سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الجمعة، ديسمبر ٠١، ٢٠٠٦

مداعبة قارئ كسول قبل أن يتجوّل بالرموت كونترول


ربما أكون من القلائل الذين إستطاعوا الصمود لسنوات أمام الصيت الزاعق لرواية عمارة يعقوبيان، فلم أقترب من الرواية حتى ساعات من كتابة هذا المقال، محافظا على إمتياز عدم السقوط في براثن الدعاية الضخمة لها كرواية أو كفيلم. كان ينتابني إحساس غامض أمام حجم الصخب المصاحب لها سواء سلبا أم إيجابا، ولم أستسلم أبدا لنقاشات كثيرة فجرتها الرواية الحدث بعد تحولها إلى فيلم هو الأضخم إنتاجيا في تاريخ السينما المصرية. كان أكثر التعليقات طرافة، وهو ما جعلني أصبر طويلاً، ما قاله لي أحد الأصدقاء بأنك حين تقرأ الرواية تشعر أنك أمام مسلسل تلفزيوني كتبه أسامة أنور عكاشة، بمعنى أن كاتبها، ربما وهو يتحضر لكتابتها، إستحضر مصيرها كعمل سينمائي قبل أن تخط يده حرفا. لذا أقسمت من البداية أن أرى المعالجة السينمائية أولا ثم أتفرغ لقراءتها متخلصا من قانونها الأساسي وهو قدرتها الفذة على التخييل والمخايلة بأن الرواية تمس أشخاصا معروفين وحقيقيين، ومن ثم أفقدها قانونها الأساسي كرواية تستمد سطوتها في كونها عابرة للخيال مرة بقدرتها على النميمة السياسية والإجتماعية ومرة بقدرتها على نصب كمائن تجعلك تتخيلها في وعاء بصري، وهي الكمائن التي ربما إستطاع علاء الأسواني زرعها بحكمة مفتعلة بين ثنيات نصّ كثيرا ما لجأ خلاله إلى الإيهام بسينمائية تلك الأحداث والشخصيات، مرة بإستخدام طريقة أن هذه الشخصية تشبه ممثلا عجوزا يضع مكياجا.... أو عبر تقديم بعض الفصول بإفتراض أن ما يحدث مشاهد من فيلم ما. لذا كانت مشاهدة الفيلم أولا طريقة مبتكرة لحرق الإيهامات وقتل التخييل الذي إرتضاه الروائي كوسيلة وحيدة لإنجاح روايته.شاهدت الفيلم متخففا من أحلام الرواية الناجحة، وقرأت الرواية خالية من أي دسم مفتعل، وبقي لي بعد المشاهدة والقراءة كثير من الملاحظات التي تتعلق بموقع عمارة يعقوبيان الرواية والفيلم كظاهرة إجتماعية وثقافية وعلاقتهما بتحليل الخطاب الثقافي العام الذي تعيش مصر تحت ظلاله.البداية من الرواية التي لايمكن الحديث عن نجوميتها إلا بتحليل مناخ التلقي الثقافي العام لها، جاءت يعقوبيان في لحظة روائية إختصرت معالم الرواية المصرية الجديدة في تيار جديد يعلن سقوط أيديولوجيات الكتابة التقليدية، من إستعارة لهموم إجتماعية أو سياسية أو إيديولوجية، وتبصرها لأنماط جديدة تملك إحساسا تجريبيا يعيد طرح أسئلة التقنية والأسلوب، مرتكزة كذلك على هموم فردية تعاني مأزقا وجوديا كبيرا في لحظة مراجعة شاملة للأفكار الكبرى. فن الرواية وكاتبها صارا رغم ذيوع مصطلح زمن الرواية المبتذل، صارا متهمين ضمنيا بتعاليهما عن الواقع عبر إختيار لغة رمزية تحول الهموم الكبرى إلى مآس شخصية. أصبح هناك مناخ عام يشكك في الوظيفة التقليدية للأدب كمرآة عاكسة بشكل ميكانيكي لأوضاع المجتمع. ومع شيوع روح محبطة بالأساس لقيمة المثقف والكاتب في خضم عالم يمور بفظاعات السياسي والإقتصادي، تراجع التقييم الإيجابي لدور الأدب لدى قطاع تقليدي ظل لفترات مستهلكا للأدب في صورة الأدب المرآة. هذا الجمهور تحديدا والذي ظل يعادي التحولات الهامة في الرواية المصرية الجديدة بصفتها منجزاً نخبوياً متعالياً، هو من إحتفى بعمارة يعقوبيان منذ طبعتها الأولى وحتى الآن، فماذا قدمت الرواية الحدث لذلك الجمهور فأعادته لزمن إستهلاك الأدب؟الرواية من غلافها الخارجي تدعي وثائقيتها التي ترصد تطور التاريخ المصري الحديث مجسدا في شخوص سكان عمارة يعقوبيان، إنهياراتهم وقياماتهم، تحولاتهم الطبقية، ومن ثم توحي ومن البداية لقارئها بأنها ربما تحمل تفسيرا مغايرا لتاريخ آخر رسمي مشكوك فيه. وهنا طبعا لابد من بعض الإكسسوار الوثائقي الذي يعطي لبنية المفترض فيها المجاز الكامل بعضا من الملامح الواقعية. العمارة محددة الزمان والمكان تظهر بحكاياتها منذ الفصل الأول كحقيقة يردف عليها الراوي وقائع حقيقة تكتسب سمت التاريخ الحقيقي، وهو يغلف شخوصه منذ البداية كجزء من الحقيقة التاريخية التي أكسبها هنا لحما ودما. المدقق لذلك الإكسسوار الوثائقي سيكتشف على الفور روائية مبتسرة وشعبوية للتاريخ، فالثورة الملعونة في كل كتاب حولت العمارة ـ مصر ـ من قطعة من أوروبا إلي موطن للأوباش والصعاليك، والكاتب هنا لايستنكف عن أن يضع تلك الرؤى كحقائق غير قابلة للنقاش أو كنتيجة صافية وقشرية تضمن فخامتها من كونها مكررة ونمطية تعكس نمطا شائعا من تحسر قطاع كبير من المصريين على عصر ما قبل يوليو الذهبي مقارنا بأوضاع الوضع الحالي البائسة. هو إذن يراهن على رؤى يعتقد أنها مغايرة للتاريخ الرسمي فيما هي أضحت التاريخ الرسمي بقضه وقضيضه لدى معظم المصريين.كل ذلك مدعوما بمعلومات بحثية أرشيفية عن تاريخ العمارة وشخوصها يسقط القارئ الكسول ومن الضربة الأولى في فخ حكاية التاريخ الحقيقي الذي يحاول الكاتب كتابته عبر الرواية. وعلاء الأسواني مستلهما لتقنيات الدراما المتعددة الخطوط للمسلسلات التلفزيونية على شاكلة ملاحم ليالي الحلمية، يعبر بالقارئ إلي شط الإستراحة الذهنية الوثير لمتابعة رحلته التاريخية. هناك من البداية ذلك الحس التربوي المستتر والقمعي لمؤلف يرهب قارئه الكسول بالمعلومة والتحليل السطحي وبعجائبية الشخوص ليمهد له قراءة شيقة ومريحة.ماذا تعني القراءة المريحة والكسولة؟ تعني التوافق والتواطؤ الضمني بين مؤلف وقارئ إفتراضي على مجموعة من الحقائق. القارئ هنا ليس مدعوا للشك أو التفاعل الجدلي العميق مع ما هو مروّي، الحكاية لا تدفعه لما هو أبعد من التفاعل السطحي لقشرة وعيه. خطاب عمارة يعقوبيان هنا يتماس مع آليات الميديا الجديدة مثل برامج التوك شو والمناظرات الصاخبة، وعي الجماهير المسلوبة إلى التضاريس الخشنة الظاهرية للأفكار؛ وعي لن يشكك في ما يُقدم له ويتعامل مع منجز الأفكار لا مع جذورها؛ وعي جدير بقارئ ربما يترك الرواية ليغير بيده رموت الفضائية بينما هو يتسلي أمام كومة المكسرات الشهية، ويصح هنا التساؤل: كيف بنى علاء الأسواني تلك الرواية بتلك القصدية؟في إعتقادي الشخصي، ورغم أن الأسواني يؤكد دائما على كونه سكن العمارة المذكورة، إلا أن ما حركه للكتابة لم يكن بأي حال من الأحوال تلك البناية كفكرة مجردة. ما حركه للكتابة إحساس عبثي بضرورة كتابة تاريخ أو وجهة نظر مرتدية عباءة بناية واقعية. حرّكته مهمة كتابة التاريخ ووجهة النظر السياسية فألبسها ثوب عمارة يعقوبيان، مجرد مطية لرؤى نفسية وسياسية وأخلاقية تبحث عن عمارة. ثلاثة مواقف سياسية وإجتماعية مغلفة بروح أخلاقية رجعية، إستطاع توزيعها على ثلاثة خطوط درامية: حكاية ابن الباشا العجوز الذي يؤرخ لإنهيار طبقة ما قبل الثورة، حكاية ماسح الأحذية المليونير بعصر الفساد السياسي، حكاية المثقف المثلي جنسيا، ويتقاطع معها خط من أعلى سطوح البناية ممثلا في شخصية أبن البواب وفتاته. ثلاث حكايات يتداخل فيها السياسي مع الجنسي مع الديني ، فيالها من خلطة جماهيرية تشبه خلطة سينما المقاولات في ثمانينات القرن المنصرم. السياسي فيها يداعب نميمة السياسة حول الوزير القوي كمال الشاذلي، والديني منها يداعب الخيال الذي أرساه وحيد حامد سينارست ميكانيزمات الفقر والإرهاب في الدراما التلفزيونية والسينمائية ـ كان من الطبيعي أن يتحمس وحيد حامد شخصيا لإنتاج الرواية فيلميا ـ والجنسي منها يداعب شخصية صحفية واقعية هي شخصية الكاتب محمد سلماوي، ثلاث إستعارات مجتمعية مسكوت عنها ونعرفها جميعا وإن كانت تشكل خميرة للنميمة السياسية والإجتماعيةوالثقافية، وهي المداعبة التي لايمكن وصفها إلا بالإنتهازية الشديدة لإزدواجية مجتمع يعاني من شيزوفرينيا عميقة، تلاعب بها وعليها الأسواني بمهارة مبتذلة، مهارة إستطاعت أن تعيد جمهورا للقراءة المنتهكة الخيال، جمهورا تمنى أن تعوضه الرواية بخيال أعلى قليلا من الصحافة الصفراء عن كبته الساسي والثقافي. لذا لم يكن غريبا أن تعيد الرواية للقراءة جمهورا ربما كانت الرواية أول عمل يقرأه، جمهورا وجد فيها تنويعا ثقافيا يتماشي مع فضائحية الفضائيات والصحف الصفراء، ولما لا، والراوي إستطاع أن ينطق بصوته الكاره للجميع كل التناقضات، أن يتلون صوته بمهارة أخلاقية فيتحدث بالقرآن عند الحديث عن الجهاد مع الفتى الفقير، ويوصف ممارسات المثلي جنسيا بالأفعال الشائنة، ويتهدج صوته إرتعاشا مع مشاهد الجنس كأي مراهق. يتلون الراوي وفقا للصوت الذي يريد إسماعه للجمهور من متوسطي الوعي، يرطب على وعيهم بطرقه المباشرة وغير المباشر، يجعل إستشهاد الفتى الفقير إسطوريا بلغة أقرب لأدبيات الجماعات الإسلامية، ويتحدث عن المثلي جنسيا بمنتهي التحقير، ويحتقر الأقباط بأكلاشيهية تقديمه لنماذجهم، وكل ذلك يتم على الرغم من ركاكة اللغة وتفكك البناء في معظم الأحيان وإزدواج لغة الحوار بين عامية وفصحى دون مبرر بين ثنايا العمل. ويكمل العمل في النهاية بطريقة الدائرة المغلقة التقليدية، الفتاة الفقيرة تتزوج الأرستقراطي العجوز، والمثلي جنسيا يموت مقتولا على يد صديقه في فورة ضمير متأخرة، والمتطرف يقتل ضابط أمن الدولة ويستشهد بينما يسمع ترانيم وأجراساً وملائكة، فهل هناك نهايات أكثر من ذلك إقناعا للضمير الجمعي للقراء؟هناك نقطة أخيرة تتعلق بفساد النقد الثقافي في مصر، وهو الفساد الذي وحد قطاعات متعددة من المثقفين للعب دور البروباجندا لرواية متوسطة القيمة، فدهشتي تتضاعف عندما تضع في قائمة من هللوا للرواية كلا على طريقته أسماء مشهوداً لها بالذائقة المتميزة. البعض أبتز الدفاع عنها لصالح رؤاها السياسية، والبعض أبتزته الجرأة المفتعلة والكاذبة للرواية، والبعض هلل على الصدى الجماهيري المرتد للمبعيات منتصرا لعودة الرواية على جدول المستهلكات الشعبية، والبعض وهم كثر إستمرأ الخوض في أسباب تحول رواية إلى ظاهرة في المبيعات وكأنها عرض زائل، وبقيت الكتابات الجادة نادرة للغاية مع حالة الإحتفاء التي توجت في النهاية بإنتاج فيلم هو الأكبر إنتاجيا في تاريخ السينما المصرية. وهذا الأخير جدير بكتابة لاحقة، فما حدث فيه ربما يمثل نتيجة متأخرة لمقدمات الرواية التي راهنت على ما هو أدنى من طموح الرواية لصالح السينما، فجاءت معالجتها السينمائية طموحا أدنى من طموح الرواية، بمعنى آخر وقف علاء الأسواني على السلم، فلم يقترب من فن الرواية ولم يقترب من فن السينما.