سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الجمعة، ديسمبر ٠١، ٢٠٠٦

كناسة مقهي الصحافة ... بقايا النهار خلف باب نصف مغلق

كناسة مقهى شارع الصحافة
بقايا النهار خلف باب نصف مغلق

في أول أيام رمضان يذهب يحيى بصحبة محمد إلى إستكمال أوراق تعيينهم بالمؤسسة العتيقة. يحيى النحيل من فرط النزيف العاطفي السياسي نموذج كلاسيكي لمثقف من الطراز الستيني الشهير، ومحمد نموذج كلاسيكي هو الآخر للمواطن العادي كما نحب أن نسميه. يحيى، بعد مخاض نضال متأخر تحت يافطة اليسار الثوري، يبدو مخلصاً لصورة ذهنية لما يتبقى دائماً من صورة الفنان في شبابه: السيجار السوبر الطويل يتناسب مع النحافة التي يراها "ناصف"، مراسل الحزب الوطني بالمجلة، نوعاً من إبتزاز المعارضين للرئيس مبارك حيث يفسرها كعلامة على عدم صحة نفسية المعارض. فعدم بيان المردود الغذائي ملمح نفسي لحالة الحقد والتشويه المتعمد لإنجازات السيد الرئيس. محمد الجان الصغير ربيب عائلة برجوازية تقليدية تسكن مدينة نصر وخريج أكاديمية صحافية تابعة للمؤسسة، أبيض قصير وذو عيون ملونة على عادة الجيل المتأقزم من مواليد الفراخ البيضاء الهرمونية واردة أيام منتصف الثمانينات، مجتهد على طراز من يحاول ردم هوة إنعدام الموهبة بكثير من العمل في الملفات ذات البريستيج الصحافي. القسم الخارجي مناسب لفتى يرتدي ملابس ذات "تاتش" كلاسيكي وقادرة على التحول في لحظة إلى ملابس رسمية بمجرد إضافة جاكيت البدلة، بينما السيزيف يحيى كعادة كل أبناء اليسار إرتمى في أحضان مهنة الديسك أو ما يمكن تسميتها بالعرف الصحافي مهنة محولي الفسيخ إلى شربات في زمن الملوحة.الإثنان يمشيان الهوينا بوسط العاصمة والحديث متقطع بين العارف الأكبر وطالب المعرفة غير المجد، عندما في لحظة إستأذن محمد يحيى رفيق مشواره الروتيني بدخول مقهى الحرية بميدان الفلكي ليحتسي فنجانا من القهوة. نقول هنا "إستأذن" من دون أن نعني بذلك تدني الموقف النفسي ليحيى الذي يجاهر دائماً بإفطاره من أصحاب الشأن، كما أنه ليس معنيا بالإعتذار ممن درج على السخرية منه بتسميته "إنجي"، فهكذا أطلقنا على محمد كلما فغر فاه بعد جملة صاعقة للأخلاق كثيراً ما يطلقها يحيى لإصطياده. لم يستأذن محمد من يحيى وإنما لعب تلك اللعبة الشهيرة في إقتناص رد فعل كوميدي من زميله الذي لم ير في حياته الممتدة لنيف وعشرين عاماً مفطراً في نهار رمضان. وفيما يضحك يحيى من لبخة زميله المتبلّم يحاول محمد تكحيل الموقف فيزيده عماء حين يقول : وإيه يعني ما أنا ليا أصحاب أجانب هومو ساكشوال، مدخلاً بذلك يحيى ومن على شاكلته في زمرة تصنيفية موازية للمثليين جنسياً. يسقط يحيى في منتصف الشارع مغشيا عليه من الضحك ثم يدخلان المقهى سوياً فيما محمد يتلفت حول نفسه خشية أن يراه أحد من أقاربه. المقهى محتشد كعادة نهار رمضان بمطاريد الشهر الكريم من أقباط وأجانب ومثقفين وصنايعية مفطرين على حسب العادة التي تذهب للإنقراض والقاضية بأن معظم الصنايعية وخاصةالعاملين بالعمل البدني يفطرون رمضان دون إحساس بالغضاضة أو الذنب وهي الفئة التي إختفت مع تأميم المناخ المجتمعي بآفة التدين الشكلي. يجلسان فيما يحيى يتأكد من وضعية إثبات شخصيته في جيب بنطاله الخلفي، لاضرورة لها في جميع الأحوال فقليل الحظ كثيراً ما يلقي العظم في المصارين، ويحيى ملك المواقف الرمضانية الشهيرة. فعندما دخل ضابط المباحث منذ عامين إلى المقهى بهجمة المخبرين إختار يحيى دون العشرات ليسأله عن بطاقته الشخصية ثم إصطحبه للقسم مغلظا في السباب بتهمة الجهر بالإفطار في رمضان، وهي تهمة لا تجد سنداً قانونياً في التشريع المصري لكنها تحولت إلى نص مطاط بقرار محافظ قديم للقاهرة كان معروفا بميله الإخواني. حضرة الضابط الشهير الذي روع مثقفي مصر لسنوات بعد أن تسلم مهمة تنظيف وسط العاصمة من أوباش المثقفين السكارى ليلاً إختار في ذلك اليوم ضحيته بإمعان موصلا رسالته التطهرية لكل المناضد المجاورة في المقهى، وهي رسالة مفادها: لقد مضى زمن التسيب في ذلك الركن الأخير لجرابيع الثقافة المصرية دون تفريق بين الحقيقي والمزيف منهم. هو نفس الضابط الذي ضرب قصاصاً شهيراً أمام شاعر خليجي في عرض شارع هدى شعراوي ومزق له كارنيه عضوية إتحاد كتاب مصر قبلها بأشهر.مر عام على الذكرى الأولى ليحيى في قسم عابدين وفي العام الذي تلاه وكي تتحول الطرفة إلى ملهاة، دخل نفس الضابط نفس المقهى واختار يحيى ليكرر نفس المشهد دون تفاصيل زائدة أو ناقصة. هذا العام يحاول يحيى ألا تتحول الملهاة إلى مأساة، لذا إنتهي سريعاً من القهوة فيما محمد كسائح بالمتحف المصري يدير عينه بين الوجوه المموهة بضباب أدخنة السجائر. المقهى في ذلك الوقت يتكيف مع روح التواطؤ لجماعته البشرية المنسجمة بحمى الذنب المشترك. في مقهى شارع الصحافة الوحيد المفتوح بخجل في نهار رمضان ألتقي بيحيى ليحكي لي مشهد محمد في مقهي الكفار، وفيما نستكمل لعبة تنقية الجماعة المنقرضة من شوائبها أخبره بأن جميع الزملاء في جريدة أخبار الأدب صائمون هذا العام. يحدثني عن إفتقاده ليوسف وهيب الذي لانعلم جحرا له خلال رمضان بعد إختفائه من مقهى منبوذي شارع الصحافة وهو القبطي الوحيد في العالم الذي أصر الضابط إياه على إصطحابه إلى قسم عابدين لنفس السبب (الإفطار في رمضان) على الرغم من بطاقته المذكورة فيها ديانته. أين يختفي يوسف وهيب؟ هكذا نردد فيما نستعرض رفاق الرحلة المستمرين معنا في مقهي عم يسري القبطي في شارع الصحافة. سيد المجنون بشعره الطويل كمشعوذ مكسيكي يكلم نفسه قبل أن يسب أقرب جيرانه على المنضدة القريبة، يخرج من جيبه علبة سجائر مونديال ويطوحها وهو يشوح بيده مستبعداً كائنات خيالية تطارده. يجتذب عرض سيد بعض الجيرة من طلاب معهد التجارة المجاور والذين يهربون من حصص دراستهم لتدخين شيشة فيبدأون بالتهامس عليه ويكتمون الضحكات. سيد يبدأ في التحدث إلى نقطة في فراغ المقهى الضيّق موجهاً لها سباباً نابياً فيستدير عبد الباقي العامل في المطبعة ويشخر مقلدا صوت ضابط الشرطة سائلاً سيد عن بطاقته التي لم يستردها من ضابط الشرطة. أرضية المقهى التي يلوثها الآن عبد الباقي ممتلئة بأعقاب سجائر مطفأة عند المنتصف. أعقاب السجائر الشاهدة على تسرع أصحابها في التخلص منها قبل الرحيل تبدو كبقايا نساء مغتصبة. ففي الأحوال العادية لاينهي محترف التدخين سيجارته على عجالة هكذا. للتدخين إحترامه وطقوسه لكنه يشبه داخل هذا الوكر فعلاً إستمنائياً عقيماً، شهوة أفسدتها الظنون وتعجل التنكر في سمت الصائم قبل تجاوز باب الخروج.بالمناسبة للمقهى واجهتان إحداهما مفتوحة تنتصب في واجهتها نصبة إعداد المشروبات فيما الواجهة الأخري المجاورة مغلق بابها السحاب حتى المنتصف إحتراما للعابرين من الصائمين. يتمدد بذلك الوكر عرضياً ليصبح داخله أكثر إزدحاماً بعيون مشدوهة ومعلقة بشاشة التلفاز الذي يعرض على جمهور المفطرين مسلسل الإمام المراغي. المدهش أن الجمع متفاعل بدرجات متفاوتة مع المسلسل الديني بل إن بعضهم يمصمص شفاهه متعجباً من كلمات الإمام الفخيمة كما يؤديها الممثل حسن يوسف. وبما أننا وبعد يومين أدركنا تلك الغرائبية في مشهد المقهى كنا نختار دائماً ومجبريين مع الزحام أن نجلس في النقطة العمياء من المقهى، أسفل التلفزيون تماما لنواجه الجمهور المشدوه ونتأمل فيما بين جملنا المبتورة مشهده الماركيزي بإنتباه. يحيى يحكي عن يوسف فيما عم يسري وحسن النادلان يتثاقلان في أخذ طلبنا. عم يسري قبطي لكنه متعاطف مع الصائمين لدرجة أنه يبدو صائماً مكفهراً مسبل العينين فيما هو يضع قهوتينا وقد إنغمز إصبعاه في كوب القهوة والماء على التناوب. لايؤمن عم يسري بأحقيتنا في الحصول على خدمة نظيفة لذا سرعان ما يرمي في حجرينا القهوة والماء دون صينية وأحيانا بدون ماء وأحيانا يقدم القهوة الزيادة سادة والسادة مضبوطة ولا سبيل إلى مراجعته. يدخل أستاذ نبيل المحاسب بالمؤسسة يضع ميدالية مفاتيحه على المنضدة الرخامية المبتلة ويخرج بدقة طبيب أمراض جلدية منديلا ورقيا ليمسح بتأفف سطحها. ينشغل يحيى في مكالمة الحب منخفضة الصوت لمدة طويلة فيما أحتسي قهوتي الثانية بدون إستعجال له. يتابع نبيل المحاسب القبطي مسلسل الإمام المراغي بنفس إهتمام عم محمد سائق عربة رئيس تحرير إحدى إصدارت المؤسسة. كرشه الضخم يتمدد تحت بدلته الصيفية على طراز بدل عبد الناصر في الخمسينات ويركن فوهة "لي" الشيشية إلى جانب فمه ويقلب شايه الخفيف. قرني ذو الندبة بعرض خده يلعب الورق مع إبراهيم سمكري العربيات الواقع دكانه إلى جانب المقهى فيما يتفقان على طريحة الحبوب التي سيقتسمانها بعد الإفطار، فضرب المخدرات في نهار رمضان حرام. بقيت ساعتان على الإفطار والسقف المعبأ بأدخنة كل أنواع السجائر والمعسل يضغط على صدر يحيى فيسعل. نتبادل حديثا سريعا عن آخر القراءات فيما عم حسن يبدأ برفع الباب الفاصل بيننا وبين الشارع. هذه علامة على بداية كنسنا من المقهى. يكنس الأرضية من الداخل إلى الخارج وعم يسري يمر على المناضد لتنظيفها لأول مرة في اليوم بفوطة مبلولة إستعدادا لإخراجها للرصيف حيث تفترش كمائدة طويلة.. يجمع عم يسري الحساب معلنا إنتهاء وردية المفطرين بفرش الأرضية بنشارة الخشب النظيفة الصفراء وفيما يبدل ملابسه إستعداداً للرحيل يتلكأ يحيى قليلا وقد إنفتح أمامه مدى الشارع أخيراً. أدخن سيجارة أخيرة قبل الصعود للمكتب ويذكرني يحيى بأن عالمنا قابل للزوال خلال عام على الأكثر. فالمحررة الثقافية المحجبة التي تدخل اربعينياتها بكامل عزوبيتها قد ألقت علينا منذ أيام إحدى دعاباتها السمجة عندما فتحت غرفتنا في مشهد سينمائي لتمسكنا بالفعل ونحن ندخن قائلة أهلاً بعبدة هبل وهو ما يعني أن سيرتنا الآن مثال للتندر بالدور الرابع حيث يقبع الأفاضل.

1 Comments:

  • At ٧:٠٦ م, Blogger alnadeem said…

    يا عم كابو
    الموضوع تحفه من الناحيه الفنيه
    والباقي انت عارفه

     

إرسال تعليق

<< Home