سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الجمعة، ديسمبر ٠١، ٢٠٠٦

أحمد نبيل الهلالي ...قديس يواجه الموت بابتسامة سخرية


بعد أن رحل آخر محبي الرجل من غرفته بمستشفى السلام الدولي، جلس وحيداً يتأمل تلك المؤشرات التي تجري على شاشات خلفه، يتأمل بابتساماته العذرية تحول الحياة إلى معمل بصري شيق. يستسلم لبرودة الغرفة ويغمض عينيه على خيال رفيقة دربه التي ما ألف رحيلها حتى الآن. يتنهد لنجاته منذ ساعات من الموت المفاجئ، فالجلطة البسيطة كانت ستجعل من موته حدثاً ربما يتساوى به مع من لم يحبهم يوماً. الجلطة الدماغية إعلان بيولوجي عن خيانة لإحدى خلايا المخ التالفة، وهو أبداً لم يشك يوماً بأنه سيموت نتيجة لخيانة مجانية. لم يتخيل نفسه سيتساوى في الموت مع مليونير حجزت الدولة على أملاكه، كما المصاب بالجلطة في المسلسلات المصرية النمطية. شعر فجأة بإنحباس في مجرى البول، حاول أن تصل يده إلى مفتاح استدعاء الممرضين، وبعد أن استدعاهم كثيراً ولم يلقَ جواباً ابتسم وحدّث نفسه: إنت كبرت يا هلالي والا أيه؟ عاودته ابتسامة البهلوان التي طالما ميزت وجهه الصبوح فيما هو ينزل قدميه على بلاطات الأرضية الخضراء المثلجة. خلع أنبوب المحاليل متحررا من ارتباطه بمؤشرات يراها علامة للموت واستند بيديه مطوحا جسده في الهواء. لقف بعضاً من الأوكسجين وخطا أولى خطواته في فراغ الغرفة. المسافة ليست بعيدة... سبع أو عشر خطوات فاصلة. مفتاح الإضاءة ليس بعيداً في جدار الحمام، تخونه قدم عجوز. أنهكته إدامة الوقوف أمام القضاة لنيف وخمسين عاماً. لم يسمع أحد جسد أحمد نبيل الهلالي وهو يرتطم ببلاطات حمام المستشفى. سقط على جبهته، وأبى أن يواجه أشباح الموت بظهر حمل آلاف ألاحلام من خلف القضبان فأدار وجهه كيفما اتفق وشاهد نزيفه وهو يستوي طازجاً على البلاط. لم يصرخ لم يتألم كثيراً، وفيما دماؤه تتسع في دائرة حول وجهه، إبتسم. هكذا يكون الموت الصدفوي. هكذا يستوي مع ألف موت مجاني للفقراء الذين أحبهم. هكذا يدخل المشهد التاريخي مخففاً من أسطورته الأفلاطونية ليكون بشراً مجلالاً بكل الصدف التي لم يحتسب لها. ففي هذه اللحظة ربما تُضجع ممرضة كسول في إحدى الغرف تتعامل مع جسد السبعيني العجوز وكأنه رقم عادي للموتى المستقبليين، ربما ينام طبيب الطوارئ الليلي غير مبال بحجم التاريخ النازف على بعد أمتار منه. فعندما سيدخلون صباحاً وقد فارقت الحياة جسد المريض رقم كذا، لن يلومهم أحد، فالموت أصبح مثل نزلة البرد، مثل الصداع النصفي، عادي بحكمة النصيب، مجاني بحكمة القدر، اختصاصي بالفقراء وبمن يدافعون عنهم. ربما ما لايعرفه الطبيب النائم أن خلف ذلك الجسد المسجى سابحاً في بركة دمائه متدثراً بمريول غرفة العناية المركزة، ذلك الجسد العملاق المتطاول المطروح في المسافة بين الحوض والتواليت، فيما خلف الجسد والروح التي فارقته يسقط تاريخ لن تذكره كتب التاريخ، تنطفئ إحدى شموع الوطن، تذبل وردة ويحترق شهاب في سماء البشرية. أحمد نبيل الهلالي الذي وزع ميراث عائلته الإقطاعية في أسيوط ـ وهو إبن نجيب باشا الهلالي آخر رئيس وزراء قبل ثورة يوليو 1952ـ وزع أراضي وعقارات عائلته على فقراء الفلاحين إيماناً منه بإشتراكية تبدأ قناعاتها من الشخصي إلى العام، فبقي سليل العائلة الثرية مخلصاً لفقراء وطنه مدافعا وحده عن كل قضايا العمال المصريين منذ نحو ثلاثين عاما، يدفع رسوم القضايا لفقرائهم ويواجه الدولة بالمجان، هو الخطيب المفوه في كل القضايا السياسية أمام القضاء المدني والعسكري، طالت مرافعاته التي يدرسها الآن حتى خصومه فدافع عن الإسلاميين كما دافع عن الشيوعيين، لذا لم يكن غريباً أن يصفه خصومه قبل أصدقائه بالقديس. هو النحيف المهذب المبتسم الساخر من نفسه المتواضع الصدامي. هو الرفيق بشير كما عرف بإسمه الحركي في حزب الشعب الشيوعي حيث تمرد ورفاقه على إنتهازية الحزب الشيوعي المصري المساومة. هو المنظر الأول الذي رصد الطبيعة الطبقية للحركة الإسلامية ووقف ضد شيطنة الإسلاميين الرادكاليين، والمقام لايتسع هنا لذكر باقي مواقفه السياسية التي لم تعرف يوما تراجعا في نضاليتها. ربما يكون الهلالي هو المحامي الوحيد في العالم الذي وقف يترافع في قضية سياسية بخطبة قانونية مفوهة أجبرت قضاة المنصة على إيداعه زنزانة الإتهام، فخلع روب محاماته ودخل قفص الإتهام في مشهد ربما تعجز السينما عن التعبير عنه بواقعية مثلما حدث. لذا لم يكن غريباً أن يجتمع كل الطيف الشيوعي المصري في جنازته التي خرجت منذ أيام من مسجد عمر مكرم. نبيل الهلالي كان يتمني حتى لحظاته الأخيرة تحالفاً واسعاً يتجاوز الخلافات الإيديولوجية العميقة بين أجيال وأطياف من الحركة الشيوعية المصرية ولن يجتمعوا ولو مرة إلا خلف نعشه المغطى بعلم مصر وبالهتاف الذي تردد لدقائق بين جنبات ميدان التحرير: عاش كفاح الشيوعيين، فيما تطل الوجوه المتسائلة من عربات النقل العام العابرة الميدان لتتساءل، ماذا تعني كلمة كفاح، وهل هناك من شيوعيين في مصر، وربما إستغرب بعض المارة أن يصلي كل هذا الحشد على شيوعي، خاصة إذا ما تقدم الصلاة المرشد العام للإخوان المسلمين. فالحشد الذي إلتهب بالنحيب كان يتقابل هذا الإسبوع للمرة الثالثة، فصيف يونيو الآتي مبكراً جمع الشيوعيين المصريين لنعي ثلاث أيقونات شيوعية مصرية، بدءاً من يوسف درويش اليهودي الشيوعي من جيل الحركة الأولى، المثقف والمترجم الشهير ورفيق هنري كوريل في لحظات مجد الأربعينات؛ أحمد عبدالله رزة أهم قيادات الحركة الطلابية المصرية في السبعينيات، الأكاديمي حامل دوكتوراه كامبريدج والمنظر والناشط المثير للجدل بأطروحاته الهامة حول تاريخ الحركة الطلابية المصرية وصاحب تجربة أول مركز بحثي لدراسات الأجيال خارج منظومة التمويل الأجنبي؛ ثم أخيراً القديس أحمد نبيل الهلالي. ثلاثة وجوه ربما ما يكسب خسارتها فداحة هو ما يمثله أصحابها من نماذج كلاسيكية لاخلافية نادرة على مستوي تاريخ الحركة الشيوعية، "أسياخ" كما يقال على الماركسي حين تختزله النقاء الثوري دون شائبة. المنظّر والقديس والحركي ثلاث صفات يبحث الماركسي عن صورهم المجردة الخالية بدرجة مذهلة من الشوائب فلا يجدها إلا في ثلاثي الموت هذا الصيف. فيما يتفرق الثكالى على أعزائهم، كنت تستطيع أن تلمح بين العيون المتورمة إحساساً باليتم المفاجئ، إحساساً بأن القدر ربما استطاع بهذا الاختطاف الانتقائي أن يثخن من جراح تلك الحركة، استطاع أن يطعنها في صميم تمثلها المثالي عن العالم، حين اختار ثلاثة نماذج ربما يصبح بعدها كل شيء أقل نقاء وأقل إخلاصاً، ثلاثة أفكار عن الشيوعي بعدها سيفقد كثيراً من بهائه.

1 Comments:

  • At ١١:٤٥ م, Anonymous احمد said…

    رحمه الله، كان محامي الفقراء والمظلومين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والإيديولوجية لاكثر من 55 عاما

     

إرسال تعليق

<< Home