سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الجمعة، ديسمبر ٠١، ٢٠٠٦

الاستعارة الإيرانية... والجهل العصامي اللذيذ


"لما إتحجبت حسيت كأني عملت كيكة كبيرة، وكان نفسي أوزع منها على الناس كلها" هكذا بررت الفنانة الطاهية حنان ترك تدشينها لمؤتمر صحافي خاص لإعلان خبر إرتداءها الحجاب. إستوقفتني الإستعارة المطبخية التي وجهتها الفنانة إلى مشاهديها من ربات البيوت في نشرة مجلة روتانا الفنية، فتلخيص بهجة الحجاب في صينية كيكة ليس بغريب على وعي الفنانة الشابة ووعي متلقيها. المدهش بحق كانت تلك الحالة من التبرير التي سقطت فيها حنان أمام مشاهدين أصبحت بشائر الفتح الحجابي لفنانة مشهد إعتيادي لا يحتاج إلى تبرير أو مصطلحات. فهل صدمت حنان ترك شيئاً من المخيلة الجمعية لمشاهديها بقرارها المتوقع؟ لا أعتقد. كذلك تنتابني الدهشة من حملة الصحافيين المصريين الذين إعتبروا حجاب حنان ترك إنهياراً لآخر قلعة من قلاع الفن المصري. ربما أجد لبعضهم من ضعاف العقل والخيال مبرراً، لكن لماذا أصابت الجميع هذه الدهشة الملتاعة وكأن السينما المصرية فقدت بحجاب ترك رائدة من رائدات السينما؟ حالة التثقيل المبالغ فيها لحنان ترك تؤكد أن بعض نقادنا أصابهم شيء من ضعف الذاكرة، فالفتاة التي رفضت منذ عامين دوراً لحبيب قلبها وأستاذها ومعلمها ـ هكذا كانت تصف يوسف شاهين بمنتهى النفاق التمثيلي لسنوات عدة ـ لمجرد أن الدور إحتوى على قبلة طويلة، ليس بغريب عليها إختيارها للحجاب والفن بالسلطات التشبيهية. كما يعرف المحيطون بها والبعيدون عنها تدينها الشديد وإنتماءها لعائلة متدينة تقليدية من الطبقة الوسطى. الأمر لايحتاج إلى خيال خصب فهي في كل إطلالة تجعل من ـ إن شاء الله والحمد لله وبإذن الله ـ نصاً متكرراً بين كل جملة وأخرى، ولا أقصد بذلك المعنى الثقافي لتلك الكلمات ولكن المعني الديني الذي ينير وجهها كلما تكلمت عن دور جديد في فيلم تجاري وليس للحديث مثلاً عن فيلم الشيماء. بإختصار حنان ترك ردت إلى أصحابها الحقيقيين وبقت الحسرة لمن إستهلكوها مرة عبر المخرج الشهير الذي وصفها في إطار خطرفة الشيخوخة بأنها شبيهة فاتن حمامة، ومرة عبر طلتها الجريئة الإنفعالية وهي تدافع عن دورها في فيلم "دنيا" التافه فنياً. صدق البعض أن خلف العيون الجاحظة بمبرر وبدون مبرر في كل أدوارها ـ على عادة كل ممثلي الأستاذ شاهين في آخر عشرة أفلام ـ صدقوا أن خلف تلك الإطلالة المزيفة ثمة عقلية تقدمية ما. بمنتهى الصدق لم أتوقع شخصياً أن أكتب سطراً واحداً عن ترك بخير أو بشر، ولكنها مصر بلد الألف عجيبة وطاحونة الهواء القادرة على تحويل حدث متوقع إلى أزمة بعد أن فقدنا الخيال الذي ربما يسمح لنا بالحديث عن أزمات حقيقية. لكن الأمر لايخلو كذلك من مناسبة لتأمل حال السينما المصرية من حيث هي ظاهرة إجتماعية ثقافية معبّرة عن الظرف الذي تمر به مصر بإمتياز، ليس عبر تثمين أو أدلجة مصير فردي تمثله حالة ترك بإمتياز، لكن عبر إعتبار الحالة منفذا لتأمل ما خلفها من تأويل. حنان ترك هي إبنة هذه الشريحة باقتدار ونموذجها الشارح. دخلت هي وجيلها من فناني التسعينات إلى الساحة السينمائية في لحظة ما بعد حرب الخليج الأولى، بينما جيل جديد من المتلقين قد صدموا في حال سينما تاريخية لم تستطع صناعتها أن تتجاوز مأزق وجوهها الواقعيين، وجوه نور الشريف ويحيي الفخراني ومحمود عبد العزيز وقبلهم بمسافة وإختلاف كبير أحمد زكي وعادل إمام بطلا الثمانينيات المتوجان، أو جيل ليلي علوي وإلهام شاهين ويسرا، وهو الجيل الذي هزمته هزيمة مخرجيه الواقعيين الجدد من أمثال عاطف الطيب أو محمد خان أو داوود عبد السيد أو خيري بشارة ورأفت الميهي. فحرب الخليج أعادت السينما المصرية إلى نقطة الصفر متزامنة مع مناخ هزيمة وجودية كاملة للمجتمع، هزيمة الشيوعية وإنهيارها المدوي، سقوط الحلم القومي العروبي، هشاشة المصير النهائي للقضية الفلسطينية مع مدريد... ثمة إنهيار كامل لمنظومة رمزية من القضايا التي كونت خيال هذا الجيل، كذلك كان للأزمة الإقتصادية العنيفة وتصاعد روح الإرهاب المؤجج في كل شوارع العاصمة والأقاليم، ما أشاع روحا من الصدمة المجتمعية الكاملة في أحلام ذلك الجيل من مبدعيه، أحس كارتيلات الإنتاج التقليدي للسينما المصرية بمعالم اللا أمان التي أطاحت فجأة بمقدرات جيل كامل من السينمائيين، (كان حجم الإنتاج عام 94 قد وصل إلى 16 فيلماً لسينما تفاخرت بحاجز المئة كثيراً). ولكن أين كانت حنان ترك من ذلك الظرف التاريخي؟ كانت في أقصى طرف المشهد راقصة باليه قدمها خيري بشارة في دور الطفلة اليتيمة بين ثلاثي نسائه في فيلم "رغبة متوحشة" عام 91، وهو الفيلم الذي لم تنقذه جماهيرية بطلته الثمانينية نادية الجندي من الفشل الجماهيري. مرّ رغبة متوحشة دون إحتفاء نقدي ـ بينما إحتفوا بفيلم عن نفس المعالجة لعلي بدرخان تحت إسم "الراعي والنساء" ـ ومر كذلك دون إحتفاء جماهيري بعد أن فشلت خلطة بشارة . مرة ثانية في مسلسل أصاب بعضا من النجاح في العام التالي، وكان "المال والبنون" فتحا في رسم صورة حنان الفتاة الصغيرة الفقيرة العاشقة بطل الحي من أعلى سطوح البناية. تسربت إذن إبنة السادسة عشرة في نسخة ستينية درامية لحال الحارة المصرية أبدع فيها السينارست محمد جلال عبد القوي في الإمساك بمصائر عائلتين في حي الجمالية وإن بقيت المعالجة أثيرة تسمية المسلسل ذي التهويم الديني عن الصراع بين المال الفاسد والأبناء الصالحين والأبناء الفاسدين. توفر لحنان معبر آمن عبر الدراما التلفزيونية التي شهدت رواجاً على حساب السينما أوائل التسعينيات، ودخلت مع يوسف شاهين تجربة المصير ذي النزعة الجماهيرية متزامنا مع فيلم الإنقلاب التسعيني الأول "إسماعيلية رايح جاي" الذي كان بداية المرحلة الجديدة. جمعت حنان إذن بين كل المتناقضات في تلك المرحلة، وضعت قدما في السينما التي يخرجها عظيم السينما المصرية ووضعت قدما أخرى في السينما التجارية الجديدة وقدما ثالثة وأخيرة في الوسط الأكثر جماهيرية. كان من الواضح أنها تعبر بين زمانين للسينما وتنال كلا حسناتهما. ربما لايشبهها من بنات جيلها الآتي قدر لهن الدخول للساحة بمغامرات أكثر وحظ أقل ما توفر لحنان ترك من حظ وإعتراف من كل أطراف المعادلة. فماذا قدمت حنان ترك طوال تاريخها لتستحق به هذه اللهجة المتشنجة المتأسفة على الخسارة التي مثلتها؟ لا شيء... ليس أكثر من الحضور اللافت في كل الأفلام التي بشرت بموضة السينما منزوعة الدسم والمغلفة بتوابل التقنية الفارغة. لا أتذكر لها دوراً ذا بصمة واضحة، هي أبنة المرحلة لاأكثر، راقصة باليه شابة إستطاعت بملامح هي مزيج من الفكرة التقليدية للفتاة المصرية السمراء مع تشنج شبابي إنفعالي وعيون جاحظة بلا مبرر، لاتستطيع مثلاً أن تضع تعريفاً واضحاً لمدرستها التمثيلية. إذا كان هناك ثمة تمثيل في ما يقدمه جيلها. كانت مثلاً من رواد مصطلح السينما النظيفة الخالية من الجنس والقبل أو المشاهد الساخنة، وتوجت حضورها بزواج فني من رجل أعمال أمن لها الظهور الجيد كنموذج للصعود الطبقي التقليدي. كانت إن طلت في حوارتها التلفزيونية تستطيع أن تشعرك بأنها فعلياً لاتحمل من الوعي ما يتجاوز ما تقدمه من أدوار. ليست مثلاً في ثقافة هند صبري، او غنوجة شعبية تقليدية على شاكلة منة شلبي، أو هي بخفة حضور ياسمين عبد العزيز. هي في المحصلة فكرة مكررة ومجمدة إستطاع النجاح المبكر أن يحفظ لها مساحة لا تستحقها. لذا لم يكن غريباً أن تنطق بما ليست تعرفه حين ساوت ما يفعله جيلها وسينماتهم بالسينما الإيرانية في معرض دفاعها عن تمثيلها بالحجاب. تقول حنان ترك ماهو المانع في سينما بطلتها محجبة بدليل نجاح السينما الإيرانية بالحجاب. لا تعرف حنان ترك عن السينما الإيرانية كما هو واضح غير حجاب بطلاتها على الأفيش، أو ربما راودها حلم الصعود إلى منصة كما فعلت سميرة مخملباف. ربما من همس لها بتلك المقارنة الفارقة لا يعرف عن السينما الإيرانية إلا كونها إبنة شرعية لتجربة أحمدي نجاد السياسية. الجهل العصامي ذلك ليس بجديد على هذا الجيل، جيل تربي على بركة الله، نجمه الأهم وشريك ترك في بطولة معظم أفلام الفترة ـ محمد هنيدي ـ يذبح يومياً عجلاً ولمدة اربعين يوما في بلاتوه فيلمه الجديد خشية الحسد (سيدخل التاريخ بحجم ما ذبحه وليس بحجم إنجازه الفني). هو جيل من أجل التلفزيون، وجيل الحديث عن الخرافة والأعمال والسحر، وهذه الأسباب بالتحديد هي مبررات نجاحه الفني، جيل حركته السينما الجديدة من منطقة إمبابة الشعبية إلى حي المهندسين الأرستقراطي في عامين، جيل إنفتحت له مغارة على بابا، فجلس على بابها يحمد الله على رزقه الحلال، جيل يتفاخر أحد دون جواناته ـ مصطفي شعبان ـ بسرقة الأفلام الأميركية ويري مصيبة السينما المصرية في الثمانينيات أنها قدمت الحارات الوسخة وأحبال الغسيل والأسطح العفنة بإسم الواقعية. هو أخيراً ذلك الجيل الذي لم يرَ في رمزية السينما الإيرانية والتي تحولت إلى إسلوب لمواجهة قمع السلطات الدينية إلا حجاب الرأس. هل تعرف الباليرينة السابقة أن أهم الأفلام الإيرانية صورت خارج إيران؟ هل تعرف أزمة سميرة مخملباف مع خصلة شعرها المتدلية من أمام طرحة رأسها يوم مهرجان كان؟ هل تعرف أن هناك فيلماً إيرانياً إسمه "الدائرة" قدم شخصية الداعرة بحجاب وتعاطف معها؟ هل تعرف أن كيروستامي يصور فيلمه الجديد عن راقصة خارج إيران؟ هل يهمس أحد في أذن حنان ترك بأن أيران ليست المملكة؟ هل تتأمل ترك صورها الصحافية فيما صدور عارية تحيطها بباقات الورود الكرنفالية؟ هل ينصح أحد ترك بأن تتفرغ أخيراً لصناعة الكيك وتترك السينما الإيرانية وأي سينما لحالها؟ إرحمونا يرحمكم الله.