سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الجمعة، ديسمبر ٠١، ٢٠٠٦

تفكيك الخطاب الإرهابي على الشاشات


خلق الحادي عشر من سبتمبر بجلل بثه المباشر عبر مئات المحطات التلفزيونية في لحظة حدوثه، علامة فارقة في تعاطي العالم مع الحركة الإسلامية فقد نقلها حدثها الكوكبي الأول إلى مصاف نجوم الهواء، ليس فقط عبر تبوّء بن لادن ورفاقه مقدمة النشرات في كل شاشات العالم، بل بقدرة هذا الحدث على خلق شبكة جديدة من علاقة الجمهور التقليدي بما أعتبر لسنوات طويلة حديثاً يخص الجهات الأمنية وبعض الهمس المستتر بأخبار فلان الذي تم إعتقاله لأنه متدين. هكذا على الأقل كان تعاطي المصريين مع ما يخص متابعة أخبار الحركات الإسلامية. نتحدث هنا عن المواطن الذي ربما يسمع نبأ إعتقال أحد أقاربه في يوم ولا يعرف عنه شيئا لفترة قبل أن يقرأ قرار اتهامه في إحدي صفحات الحوادث. أخرج حدث 11 سبتمبر تلك الأيديولوجيا إلى حيز الخبر العاجل وتقارير المراسلين من عواصم بعيدة، وولّد إلى جوار ذلك كله حاجة ملحة لمنظرين مأموني العواقب يدبجون ساعات من البث بالتفحص والقراءة لكل ما تنتجه ميديا الحركات الإسلامية من منتجات كالبيانات والشرائط المصورة لعملياتها أو رسائلها المسجلة تلفزيونياً بغرض تعليقها على الأحداث. الحاجة باتت ملحة لخبير استراتيجي لتحليل تلك الخطابات الإعلامية. هكذا خلق السوق الإعلامي الناشئ وجوها جديدة تلعب دور مفككي الخطابات، التي وإن بدا معظمها مباشراً وفجاً في عدم إحتوائه على أبعاد تتجاوز كلماتها المجوفة والصاخبة القادمة من عصور قديمة، أصبحت تلك المنتجات مجال تمحيص وفحص وتدقيق ربما يصل في معظم أحواله إلى المبالغة في التأويل. المدهش بالفعل أن سيطرة الفوبيا الإسلامية والتي تبدو مبررة إن كان منتجها بعيداً وغريباً كما حال أميركا التي صحت ذات يوم على قادمين عبر المحيط لتحطيم أسطورتها، لكن الحركات الإسلامية، في ما يخص فضاءنا العربي، ليست وليدة اليوم أو يوم الحادي عشر من سبتمبر القريب البعيد. فمصر التي تشهد نضال تلك الفصائل منذ ما يزيد على الثلاثين عاماً ـ تحديداً منذ حادثة الفنية العسكرية 1976 ـ لم تشهد ذلك البروز المدوي لمتخصصي شؤون الحركة الإسلامية. حتى مع صعود المواجهة الإسلامية المسلحة مع النظام مطلع التسعينيات تم التعامل مع تلك الشؤون من منطق أمني. فمتحدث وزارة الداخلية المصرية بقي ببياناته الموجزة صلة الناس الوحيدة بالحرب الدائرة في شوارع الصعيد، وبقي التلفزيون المصري مخلصا لذلك الأداء حتى مع شيوع حالة المحلل لشؤون الحركة اللإسلامية حيث يقتصد في ضيوفه على شخصية اللواء فؤاد علام الذي أصبح خبيرا في شؤون الحركة الإسلامية من موقعه الوظيفي كأحد قيادات أمن الدولة السابقين، والذي تطور تعذيبه لقيادات تلك الجماعات لمستوى تحليل خطابهم فجأة!! كان من الطبيعي ومع طول الخبرة المصرية مع الحركة الإسلامية أن يتبوأ المصريون تلك المواقع المتقدمة في تفكيك الخطاب الإسلامي وإن تلونت تلك المواقع مع تلون المواقف الإيديولوجية لأصحابها، وهي في نماذجنا الثلاث القادمة تلونات لاتخص الموقع الشخصي وإنما هي نتاج تفاعلات طويلة مع هذا الخطاب من مواقع تخص تاريخ الحركة الإسلامية في جدلها مع تيارات سياسية بعينها منتصر الزيات.. المتعاطف الوسيط لاتستطيع فصل مشهد الحرب التي جرت أوائل التسعينيات بين النظام المصري والحركات الإسلامية دون أن تضع في مقدمة مشهده محامي الجماعة الإسلامية منتصر الزيات. فالمحامي الأشهر والمتحدث بالصوت العدلي بإسم المتهمين في معظم القضايا الشهيرة منذ أوائل التسعينيات عُرف كعضو متوسط في "جماعة الجهاد" التي نفذت إغتيال السادات وإن بقي إبن خلية أسوان بعيداً عن الضربات الموجعة التي طالت التنظيم بعد نجاح محاولة الأغتيال. فكان ممن حكم عليهم بأحكام مخففة ـ عام ونصف ـ واندمج في ما تلا ذلك في دور المدافع عن قيادات فصيلي الحركة (الجهاد والجماعة الإسلامية)، بالإضافة لنشاطه البارز في نقابة المحامين التي شهدت بحراكه إدخال النقابة المعروفة بميلها القومي في عصرها الإسلامي الأول. تحرك الزيات كثيرا كواجهة إعلامية وصوت للجماعات الراديكالية وإن أبقى على مساحة من العلاقة مع الجهات الأمنية، ويتحدث البعض عن دور هام له في سلسلة المراجعات الفكرية التي بدأتها الجماعتان، إختار الزيات بحكم أدائه الوظيفي البالغ الصيت في قاعات المحاكم العسكرية أن يكون على الحاجز دائما بين النظام والجماعة، خاصاً مع ما عرف عنه من عداء شديد لجماعة الأخوان المسلمين. هو ضيف دائم في صحف أقصى يمين النظام ويتخذ من خبرته وحكاياته عن علاقته بقيادات الجماعات الراديكالية مادة لبث رسائل مشفرة تجاه أكثر من جهة. كما نشر كتبا عن علاقته بأيمن الظواهري وقيادات الجماعة الأخرى. فهو ضيف دائم لتحليل رسائل أيمن الظواهري على شاشة الجزيرة، يدرك أبعاد الخلافات بين قيادات الجماعات في الداخل والخارج وخطابه يحمل دائما روحا إنتصارياً لكافة الحركات الإسلامية على الرغم من تبنيه أفكار وقف العنف. يمكن أن تستمع إليه واصفاً الزرقاوي بالشهيد، ولا ينتمي إلى محللي الخطاب الكلاسكيين من إقترابه من الوعي الحركي لتلك الجماعات بشكل حالي. يعتمد على تلك العلاقة التاريخية بهذه الكوادر في تحليله المتعاطف لأنشطتها، وهو يمثل بموقفه الوسيط أمنية النظام المصري لمستقبل المتعاونين من قيادات الجماعات خلف القضبان إذا ما قدر لهم الإندماج الهادئ في الحسابات السياسية الرسمية.د. عبد الرحيم علي العداء من منطق فلسفة البطريرك الأبعرف عبد الرحيم علي كصحافي مختص بشؤون الجماعات الإسلامية بجريدة الأهالي الناطقة بلسان حزب التجمع اليساري، والتي تبنى بطريركها الأكبر د. رفعت السعيد موقف العداء لقوى الإسلام السياسي التقليدي ممثلة بجماعة الأخوان المسلمين. ورث التلميذ الذكي من بطريركه العداء المميت لتلك الجماعات في شكلها الأكثر رادكالية. توقف مشروع البطريرك عند حدود حسن البنا، فيما إستطاع التلميذ، وبحجم العلاقات القوية بين بطريركه وأجهزة أمن الدولة، من التعامل مع بنك معلومات ضخم، قدم أول إسهاماته بكتاب عن خطابات المراجعات الفكرية لقيادات الجماعة في السجون وهو الكتاب الذي شكك عديد من المراقبين في وثوقية معلوماته. عبد الرحيم على صحافي منتصف التسعينيات ومفكك الخطاب الاسلامي على الطريقة الماركسية التقليدية، إقتحم عالم المنظمات الأهلية بمركز محل إسم "الإسلام والديموقراطية" كواجهة بحثية لأعماله التي دشنها بحصوله على الدكتوراة في سرعة مدهشة. وعلى عادة التطور الطبيعي للجيل الثالث من تلامذة التجمع ترجم على علاقاته الأمنية الجيدة بالإلتحاق كمستشار لقناة العربية الفضائية لشؤون الحركات الإسلامية، بما يعتبر تحوّلاً خطيراً من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. يكتب مقالاً أسبوعياً في جريدة الشرق الأوسط، ويتسع دوره لكل ما يحمل صفة إسلامي حتى لو تناول خطاب حزب الله. التشنج في التحذير من دموية الحركات الإسلامية بكافة أشكالها هو أهم مميزات خطابه. يبدو ملكياً أكثر من الملكيين في عدائه لتلك الحركات وإن تفوق على معلمه في عدم تمويه ذلك بأي غطاء إيديولوجي. فهو يكره اليسار مقدار كراهيته للحركة الإسلامية، ويبدو منتوج خطابه النهائي لصالح مفاهيم أصبحت غامضة مثل الأمن القومي والدور الإقليمي لمصر. هو الفزاعة الثائرية والمشكك الأعظم في إمكانية وقف تلك الحركات لقتالها الدائم مع الحكومات العربية. لايخلو تحليله الفزاعي من الحديث عن مصلحة الأنظمة، دون الخوض الشائك في علاقة الظاهرة الإسلامية بإيدولوجية أنظمة دينية بات الحارس الإستراتيجي في معركتها مع متمرديها. يطل عبد الرحيم علي على شاشة العربية وبمقال أسبوعي بجريدة الشرق الأوسط ويصدر حاليا موسوعة عن الحركات الإسلامية في نحو عشرين مجلداً تصدر عن إحدى دور النشر المصرية، لكنه لايتجاوز في تحليلاته لتلك الحركة مستواها الإقليمي وإن كان أكثر المستفيدين بهوس التفكيك التلفزيوني لخطاب الإسلاميين بعد الحادي عشر من سبتمبر. د. ضياء رشوان.. محلل تكتيكي على النمط الغربيهو أقرب النماذج الثلاثة من صفة الباحث الأكاديمي. حاصل على الدراسات العليا من باريس عام 1981. بدأ بالإنتماء إلى مدرسة مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية وهي المدرسة التي كثيرا ما أرتبط أداؤها البحثي بنمط أقرب لمراكز صناعة القرار البحثية الشهيرة بأميركا، وإن ظل المركز مستودعا للعقول أكثر منه موقعا للنصح أو الإرشاد فيما يخص القرار السياسي المصري، والذي يستمد قراره من الإرادة السياسية لشخص الرئيس فقط. إنضم الباحث الشهير للمركز ولم يرتبط بأي شكل في بدايات عمله بالحركات الإسلامية. وفيما يبدو أن قرار التحول لدراسة الحركة الإسلامية كان قراراً فرديا في مشواره البحثي، حيث ينتمي الباحث إلى جيل السبعينيات اليساري الذي كان أكثر المتضررين من الصعود الإسلامي على رافعة السادات منتصف السبعينيات. يرتبط تحليله بأدبيات ومنتجات المرحلة الثالثة من الحركة الإسلامية في طورها الدولي، منذ الهجرة الكبرى إلى أفغانستان. هو متميز في تحليل الخطاب والبيانات الصادرة عن الحركة الإسلامية وهو صاحب نظريات الربط الشهيرة بين التنظيمات الأقليمية ومثيلتها في جنوب شرق آسيا. راصد جيد لنشاط تلك الحركة على مستواها الكوكبي وإن بدت تحليلاته في النهاية تتسع في ذلك الربط وكأنه ميكانيزم ثابت ومضطرد، بمعنى أن السياقات التي تجمع تلك الحركات وإن بدت مشتملة على نقاط تشابه فإن ما يفرق بينها هو الآخر كثير. هناك فارق مؤكد بين حركة إسلامية مسلحة ذات تاريخ صدامي كما في الفيلبين قائمة على أساس إنفصالي، وبين شبكات القاعدة في أوروبا، وإن كان يحسب لضياء رشوان عمق تحليله للتحولات التكتيكية في عمل تنظيم القاعدة. رشوان الأقرب للصيغة الأكاديمية الموضوعية يضعك دائماً ـ وهو ما يميز خطابه ـ أمام قائمة من المعطيات والنتائج، بمعنى قربه من نسبية لا إطلاقية في تحليله لصراع الحركات المسلحة. ورغم ما يبدو على تحليله من موضوعية فيما يخص التمددات الدولية لتلك الحركة، إلا أنه، فيما يخص آدائها داخل مصر، يبدو بين سطور مقاله الإسبوعي بجريدة "المصري اليوم" أقرب إلى الإعتراف بضرورة إدماج حركات الإسلام السياسي بكل تلوناتها في داخل المشهد الساسي المصري. فعلى الرغم من قدرته داخليا على تحليل التباينات بين تلك التلونات إلا أنه كان من أكثر الأصوات التي طالبت بدمج الأخوان في معركة الإنتخابات. كما أنه الوحيد من بين النماذج الثلاثة الذي يشتبك يوميا مع الحراك السياسي حيث كان أحد الأعضاء المؤسسين للجبهة الوطنية للتغيير وهو لايخفي معارضته للنظام المصري وخاصة فيما يخص موقفه من الحركة الإسلامية ومسؤولية ذلك النظام عن خلق المناخ المنتج لها .ولا يرتكن ضياء رشوان على شاشة بعينها بل تجده حاضرا في معظم القنوات (الجزيرة ـ العربية) وهوغير متورط في أبلسة أو أنسنة الحركة الإسلامية، وإن ظل أداؤه في أحيان مشوباً بالتأويل المفرط في تعظيم فاعلية تلك التنظيمات وقدرتها على الحشد والتنظيم. الصور الثلاث السابقة لملامح خطاب التفاعل مع الحركة الإسلامية تلفزيونياً، بما أنها كانت في مجملها نتاجاً لعولمة الصورة التي حركتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر، سقطت كذلك جميعها في فخ إنطاق تلك البيانات والصور والتسجيلات ربما بأكثر مما تحتمل. فبعد إنقشاع ضباب الصدمة تأكد الجميع أن التعظيم المبالغ فيه لقدرات تلك الحركات لا يتناسب بأي شكل من الأشكال مع فراغ مضمونها من أي قيمة مضافة. ماهي الرسائل المشفرة لخطاب الوعيد والتهديد الذي تحمله تلك المنتجات في ما عدا لهجتها التهديدية وقيمتها الديموغائية في كسب التعاطف من المشاهدين؟ مجرد مشاهدين باتت تلك القيادات بالنسبة لهم صورة مجازية لنقاء لايستطيع أحد التورط فيه، نقاء يساوي بين جسده المتفجر وضحيته القادمة والعشوائية. الأزمة في كل هذا التأويل أنه يحاول ملء فراغ نص لايحوي أكثر من قيمته التعبوية العامة، خطاب لايبحث فيما يتجاوز قيمته السطحية عن مؤولون ربما لوكان ينطبق عليه ربع ما يدعونه عنه لكان قد حول العالم إلى مجتمع جاهلي كبير. فحتى مع أكثر صوره موضوعية في التأويل ـ نموزج ضياء رشوان ـ تبدو مجهولية ما يحدث هناك في تورا بورا وعشوائيته غير قابلة للقولبة التأويلية. وعلى ما يبدو أن "القاعدة" وتنظيمات الحركة الإسلامية في كل أنحاء العالم قد تبادلت المنفعة بحق مع من يدعون تفكيك خطابها، فالسجال مع مدعي الخيال الخصب ربما يفيد من تفتقد روحه الى الخيال.