاً بالهموم التي تناسيتها عن عمد.
> الرواية كنص تاريخي كيف ترى معادلتها المتزنة من دون إجحاف بقيمة الرواية كنص مستقل؟
- المعادلة تخضع لمنهج الروائي ذاته، بعض الروائيين يلتزم الواقع التاريخي او يستتر خلفه بقيمة رمزية، وهناك آخرون يتجاهلون جوانب لمصلحة جوانب أخرى، والبعض ينطلق من رؤيته الخاصة للحدث التاريخي، والأخير هو الأفضل لأن كتاب التاريخ الرسمي مزيف وكاذب.
ألا يحمل هذا الرواية ما هو فوق احتمالها؟
- الرواية تتوافق مع منهج الكاتب الروائي. فالراوي التاريخي ليس معنياً بكتابة منزهة للشخوص، بل بالولوج في ما وراء الاشخاص ودوافعهم واهوائهم، المهم في النهاية ان ينجح العمل في اجتذابك كقارئ، ويساعدك على الفهم، ويتوقف ذلك على مهارة الكاتب، كذلك تقبل القارئ لأنماط غير تقليدية في السرد.
> «امريكا نالي» شهادة احدثت خللاً في التلقي نتيجة ذلك الازدحام والعناية بالتفاصيل الدقيقة الموثقة؟
- الازمة هي مزاج الكاتب، انا كنت ارى ضرورة توثيق تلك اللحظة محاولاً أن أجد رابطاً بين التوثيق ومجمل السرد، لا ادافع عن العمل، في «امريكا نالي» قدمت نموذجاً لتلك الكتابة في كتاب اشرت اليه لمؤلف من اميركا اللاتينية يحكي تاريخ القرن العشرين بتقنية جديدة، حيث يضع احداثاً معينة يصوغها في شكل مختلف مثل تصريحات فورد مغزولة بمعارضات غنائية سردية خاصة به، ربما تشعر ان هناك مشكلة في السرد المؤلف لأن بطله الحقيقي هو القرن وهو يتأمل تجلياته في الممثلين والملاكمين والانقلابات، هذا شكل ربما تجده غريباً، المحصلة النهائية ان هناك اشكالاً متنوعة للتعبير كلها تؤدي الى الامتاع بدرجات متفاوتة تبعاً لتلقي القارئ، خصوصاً مع ظهور آليات التلقي الجديدة كما في التلفزيون والانترنت والتي عودت المتلقي على نوعية سلبية من التلقي.
> «يوميات الواحات» أثار لغطاً حول بعض الاحداث التي شاهدها البعض من زوايا مختلفة وشككوا في درجة ودقة ما قدمته؟
- اليوميات شهادة مرتبطة بزمنها، وهذه اليوميات متعلقة اساساً بفكرة مهنية الكتابة ومشكلاتها واحتمالاتها، هي تجربة لكاتب يتشكل، وهي تعتمد على فكرة غامضة هي الذاكرة ربما تخون، هي لعبة صعبة خصوصاً مع تقدم السن، لذا هناك مجال للخطأ ولم أرفض تصحيح الآخرين، الاساس في هذه اليوميات كان البحث عن أنسنة المناضل السياسي، خارج الهالة المفترضة حوله، بمعنى تصويره بنقاط ضعفه وتخلفه، بحسب تكوينه واستعداده، وهي الصفات الطبيعية التي أحاول أن أؤكد بها ثقة القارئ في نفسه، فالقارئ بطل مثله مثل هذه الكائنات التي لا تختلف عنه في شيء، وهذا لا يتناقض مع قناعاتي اليسارية.
> استعادة التجربة هل أتت بوعي لحظة الكتابة الاولى أم الكتابة المتأخرة؟
- بمزيج من الاثنتين، عليك أن تحاول البحث داخل تلك اليوميات عما كان مقصوداً منها في لحظة الكتابة ثم في اعادة الصياغة لتصبح محملاً برؤيتك على مدى السنين التي تلتها. هذا ليس نصاً روائياً. هي سيرة تكوين كاتب بصرف النظر عن التاريخ.
> كيف ترى وأنت جزء من التاريخ اليساري مثقفي اليسار المصري الذين طالما قدموا أدلجة لنظم استبدادية كما الحال مع «ناصر»، وكيف ترى موقفهم من المؤسسات الثقافية الى الآن؟
- اختلف مع ذلك تماماً. اليسار الآن يتزعم الحراك السياسي، وتاريخياً هناك وجهتا نظر تأصلتا في اليسار عبر العالم، أنت كمعارض يساري ربما تأتي عليك لحظة وتجد فيها تغيرات في النظام ومن المفيد ان تتداخل معه وتساعد على توجيهها، العملية دقيقة وربما تؤثر سلباً او ايجاباً، في تجربتنا عندما تكون ضعيفاً يجرى استيعابك، لو كنت قوياً تستطيع التأثير. ومشكلة الحركة اليسارية انها تعرضت طوال تاريخها لقهر وقمع منظم. كذلك معاناتها من سيطرة التيارات المتطرفة، فهل تتخيل مثلاً انه عام 1949 خونت التنظيمات اليسارية حركة «حدتو» لأنها اوقفت نشاطها لمواجهة وباء الكوليرا الذي تفشى في مصر في ذلك العام. فإذا لم يكن النضال ضد مرض يقتل الفقراء ثورياً، فهل الانعزال والنخبوية معالم لثورة اليسار؟ الواحد لا يحمل نصاً مقدساً، كل ما لديه دليل للعمل. والممارسة هي التي تتعلم منها كيف تحول ذلك الدليل الى تجربة، اليسار عانى عزلة استغلها التيار الديني افضل استغلال لأن اليسار اخلى مسؤوليته بعد تفسيره للواقع من دون أن يندمج في هذا الاخير بفاعلية تؤدي الى تغييره.
> انت تنتمي الى ذلك المصطلح الخلافي المسمى «الأدب الملتزم». كيف تضع تعريفاً له؟
- في اعتقادي ان أي مبدع هو أديب ملتزم وأحدده اصطلاحاً ان يصبح الكاتب أميناً في رؤيته اياً كانت والى ما تصل، وهي تعتمد على رؤى الكاتب في الحاضر وقراءته للماضي وقدرته على استشراف المستقبل، التزامه هو التزام امام هذا العالم، لا يعني الالتزام ان يكتب الناس عن القضية الفلسطينية أو عن حرب العراق وربما يظهر الالتزام أحياناً في عكس ذلك تماماً، نجيب محفوظ كان حريصاً منذ البداية على عدم التورط في الايديولوجيا والسياسة وظل أميناً لذلك الحياد طوال هذه المسيرة الطويلة ولا تستطيع ان تدعي أنه كاتب غير ملتزم، وما نتأكد منه بعد كل هذه المسيرة ان أي رؤى ايديولوجية تظل ناقصة وغير مكتملة.
> ما تعليقك على الشروط التي وضعها نجيب محفوظ لإعادة طبع «أولاد حارتنا»؟
- هي سابقة خطيرة وقد تستخدم استخداماً سيئاً، وعلى رغم رفضي تدخل المؤسسات الدينية في المجالات الإبداعية، الا انه في حالة نجيب محفوظ لا يمكن الحكم على دوافعه. علينا ان نحذر من اطلاق الاحكام المطلقة ضده، له دوافعه ويجب احترامها، بعبارة أخرى هذا الرجل بقامته الادبية لا تستطيع ان تعرف ما هو تصوره الآن. لا بد من أن نعرف منه دوافعه. المشكلة ان الازهر ربما يوافق على الرواية لكنها ستفتح النار على الجميع.
> أعمالك تحمل حساً سياسياً نافراً بنظرية التآمر السياسي والثقافي؟
- فليقنعني احد بأن لا تآمر في ما يحدث حولنا، مثلاً قضية التمويل الاجنبي للمؤسسات الاهلية ما هو المقصود منها؟ بحكم خبراتي قابلت يساريين من اميركا اللاتينية الى اوروبا الى آسيا، والملاحظ ان جميعهم اندمجوا في مرحلة النضال المكيف، نضال مؤسسات المجتمع المدني خلال العشرين سنة الاخيرة، ولنسأل انفسنا ماذا حدث ولماذا تعطي مؤسسات فورد مثلاً الى صفوة نشاط اليسار اموالاً كي يجلسوا خلف المكاتب، ولنتأمل ايضاً النتائج: هل تلك المؤسسات اضافت شيئاً او قللت القهر السياسي والاجتماعي؟ الاجابة لا. عندما تعلم أن شركات دواء عالمية تمارس تجريباً على شعوب بالكامل، هل هذه مؤامرة؟ نعم مؤامرة، عندما تخرج معلومات تؤكد أن الحرب القائمة هي جزء من محاولة فرض ثقافة وهيمنة وسلع على شعوب بالكامل.
> الحراك السياسي في مصر أدى الى استقطابات عنيفة في اوساط المثقفين. كيف ترى ذلك المشهد؟
- ليس هناك استقطاب، اذا مشيت في الشارع من دون ميكروفون تلفزيون ستسمع آراء الناس في شكل حقيقي، ليس هناك مثقفون يدافعون عن الوضع الحالي.
> لكن الواقع يؤكد أن هناك قطاعاً لا بأس به يؤيد النظام السياسي؟
- حتى اشد المعارضين في الشارع لا يستطيعون ادعاء استقلالهم عن المؤسسات، هم يعملون بأجر ويدافعون عن مكتسبات واحتياجات متراكمة، لكنهم يسبون من الداخل كل ما يحدث.
> لكن المثقف ليس مستخدماً فقط، هو جزء من آلية انتاج خطاب سياسي وثقافي؟
- ليس العامل الحاسم هو المثقف في هذه المعركة، هذه المعركة تخص كتلاً جماهيرية بالكامل، وهي تنتظر لحظة ما على رغم إحساسها بتدهور الأوضاع.
> حركة «ادباء وفنانون» كيف تخرج من اطارها النخبوي ولماذا جاء التحرك متأخراً؟
- «أدباء وفنانون» جزء من الحراك العام ربما تختفي او تتفاعل وفقاً لمستوى الحراك في الشارع.
> أنت قليل الوجود في الفاعليات العامة، هل هذا نتاج لطبيعة انطوائية أم موقف؟
- انا فعلاً انطوائي، وطاقتي محدودة وأُرشد استخدامها للكتابة. كذلك وضعي الصحي لا يساعدني. الغياب لا يعني موقفاً، هو تعبير عن عدم قدرة لا اكثر.
> انت من اكثر المبدعين التزاماً ببرنامج يومي كيف تصف يومك؟
- لست ملتزماً كما يعتقد البعض، اصحو في التاسعة وأتناول إفطاري ثم استحم وأبدأ في العمل لساعتين. بعدها تأخذني مشاغل الحياة العادية، احاول ان انتزع من اليوم بضع ساعات للعمل.
> كيف تدير علاقتك بمشروع كتابة؟
- يبدأ الانشغال وتحدث ازاحات عدة له، لكن المشروع يستحوذ عليك ويتماسك وجدانياً فتبدأ في تسجيل ملاحظات، تقرأ عنه وتوسع دائرة مصادره ويبدأ التساؤل ما هي نقطة التفجير الرئيسة؟ ما هي الضربة القوية في تلك الفكرة؟ مع تسجيل الملاحظات فجأة تشعر ان تلك المرحلة قد انتهت وانك لو أطلت اكثر من ذلك ربما يضيع وقت، وهو قرار مركزي في اي عمل كيف تختار اللحظة التي تكتمل علاقتك به مع مساعدة ظروف اخرى مثل عدم وجود ضغط مادي وتوافر جزء من الامان المادي الذي يسمح لك بالجلوس والتفرغ، ايضاً اوضاعك الصحية تؤثر، فأنا لا اعمل نهائياً اذا ما اصابني برد.
> ما هي تفاصيل يومك مع بداية الكتابة؟
- الهروب من بعض الارتباطات العائلية والالتزامات، اصبح عصبيا قليلا، وتبدأ المشكلة في اول جلسة لأنها تكون شديدة العصوبة وربما يستمر الارق حتى ثالث جلسة فالبدايات دائماً أصعب اجزاء العمل.
> هل جاءت عليك لحظة انهكك فيها عمل فتركته على رغم احتشادك به؟
- حدث هذا في البدايات، لكن مع ازدياد التجربة نستطيع ان ننفخ النار في تلك الجذوة الداخلية للنص، وأمارس على ذلك الشغف نوعاً من الامتحانات المتتالية للتأكد من قوته، هل آراه في شكل سليم.
> انت اكثر ابناء جيلك تواصلاً مع الوسائط الجديدة خصوصاً الكومبيوتر. كذلك هناك عمل بحثي يصاحب كل انتاجك. كيف تلتقط مادتك وتعيد انتاجها؟
- تركت الورقة والقلم منذ 1994 وأكتب على الكومبيوتر، وعندما ابدأ في البحث اتحول الى كائن ذي قرون استشعار مستنفرة، الكتب والارشيف هي مصادري وربما تختزل الذاكرة طريقة مناداة شخص لآخر في الشارع فأحولها الى جزء من هذا الارشيف، التعليقات دائماً اكتبها على ورق صغير، وتبدأ مرحلة تصفية كل المادة المجموعة لأن سؤال استخدامها هو الاهم، مع المراجعة يبدأ الاستبعاد وهذه هي اصعب مرحلة.
> انت تمارس الكتابة الروائية الاحترافية. ما هي الشروط التي يجب توافرها في شخص قرر احتراف الكتابة، خصوصاً في ظل ظرف اقتصادي صعب كالذي نعيشه جميعاً؟
- الشروط أن تقبل بالحد الادنى للحياة، ألا تصبح لديك طموحات كبيرة في الانجاز المادي. كذلك عدم وجود مسؤوليات كبيرة. لو كان عندي ثلاثة اطفال لجريت خلف أي 100 جنيه، لكن لحسن حظي لم تكن لدي تلك المسؤوليات، وكلما طُلب مني عمل ما وضعته تحت تساؤل ما، هل بموافقتي على هذا العرض اسمح بأن استخدم في ما هو ضد قناعاتي؟
> ما هي علاقتك بالفضائيات والفيض المعرفي المتسع؟
- انطلاقاتي عكس ذلك تماماً، ما احتاجه هو ما ابحث عنه، لا اشاهد التلفزيون نهائياً، القراءة المنتظمة والبحث عن المعلومات على الانترنت، وعندما يشغلني عمل ما تتوجه كل حواسي له، عندما قدمت بروفة «ذات» الى الناشر تخيل أن لدي سكرتيرة شخصية قامت بجمع كل هذه المادة، طبعاً لا املك هذا الترف.
> هناك مشهد روائي مصري ثري، ما السبب في اعتقادك؟ وما تقويمك له؟
- سببه الرئيس ان هناك جيلاً جديداً يحمل حكايته الشخصية ويحاول ان يقدمها خصوصاً مع اضمحلال خطابية الشعر واختفاء القصة القصيرة والمشهد بمجمله حافل بالتنويعات فالتجريب أهم مميزاته تقنياً، كذلك الانشغال بأفكار جديدة سيكولوجياً مثل حالات الروايات التي تتحدث عن الفصام وهي تعكس حالة اجتماعية خاصة، نجدها لدى أحمد العابدي وياسر ابراهيم. هذا الجيل تمرد كذلك على عدد من التابوات الضخمة وأدهشني محمد هاشم في روايته الاخيرة. كذلك يضم المشهد اصواتاً واعدة مثل ايهاب عبدالحميد، هناك زخم متداخل الاجيال وليس مقصوراً على جيل يعيشه.
> ما هي آخر قراءاتك وهل هناك مشروع رواية جديدة؟
- قرأت آخر روايات امبرتو ايكو ولم تعجبني لأنها سيرة ذاتية جداً. وندمت على قراءة رواية باولو كويلهو «11 دقيقة». وانهيت كتاباً بعنوان «ذكريات القدس» لسيرين حسين شهيد. وأعكف الآن على عمل جديد اتمنى أن يصدر نهاية هذا العام.