سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الجمعة، ديسمبر ٠١، ٢٠٠٦

في مقهى الوطن .. الحساب يجمع


يقول عملاق شعر العامية المصرية الراحل عم فؤاد حداد في مقدمة غير منشورة لأحد دواوينه: "بعض الخواطر كاذبة مثل الحسابات الدقيقة، أي نعم إن ألصق الفنون بالضحك والسخرية أسرعها إلى العطب. إلا أن النكتة إما بائخة وإما قديمة، ومن ألف نكتة تعيش اثنتان أو ثلاث". هكذا شيع سلطان "القوّالين" المصريين إحدي أهم ميكانيزمات الحيل النفسية للشعب المصري ـ أي النكتة التي يلجأ إليها في سرائه وضرائه ـ إلى مثواها الاخير بعد أن افتقرت مخيلة الابداع العفوي لذلك الشعب كثيراً من طزاجتها. أما ما لايعرفه الشاعر الذي مات من كثرة الغناء هو أن نظامه السياسي قد أممّ، فيما هو يؤمم الهواء والماء، النكتة عندما جمد الخيال المجتمعي عند حدود نكاته البائخة والتي ترفل منذ سنين في ثياب حداد لانهائي. من منا مثلاً لا يتذكر نكتة صاحب المقهى الشهيرة التي يسأله فيها أحد الزبائن عن سر الصور الثلاثة المعلقة خلفه فيجيبه أن الاولى صورة الزعيم الذي أمم القناة، الثانية للزعيم الذي عبرها بجنوده، وعندما سأله عن الثالثة أجابه بأنها صورة أبو علاء شريكه في المقهى. مثل هذه النكتة ماعادت تضحك أحداً بعد أن أوشك علاء الابن شخصياً على وراثة المقهى، لتتحول المرارة التي ربما تحملها النكتة إلى حقيقة واقعية تتجاوزحدود المبالغة لتتكرس واقعاً من كثرة تكرارها. الواقع نفسه ربما يتحول لنكتة مبسطة ومدهشة لاتحترم أي خيال يتجاوزها، هذا ما يتجسد ربما يوماً بعد يوم، في كيفية إدارة النظام المصري لأحوال مجتمعه. فالمتابع من بعيد يندهش من سذاجة النكات أو المنطق النكاتي الذي يحكم علاقة هذا النظام بمواطنيه وقضاياهم. هذا الاسبوع مثلا تفجرت للمرة الثانية في عام أحداث فتنة طائفية كبيرة بالإسكندرية، وخرج علينا مبدعو النكات بأن مرتكب الإعتداءات على كنائس مسيحية في يوم الجمعة الاخيرة للصوم الكبير، هو شخص مختل عقليا، ولنلاحظ ان الهجوم تم على ثلاث كنائس بشكل متزامن وفي مناطق جغرافية متباينة تحتاج إلى جانٍ متعدد الارواح كي ينجزها في ساعة واحدة. تحتاج إلى جنّي يلبس طاقية الإخفاء كي يتحرك بسيفين ليدخل حتى عمق الكنيسة تحت أعين قوات الشرطة التي تحاصر الكنائس في مثل تلك المناسبات وبدونها. يدخل الجاني ليقتل ثم يخرج سالما ليركب الترام الذي كثيرا ما يقف في إشارات ومحطات، ثم يدخل الكنيسة التي تليها فيشهر سيوفه وهكذا إلى مكان آخر، المشكلة ان النظام، مع تصاعد وتيرة الغضب القبطي في جنازة القتيل الاول، وقف جنوده الاشاوس ـ وتشهد على ذلك صور موقع ال بي بي سي ـ على غير عادتهم موقف المتفرج المحايد من إقتتال دام جرى من شارع إلى آخر بين جموع المنتفضين لحماية الشرف الاسلامي في مواجهة ما أسموه بتلكك المسيحيين. لسان حال النظام ممثلاً في طلعة وزير داخليته يقول: ليس على المجنون حرج. نعم مجنون واحد اضطرت أمه أن تعترف بجنونه الموسمي في كل أبريل من كل عام. النكتة هنا يدافع عنها ملايين المسلمين بشماتة التواطؤ الشعبي مع الكذب الحكومي الساذج، خاصة وأن أعداد القضايا التي يرتكبها مجانين في إزدياد هذا العام تحديداً.هكذا تتحول قضية إحتقان طائفي يغتذي من أوضاع إقتصادية وسياسية خانقة إلى فعلة مجنون لا حرج عليه. ولتطنطن الابواق بأن مصر مستهدفة و"تحيا الوحدة الوطنية"، وباقي الاوبشن التلفزيوني الشهير مثل عاش الهلال مع الصليب وقبل اللحى البيضاء والسوداء على خلفية أغنية "تبقي انت أكيد ف مصر" وكل سنة والفتنة نائمة وتبّت يدا من أشعلها. المصيبة أن لا أحد يقدر على البوح بما هو مسكوت عنه ومسموع يومياً من ألف مئذنة تصف المسيحيين بالكفرة.هكذا تعلم الحكومة العاقلة التي تحكم شعباً يفخر بجنونه أنه كلما أشعل مجنون فتيلا تجد مبررا لمدّ حالة قانون الطوارئ الذي علت أصوات مؤخراً بضرورة إلغائه. المجنون هنا هو حلها السحري القادر على إعادة اللعبة إلى نقطة الصفر، أما حالة التلخيص المدهش لصورة مجتمع عن نفسه فحدث ولا حرج. فإستعارة صاحب المقهى قابلة للمط لتشمل مجمل علاقة النظام بملف الاقباط، صاحب المقهى يظل دائماً، كما في الافلام العربية فترة السبعينات، يجلس على صندوق الماركات الذي يحاسب صبيه من خلاله على مشاريب الزبائن. المجتمع بكامل شرائحه وطوائفه حاضر كزبائن في مقهى الوطن. ربما يسمح صاحب المقهى لزبون ألا يدفع ثمن مشروبه اليوم لكن كله على "النوتة"، إن لم تدفع اليوم فالحساب سيجمع غداً. لقد تجاوز صاحب المقهى مرة لبابا الشعب القبطي (لاحظ تعبير الشعب القبطي الذي تحول إلى لفظ تقليدي في التعليقات الصحافية) إذ سمح له ان يعتكف حتى عودة وفاء قسطنطين إلى أحضان كنيستها، ثم حمى لك صاحب المقهي كنائسك عندما حاصرها شعبه المسلم بعد فضيحة سي دي المسرحية التي تسخر من الاسلام. هكذا عليك مشروبان، لكن الحساب ـ على لغة أهل المقاهي ـ يجمع، وإن لم يعجبك فمع السلامة، ورش ميه، المصيبة ان هذه الصورة الاستعارية المخلة تستطيع أن تطبقها بمدلولاتها المدهشة على مجمل التصاريح الرسمية الصادرة عن النظام في كل مستوياته فيما يخص الموقف القبطي. تحول ملف أقباط المهجر الحرج بين صاحب المقهى والحكومة الامريكية إلى زلة لسان يحاسب عليها الاقباط جماهيرياً وسياسياً مع تصاعد الغضب الشعبي ـ فقط ـ من الممارسات الامريكية في المنطقة. وهي الورقة التي طالما إستغلها البابا شنودة في الانفراد بملف شعبه حين يحل ميعاد كشف الحساب الموسمي مع صاحب المقهى. بعض بنود كشف الحساب تخضع للتخفيض، فالحزب الوطني لم يعط للاقباط "كوتا" نيابية بعد الانتخابات الاخيرة حتى ولو بالتعيينات التقليدية؛ حركة المحافظين الاخيرة إنخفض تمثيل الاقباط فيها إلى محافظ وحيد محاصر في مكتبه في قنا بعد أن رفض مرؤوسوه العمل تحت وصايته، والمقهى الجديد لمصر المستقبل ربما يديره الاخوان لا محالة. على البابا إذاً أن يتحضر هو وشعبه لفترة هروب إلى اديرة الصحراء على شاكلة تاريخهم في فترة القهر الروماني. لابديل إلا تحمل فاتورة الحساب في موسم المزايدة الدينية والتنافس بين الدولة وخصومها الاخوان على إسلامية المقهى والدعاء بوقوع أخف البلاءين.عند كل تفاوض دائماً ما تكون هناك مغالطة ما للتنصل من الحسابات المتراكمة، وغالباً ما يلجأ من يستحق الدفع لطرفه إلى المبالغة بحساب خدمة فوائد الدين المؤجل. هذه المرة، وبالإسكندرية، دفع كل زبائن الوطن فاتورة مضاعفة، إثنين من القتلى وعدداً كبيراً من المصابين وتربص مستعراً إستعداداً لنوبة جنون جديدة، بينما المقامرون على مقهى الوطن يتزايدون ويرفعون الرهانات إلى مستوى الدماء. لاسبيل إلى العودة فيما ترتفع الاسوار حول الجميع، وتسود مفاهيم البقاء للأقوى. تتحول النكتة من فعل للتسرية والتنفيس إلى كابوس مفزع، كابوس يشبه تلك النكتة: في طائرة الرئاسة يطلب قائد الطائرة تخفيف العدد لضرورات الامان، يلجأ الرئيس إلى التضحية بأكبر الوزراء سناً، لكن المشكلة لاتحل، وهكذا يتخلص الرئيس من وزير تلو الآخر حتى لايتبقى غيره وكل من شيخ الازهر والبابا، عندها يحذر البابا الرئيس من مغبة التضحية به لأنه أقلية، ينظر الرئيس لكلا القيادتين الدينيتين ويقترح أن يسأل كل منهما سؤالاً يحدد من الاجدر بالبقاء فيوافقا، يسأل الرئيس شيخ الازهر: ما هي بلد المليون شهيد؟ فيجيب الشيخ: الجزائر، يلتفت إلي البابا سائلاً: ما هي أسماؤهم؟