سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الجمعة، ديسمبر ٠١، ٢٠٠٦

هكذا رحل ملك الهزل، في "كلمتين وبس" كما كان يتوقع نهايته. كما إنه شاء ألا يصاحبه كثير من الدمع بعد أن اختار البعد عن الحياة العامة. مات فؤاد المهندس مكتئباً ووحيداً وحدة لانهائية، وحدة كان قد دخلها مجبراً بعد رحلة امتدت لنحو 82 عاماً قضي مايزيد على نصف القرن منها متوجاً على قمة البسمة المصرية دون منازع. الأستاذ كما كان يردد محبوه وحواريوه وهم كثر، يبدو في اختتام دورة صعود وهبوط حادة أقرب إلى إمبراطورية كاملة في شمول دورات التمدد السريع والإنزواء البطيء والتدريجي الذي، وإن كان تلخيصه ذلك يدعو للدهشة، فإنه مدعاة للتساؤل حول خرافة المصير الشخصي حين تتحول إلى منجز كاشف للتحولات المجتمعية العنيفة. فؤاد زكي المهندس الذي، ولفرط تماهينا معه في أدواره "الفارس" والتي لم يدانه بطل في إطلاق هول هزلها، كان أقرب ما يكون إلى أن نوحد بين ما نراه فيه ممثلاً، وما لانراه عنه كإنسان، أو بمعنى آخر: لم نكن نستطع أن نتخيله كشخص واقعي من فرط ما توحدنا معه على الشاشة. هل كان من الممكن أن ترى حقيقية ما لذلك الهزلي الصارخ ذي الصوت العالي والجسد اللين الراقص ببذلته القصيرة الجاكيت ونظارته العريضة التي لاتتناسب مع استطالة وجهه؟، هل كان ثمة احتمال أن تتخيله خارج صرخته الطرزانية الشهيرة رجلاً متجهماً يحدثك بجدية عن أي شيء؟ هناك استحالة في أن تجاور أي خيال واقعي لما رسمه وبإصرار في شخصه التمثيلي، ذلك "الفيتشي" حول الأقدام في فيلمه "مطار الحب" الذي يحب أحذية النساء أكثر من محبته للنساء. المفارقة التي تبدو ملهمة في تأمل هذه الشخصية كانت في سطوته التمثيلية على نسائه المفترضات. كان دائماً أقرب ما يكون إلى المحب الطيب الذي تعشقه النساء، لا لوسامته، وهو البعيد من الوسامة، ولا لماتشوية بنيته الجسمانية، وهو الأقرب إلى ديفوه شكلاً، ولا لقدرته على السيطرة بالحيلة، وهو الساذج المرتبك والضعيف، ربما لأنه كان دون ذلك كله تحبه نساؤه، وإن كن قد تلخصن سريعاً، عبر مسيرته الطويله بزوجته الفنانة شويكار، التي رفعها على أكتافه المنخفضة لمصاف نجمات الصف الأول.كان حضورهما معا على خشبة المسرح وشاشات السينما وعبر أثير الإذاعة أقرب إلى ثنائي يعاني من خلل فقري: هي بإنوثتها الطاغية والمائلة إلى برودة في الأداء مهما حاولت، وهو بتكوينه الجسماني النحيف وضعف نظره الوراثي، وإن إستطاع بديناميكية آدائه وإستحواذه الصوتي والحركي أن يعوض حضورها الباهت الذي لم يتجاوز كتلتها الأنثوية. كانا أقرب إلى ملكة النحل وذكرها الوحيد الذي يدور طوال الفيلم ليثبت جدارته بالملكة، فيما الأخيرة كسولة الملامح تنتظر المحارب الذي سيموت بمجرد احتوائها له. وربما في رد فعل لاإرادي على ذلك التوازن أضطرا في بعض أعمالهما إلى المبالغة في تعظيم ذكورة الطرف الأضعف في المعادلة عندما ظهرت هي في بعض أفلامه كزوجة مغلوبة على أمرها في مواجهة زوج بصباص، كما في"إعترافات زوج" و"مراتي مجنونة مجنونة"، وهو ما يتناص مع علاقة حقيقية وواقعية كانت حديث الوسط الإجتماعي والسينمائي. ففؤاد المهندس، عندما دخلت حياته الفنانة الشابة، كان زوجاً وأباً لطفلين من زوجته الأولى عفت سرور، وهو ما شكل أزمة أخلاقية لمجتمع العام 1963، حيث شكك في قيمة إخلاصه لزوجته الأولى وحاصرته الشائعات والنكاية في "أبو الأطفال" الذي يهجر أسرته للارتباط بفتاة جميلة وصغيرة. واجه فؤاد المهندس الجميع بحبه الكبير وتزوج من شويكار لمدة عشرة أشهر، ثم عادا وتطلقا وإن كانت بدايتهما، سينمائياً ومسرحياً، قد تكرست في تلك الفترة.تحكي صحافة هذا الزمن عن نصف زجاجة ويسكي كان يشربها فؤاد يومياً بعد طلاقه الأول لشويكار. وفيما انتهت اللعنة المجتمعية الصاخبة على تارك زوجته وأطفاله والتي وصلت لحد استفتاءات صحافية جماهيرية عن علاقتهما، فيما هذا اللغط يهدأ يعود فؤاد المهندس إلى شويكار وتطارده الزوجة الأولى في المحاكم، ليعودا ويتطلقا مرة أخرى لمدة ثلاثة أيام عام 1972بعد سريان طوفان من الإشاعات عن علاقة شويكار بشعراوي جمعة وزير داخلية عبد الناصر القوي، والذي فضحته ثورة التصحيح الإنقلابية في عهد السادات. إنفصال ثم إرتباط، زواج فطلاق، هكذا دخلت علاقتهما في أتون أيهما كان رافعة الآخر حتى شحبت العلاقة أوائل الثمانينيات عندما فقدت أهم ما يميزها وهو نجاح طرفيها الجماهيري. لم تعمل شويكار من بعد وفقد هو الكثير بدونها. دخلت هي المرحلة العمرية الحرجة ولم يفدها كثيراً تراثها الأنثوي إلا في أدوار إمرأة منتصف العمر وأزمتها مع حبيب صغير، فيما عاد هو إلى المسرح عودة كان يشوبها تواترات النجاح والسقوط المدّوي معاً، إنزويا سوياً في سنواتهما الأخيرة وبقي الفاصل بين شقتي الزمالك والمهندسين حيث سكنا متسعاً للقيل والقال وإن تحسر الجميع على إنفصالهما في شيخوخة واكتئاب هما أكبر من أي خلاف تاريخي. ولد فؤاد المهندس عام 1924 أبناً لعائلة تقليدية من الطبقة الوسطي المثقفة، والده زكي المهندس كان عالماً لغوياً كبيراً وعميدا لكلية دار العلوم ورئيساً لمجمع الخالدين، وعندما وصل إلى المرحلة الثانوية طاردته الأم بعصا عندما علمت بأنه يقف على مسرح المدرسة. نزل الطفل فؤاد أمام تهديد أمه مهرولاً، لكنه كان قد أدمن الوقوف أمام مسرح الريحاني منذ سنوات، ينتظر أبو الكوميديا المصرية ليعطيه السجائر من أمام الكشك بجوار المسرح لمجرد أن يرى وجه أستاذه. عندما التحق بكلية التجارة جامعة القاهرة عام 1942 مثل وكون فرقته الجامعية على تراث الريحاني واشتهر بتقليد أستاذه وفازت الكلية منتصف الأربعينيات بجائزة يوسف وهبي لمسرح الجامعات، وعندما سلمه الريحاني الجائزة أعلنه خليفة له بعد أن شاهد نسخته المكررة على المسرح وإن حذره من مغبة سجن قدراته في التقليد. عُيّن فؤاد المهندس بإدارة الشؤون الإجتماعية بالجامعة ولم ينس موهبته فانضم لبرنامج بابا شارو (محمد محمود شعبان) الإذاعي الشهير الذي تعلم منه الكثير. ومن خلف ميكروفون الإذاعة لمع نجمه مع برنامج "ساعة لقلبك" الذي أشتهر فيه بتقديم شخصية الزوج محمود الذي يعاني من غباء زوجته (خيرية أحمد) في ثنائي شهير، إلا أن علاقته بالسينما لم تبدأ إلا لاحقاً عندما اكتشفه جاره بحي العباسية محمود ذو الفقار فقدمه وراهن عليه في فيلم "بنت الجيران" عام 1954 كنجم أول، ثم في أدوار مساعدة في نحو 13 فيلماً خلال ثماني سنوات تالية. لكن المهندس، كنجم سينمائي، لم يلمع إلا تحت إدارة ملك السينما الكوميدية المخرج فطين عبد الوهاب الذي انتقل بمشواره السينمائي من مرحلة كوميديا الشارع مع إسماعيل يس إلى مرحلة الكوميديا الأسرية الخفيفة بأبطال غير كوميديين كما في فيلم "إشاعة حب"، كان فطين يبحث عن كوميديان بقامة إسماعيل يتوافق مع مرحلة سينما الأسرة الخفيفة فمثل فؤاد المهندس بشكله غير المهندم وملامحه القريبة الشبه بالناس العاديين كان اختياراً ذهبياً. أسس المهندس في عام 1959 فرقة "ساعة لقلبك" والتي انطلقت من إسكتشات الراديو لتقدم تنويعات كوميدية غير دارجة على المسرح المصري، أمين الهنيدي وعبد المنعم إبراهيم والخواجة بيجو وأبو لمعة والمعلم شكل. المسرح الذي لم يخرج من تقاليد الريحاني والكسار وإسماعيل يس كان ينحو إلى تكرار نفسه بعرض أعمالهم بأبطال جدد لسنوات طويلة، وهو المسرح الكوميدي الذي لم تعاده الأوضاع السياسية والإجتماعية الجديدة التي مثلتها ثورة يوليو. كان قادة الثورة قد تأخروا كثيراً، وربما عن عمد عن هز أو هدم القيم الفنية المستقرة في السينما والمسرح والتلفزيون، وإن عولوا في ذلك وبشكل لاحق على الدراما لا على الكوميديا، فالثورات تكره الكوميديا ربما لقدرة الأخيرة على الرهان على قيمة في ذاتها لاتحتاج إلى رافعة فكرية عميقة كما نرى في الفن التراجيدي، لذا لم تلعب الكوميديا أدواراً خاصة في تعبئة جماهير الثورة ببرنامج تلك الأخيرة. الثورة فيما هي كلام جاد ترفعت عن التماس مع ذلك الفن خشية أن ينقلب هو عليها ليسخر منها شخصياً. بقيت الكوميديا للمهام الخفيفة الوزن مثل نقد الأخلاق القديمة، القديمة فقط دون التطرق لما احتوته الأخلاق الجديدة من أعراض هشاشة وإدعاء زائف. وحين تبنت الثورة بشكل فوقي الإشتراكية عام 1961 مثلت الكوميديا بالنسبة لها رافعة لنقض الأخلاق البرجوازية القديمة فسجنت في ذلك الغرض الزائف والجبان، أن تسخر من قيم المجتمع المخملي الملكي فإذا بها تكرسها دون أن تدري.في تلك الفترة تزامن الصعود المدوي "لملك الفارس" عام 1964 مع لغة خطاب نقدي تحريضي ضد الفن الذي لايتوافق مع قيم تحولات الثورة، فؤاد المهندس بعد نجاح "انا فين وانت فين" و"انا وهو وهي" وسيدتي الجميلة تعرض لأكبر موجة نقد وتحريض مباشر من نقاد على شاكلة عبد الفتاح البارودي وراجي اللذين تساءلا عن قيمة الكوميديا تلك مع مجتمع جديد. فؤاد كان يتساءل دوماً كيف أقدم كوميديا هادفة؟ هل هناك كوميديا هادفة وأخرى غير هادفة؟ وكيف أقدم نقدا لشخصية المعلم مثلا وأنا أخاف من نقابة المعلمين أن تتهمني بتشوية صورة المعلم؟. السؤال يتضخم ولا يستطيع مروجو النقد التطبيقي الإشتراكي الإجابة عنه. في أحد الريبورتاجات يجلس فؤاد المهندس وشويكار مع يوسف إدريس ليسألاه بطفولة عن معنى الكوميديا الهادفة فتكون إجابته تلفيقية ومتهافتة فتقترح عليه شوشو أن يكتب كوميديا كي يرضي عنهم الناس!لن يكتب يوسف إدريس الكوميديا إلا بدروسها الكلاشيهية فيما فؤاد المهندس يحقق النجاح تلو الآخر لكنه يدخل بسقف هزله مساحات غير مسبوقة عندما يقدم "أخطر رجل في العالم" و"شنبو في المصيدة" و"المليونير الزائف" و"العتبة جزاز" فيما تئن البلاد بهزيمة العام 1967، وهي الأفلام التي استغلها نظام يوليو في تعتيم أثر الهزيمة ثم يكمل مرحلته الهزلية الأعظم عام1970 بأفلام "أنت اللي قتلت باباية" و"ربع دسته أشرار" ثم "عماشة في الأدغال" و"عودة أخطر رجل في العالم" عام 1972 ثم أخيراً "فيفا زلاطة" عام 1976 والذي غني فيه بصوته الرائع أغنية الهزل الشهيرة "مصر هيا أمي" والتي تحولت وبنفس ألحانها وكلماتها بصوت عفاف راضي إلى أهم أغنية وطنية في نصف القرن الأخير. دفع المهندس ضرائبه الساسية كاملة. إحتقره نقاد الثورة كما احتقره أعداؤها، ثم عاد ليكمل ضريبة الثورة وخصومها عندما قدم برنامجه النقدي الإذاعي الساخر القصير "كلمتين وبس" لمدة عشرين عاماً. وحين دافع عن إتفاقية السلام من البرنامج أخرجه الموزعون الخائفون من التوزيع السينمائي العربي من خارطة أبطالهم فاعتزل السينما إلا قليلاً. كان قبلها قد واجه ثورة الهائجين يوم 18 و19 يناير عام 1977 في شارع الجلاء فضربه أحدهم بسيخ في وجهه وحطم سيارته بعد أن سأله: هوا أنت صحيح بتكسب 500 جنيه في اليوم؟ ينزوي فؤاد كبش فداء كل المراحل ويطل نهاية السبعينيات بأحدي تحف المسرح المصري، "سك على بناتك" (1979)، ثم يختفي ليعود في الثمانينيات بمسرحية "هالة حبيبتي" ثم يزداد شحوبا وينجح في التسعينيات برائعته "علشان خاطر عيونك" والتي سقط بنوبة ضغط في إحدى لياليها وأصر على استكمال العرض بعد توقف نصف ساعة. خرج ليلتها للجمهور ولم يعتذر وأكمل المسرحية كما لم يمثل يوماً، ذهبت الثورة وذهب رجالها ومن تلاهم ذهبوا لكننا لانستطيع إلا أن نضحك بملء الأفواه كلما أطل علينا أمير كوميديا "الفارس" في إحدى هزلياته الكبرى، هزلياته الفارغة والجميلة في آن، ربما لأننا لن نتذكر غيرها في ذلك العصر الهزلي الأعظم والذي أسلمنا لمهزلة التاريخ الذي نحياه.

2 Comments:

  • At ٥:٤٣ ص, Blogger Unknown said…

    والله كان نفسى أعيش فى عصرهم بس مفيش فايدة غير اننا نرضى بالواقع على فكرة مدونتى اسمها العتبة جزاز لانى عاشق فؤاد المهندس العبقرى

     
  • At ٢:٥٥ م, Blogger Unknown said…

    مقال معفن

     

إرسال تعليق

<< Home