سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الجمعة، ديسمبر ٠١، ٢٠٠٦

تنحنح قليلاً ثم بدأ الكذب قائلاً:......


في مهنة الصحافة هناك مدخل أساسي للتعامل معها ، ألا وهو اعتماد ما يكتب ويقرأ علي أنه نص خيالي بامتياز. نعم بفضل ما تتركه المهنة من أثرها الوحيد (الكلمات) في اعتقاد القارئ من أن ما هو مقروء هو في مجاز "حدث ذات مرة" بمعنى أن كذا يحدث لكذا في مكان وزمان آخر، أو أن كذا قد حدث بالمواصفات التالية في أكثر الصيغ الصحافية خبرية وحيادية مع كامل الاحترام لتشكك الجميع في صفة الحياد الأخيرة. فحتى عند حدود الوصف لما هو واقعي ومنزه تلعب اللغة بصفتها وسيطا يحمّل وعي كاتبها دورا في صبغ الأحداث والمعلومات بشيء من الزيف، وإلا أصبحت البشرية جميعا مطالبة باستهلاك صحيفة واحدة تملك علم الصحافي: اليقين المقدس. إلا أن تكنيكات الكتابة الصحافية المتباينة بين الخبر والتقرير والتحقيق والتحليل وأخيرا الحوار والرأي، هي ما يحمي تلك المهنة من أحكام قيمية ربما تضع كل منتجها في مجاز الكذب المطلق. فالتباينات الدقيقة بين كل تلك التكنيكات تجعل للعمل الصحافي قيمته المضافة والصافية بين كل الفنون الكتابية. وبما أن الإبلاغ هو الوظيفة الأساسية التي يتحرك داخلها ذلك الخيال الكاذب الصادق، فإن وثائقية المادة المنقولة تبدو هي الشعرة التي تفرق بين الكذب والخيال. كلما جنحت المادة نحو الخيال البكر ازداد الشك في تلك المادة من حيث هي طريقة للابلاغ وتعامل معها المتلقي بخيال أرحب وربما اقترب الفن الكتابي من حدود الادب. أما إذا ما توثقت المادة بكثير من القرائن بدت أقرب الى إرهاب القارئ وقتل خياله ودفعه نحو الاستسلام العقلي الكسول. وبين هذا وذاك دائما ما يتأرجح الكاتب بين خيارات كلها صعبة ويكتنفها صراع إقدام وإحجام بلغة أهل علم النفس. وفيما يخصني كشخص ضل طريقه نحو الصحافة في لحظة لا تحتاج المهنة فيها الى من ضل الطريق، تظل معادلتي الشخصية أقرب ما تكون الى محاولة اكتشاف دائمة.لم أنجح في أي لحظة من إخفاء إندهاشي من كم البلاهة التي ترسبها تلك المهنة يوما تلو الآخر إذا ما فقدت قيمة الخيال، لأن الواقع من ناحيته ينحو بغرائبيته لتحطيم الفاصل الدقيق بين ما اصطلح على تسميته واقعا أو خيالا. ومن ثم لا يتبقى لمن يبحث عن سلوى حقيقية في تلك المهنة إلا أن يخلط كلما أمكن بعضا من الواقع الخيالي بكثير من الخيال الواقعي بنسب محددة تسمح لكل منا أن يخلق واقعه وخياله الخاص، وذلك مع كامل احترامي للقانون المهني الذي يحتم علينا غير ذلك. لكن فليأت واضعوه، وأتحداهم أن يصبروا على الواقع أو الخيال. من أكثر المهام الصحافية في اعتقادي استحالة في التموضع داخل معادلتك الشخصية للخيال والواقع هي مهمة الحوار الصحافي، والتي أدعو من الله ألا يبتلي بها عدو أو حبيب. فبحكم الموقع الجغرافي النفسي للمحاور والمحاور (وزع كما يتراءى لك الفتحة والكسرة)، تبدو العملية بمجملها إخصاء للخيال. فالمحاور، مهما تسنّى له من استعداد معلوماتي ومعرفة عميقة بشخصية من يحاوره، يبقى الأضعف في مواجهة كُتِب فيها للمحاوَر كامل المجد الزائف بأن لديه ثمة ما يحتاج الناس لمعرفته. ولأنك مجبول على محاورة من يمتهنون حرفة الكلام من أدباء ومفكرين، فلتستعد لماكينة الكلام التي لن تجد من يحاسبها وفقا للمثل المصري الشائع "الكلام ماعليهوش فلوس". يبدأ هذا الخلل في موازين القوى في اللحظة التي يرفع فيها من اصطلح على تسميتهم بنجوم الكلام سماعة الهاتف ليرد على الصحافي الذي كسر ضباب عزلته الافتراضية. لايخلو الأمر في البداية من حجتين أو ثلاث لتأجيل الموعد رغم أن 70 في المئة منهم يشتعل يوميا ألف مرة في إنتظار تليفون طائش من أي عابر يسمح له بالاندماج ولو بكلمة في دروشة الميديا والصحافة. بعد الحجج يحق له اختيار موقع المواجهة. طبعا هو الآن في قلب اللحظة التي طالما انتظرها ويحق له الدلال. المكان المحدد إما منزله حيث سيسمح لبارانويته أن تتضخم، أو مكان عمله حيث المساحة واسعة لاستعراض الهيبة والنفوذ، أو أخيرا وقليلا ما يحدث مكان حيادي ربما مطعم أو كافيه علي الطريقة الحديثة، ربما إتقاء الحميمية يخافها. دائما يلتزم طرفا الحوار بالموعد المحدد، وهذا هو الملمح الوحيد والنادر للتساوي بينهم.والآن فلنتحدث عن الأسلحة التي جلبها الطرفان للموقعة المنتظرة: أنت من ناحيتك كصحافي مطالب باستلهام علامات للطريق عبر أرشيف الحوارات السابقة للهدف، كذلك التواصل الاضطراري مع منتوجه الثقافي حتى لو تعارض مع ذائقتك الشخصية. بحثا عن المشترك، تقنع نفسك بكثير من التهذب والتواضع بأن إنتاجه لازال قادرا على إثارة أسئلة ما وأن جعبته بعد مئة حوار على الأقل لازالت تحوي شيئا مهما. ثم عليك أن تتجنب الأفخاخ الكلاسكية للمحاور قدر الإمكان، فبعضهم تتلبسه حمّى العراف الكوني الذي سيشهد التاريخ بعد قليل بعبقرية استشرافه للمستقبل. والبعض يختار التواطؤ على الجميع فيبث رسائل مدسوسة بعناية بين ثنايا الحوار للرد على منتقديه أو إرهاب خصومه. والبعض يتقمص روح أحد قضاة محاكم التفتيش الأسبانية للبحث في أسئلتك عن آراء الغير فيه، وكأن من يجلس أمامه شفرة مستغلقة أرسلها له كبير بصاصي الأمير. البعض ممن لهم تاريخ سياسي يتخيلك جزءاً من المؤامرة الكونية التي تستهدفه، أو بإيجاز، أنت في جميع الاحوال مجرد زجاجة خالية سيعبئها برسالة ويقذفها للبحر أو في أقل الإحتمالات مجرد طبق لاقط في أعلى بناية عقله. الكل يسألك من البداية (وكأنه لم يستعلم عن ذلك مرتين في مكالمة الهاتف) عن الصحيفة التي تعمل لها، وبعد سماعه الإجابة­ ولاأدري لماذا يشوبنا خجل منها ­يبدأ في ضبط موجة البث لمستمع إفتراضي حدده سلفا. إن كنت من صحيفة ثورية معارضة جاء وقت شتيمة المؤسسات الرسمية، وإن كنت من صحيفة رسمية صوب سهامه لمعارضي الثقافة الرسمية، وإن كنت مستخدما في بلاط صحيفة خليجية كان الحديث خاليا من فزع المحرمات. تحديد جهة سن الناشنكان هام جدا كي يبدأ التصويب. طبعا أنت كمستخدم في آلية التصويب العقيمة تلك، مهما كانت جديتك في البحث عن حقيقة ما أو معرفة أو خبرة مضافة لا تستطيع أن تختلق، فيما يتجاوز أسئلتك المسبقة، حائط الإجابات الكلاشيهية المكررة حتى لو تفننت في استنطاق ما هو مخبؤ بين تلك الرصاصات الطائشة. في معظم الحالات هناك نص حاضر لدي الكاتب لا تمثل أنت فيه سوى الهامش. هو لا يجيب علي أسئلتك بل يجيب على ما افترضه هو من أسئلة متوقعة. لذا ليس من المدهش أحيانا أن تجد الشيء ونقيضه داخل نفس الحوار أو بين ما يقوله الآن وما ذكره منذ أيام لصحيفة أخرى. والأرشيف الصحافي لأي مثقف على هذه الشاكلة خير دليل. المؤكد أن صدمتك ستتصاعد عبر دقائق الحوار، فامتهان الكذب الأدبي أدب، بينما إمتهان الكذب الاجتماعي والثقافي والسياسي لا يمكن وصفه إلا بالكذب. البعض فيما هو يسترسل بعد نحنحة إذاعية يمسح تاريخه الثقافي ويدق إسفينا أبديا بين ما يكتبه وقد تتعاطف معه وبين ما يتفنن في التبجح به. والبعض قد يدهشك بهشاشة ثقافته الأدبية حين يخطئ في اسم عمل عالمي أو كاتب شهير. والبعض بإحباطه الشديد تهيأ لانهيار وشيك. والبعض، بتشدد مواقفه الفنية مما يكتبه أو يكتبه الآخرون، جدير بصحبة أبو مصعب الزرقاوي. والكل مشدود للحظة سابقة في الوعي تتعالى على ما هو يومي لصالح الخبرات المنجزة. الأيديولوجي منهم يفتقد الى ما هو تلقائي في علاقته بأيديولوجيته، والحكاء منهم يحتاج الى فلتر ينقذك من دائرية تناقضاته، والمتعالي يحتاج الى من يشج رأسه بفأس، والمستريب الفطن جدير ببصقة تنزعه من حالة الاستشهاد الكاذب. المؤكد أنك لن تملك القدرة على إعطاء كل ذي حق حقه عند النزال، أو عند ما يمكن أن تسميه المعاركة الفكرية لقارئ افتراضي بستهدفه المفكر الكوني. أنت مجرد الواقي الذكري الشفاف الذي يستخدمه مدعي الفحولة الفكرية كي يجد مبرراً لنفسه لأن ينظر في المرآة متفاخرا . بعد أيام ستكون مضطرا للدفاع عن غياب ألف سؤال حقيقي كان من المفترض تحققه في تلك المقابلة، فيما يستقبل الكاذب اتصالا تليفونيا من صديق أو مستهلك يثني على اكتشافاته في حواره الأخير. لايعرف أحد كم من الساعات قد قطعتها مشيا للتخلص من إحباطات تلك المقابلة الكئيبة، التي لو قدر للقارئ أن يراها كما حدثت في الواقع لآمن بقيمة الخيال، ذلك الذي يجعلنا على مسافة كافية لإدراك عبث الواقع.

2 Comments:

  • At ٣:١٠ م, Anonymous غير معرف said…

    تحية وبعد
    اشكرك على المقال المثير
    استمتعت في قراءته
    وشكرا وبالتوفيق

     
  • At ٣:١٣ م, Anonymous غير معرف said…

    شكرا جزيلا جدا على المقال الرائع
    استمتعت جدا بقراءته
    بالتوفيق

     

إرسال تعليق

<< Home