سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الأربعاء، ديسمبر ٢٧، ٢٠٠٦

بروس لي الحارة الذي يستعد لقتلنا



بروس لي الحارة الذي يستعد لقتلنامنذ سبعة عشر عاماً سقطت الأذن المقطوعة فحل صمت مريب

كان أيمن قد سبقنا بعام الى المدرسة الثانوية، ترافق ذلك مع نمو الشارب الخفيف والمحاولات الدؤوب لاستنبات اللحى باستعارة ماكينات حلاقة الآباء. كان أيمن أفقرنا، ولا يعني الفقر في تلك الأيام من شتاء العام 1989، معياراً نسبياً للأشخاص، كان أيمن يحتل تلك الدرجة من الفقر التي لا تسمح له بالتباهي الطويل بملابس العيد، كان أبوه خضرياً مطروداً من نعيم آبائنا المتمرغين في تراب الميري الحكومي والذي يسمح معاشه المتوقع في أيام كانت كلمة حكومة لها شنّة ورنّة ببعض من المزايا التي لا تتوافر للأُجرية من أمثال أبو أمين، فيما امتاز أيمن عن كل أبناء جيله بقدرته على تطوير إدمانه المخيف لمشاهدة أفلام بروس لي وجاكي شان الى إدمان من نوع آخر فبعد أن اجتذبته جماعة السنية ـ هكذا كنا نطلق على رواد زوايا الجماعات الإسلامية في مساجد حينا التي تضاعفت فجأة ـ اختفى أيمن إجازة الصيف بكامله وعرفنا من بعض صيّع المنطقة انهم يشاهدونه مع مجموعة من الشباب في حديقة ميدان المطرية يرتدون "الترايننغ سوت" ويتدربون على رياضة جديدة اسمها الكونغ فو، بالطبع كان اسمها الصيني أكثر جاذبية من رياضة الكاراتية التي جذبت بعض أبناء جيلنا وبقي تهذيبها الشديد كرياضة والذي تتطلب احتراماً للقواعد والخصوم منفراً لأحلامنا كمراهقين يريدون أن يطيروا بأرجلهم وأيديهم لينطحوا السماء ـ كنت شخصياً قد مارست الكاراتيه لصيف كامل ومللت مصطلحات المواشي غيري والكاته وتهذيب مدربي ـ لذا بدت الكلمة الصينية والملابس السوداء والعصابات على الوجوه واستخدام العصا والفرامانش ـ خشبية غليظة موصولة بجنزير حديدي وتطوح بها اليد في وجوه الأعداء ـ بالاضافة الى غواية تقليد النجوم الطائرة في فضاء الأفيش، بدت كلها كأنها طقس تعميدي للمراهقة ندخل منه عالم الفتوة، لا تتطلب تلك الرياضة جسداً مفتولاً لا بل ربما تعد النحافة إمتيازاً فيها. لذا بقي أيمن بجلبابه الباكستاني وشورته الشرعي الطويل وشنطة ظهره التي تحمل الفارامانش أملا لكل المرتحلين من مدرستنا الاعدادية الى مدرسة ابن خلدون الثانوية. كان أيمن قد سبقنا الى هناك بفرامانشه وكندورته الصينية وعصابة الرأس لكننا حين وصلنا الى المدرسة لم نلتق أيمن في أول أيام الدراسة، كانت أمه قد جاءت بجلبابها الأسود تبكي لمدير المدرسة القاسي الذي استقبلنا بكرباج سوداني في أول الصباحات، جاءت تبكيه ولدها الذي جاءت المباحث ليلاً لتأخذه قبل صلاة الفجر بقليل، في تلك الأيام كنا نلاحظ نحن طلبة الصف الأول الثانوي عربة البوكس الرابضة منذ ا ليوم الأول أمام المدرسة بعد أحداث سمعنا عنها قد جرت في حارة آدم، المتفرعة من شارع صعب صالح القريب، ومفادها أن الجماعة السنية أعلنت أحكام الطوارئ بحي عين شمس وطبقت الشريعة الإسلامية بشارع إبراهيم عبد الرازق، ما سمعناه عن تطبيق الشريعة كان دلق بعض ماء النار على وجوه بعض غير المحجبات، وحرق بعض المحلات التي تبيع البيرة، وسرقة بعض محلات الذهب التي يملكها النصارى، وبعد انفرادهم بالحي لشهرين اقتحمت قوات الأمن مربع الشوارع المحررة إسلامياً بكوماندور قوات الأمن وحاصرت مسجد آدم الشهير ليومين وأوقعت كثيرين بين قتلى وجرحى ومقبوض عليهم، ويقال إن مقاومة الأخوة امتدت من بيت لبيت بالسلاح الناري والأبيض وأن قوات الأمن فوجئت بالقدرات غير العادية في الاشتباكات اليدوية مع شباب الجماعة. إذ كانت كلمة الكونغ فو هي السر، فعبر سنوات طويلة ساهمت الجماعة الإسلامية تحديداً في انتشار تلك اللعبة بين أعضائها. كان مشهد الحدائق التي تتسع للعشرات يمارسون اللعبة أحد مشاهد أواخر الثمانينات التقليدية، لدرجة أن الدولة بعد أزمة جامع آدم وغيرها من المواقع التي استبسل فيها الإسلاميون ألغت ممارسة اللعبة في مراكز الشباب والأندية، بحجة خطورة اللعبة، مما دفع الجماعات لممارستها سراً في الحدائق. في إحدى هذه الحدائق تم اعتقال أيمن في سياق الحملة التمشيطية بعد الأحداث. كان أيمن قد أصبح مدرباً وبطلاً للجمهورية في اللعبة المحظورة عندما أفرجوا عنه بعد ذلك بشهور. اكتسبت لحيته زخماً إضافياً وهجرت وجهه الإبتسامة الى الأبد، أصبحت حصة الألعاب عبئاً أسبوعياً على الجميع، بعد أن اقتسم أيمن ورفاقه الجدد أرضية الملعب الوحيد بقوة اليد ليمارسوا استعراضاتهم، ولنتخيل مدرسة بالكامل تقف مشدوهة على قدم حين يحتلون بمنتهى الصلف بجلاليبهم البيضاء ولحاهم المسدلة نصف أرضية الملعب حتى في فترة الفسحة المدرسية لإحماء أجسادهم وهم يصرخون صرخات القتال، معظمهم كانوا من المتفوقين دراسياً لذا لم يكن غريباً أن يدخلوا جميعاً القسم العلمي، وأتت لحظة الحسم كما تخيلناها لتفريغ تلك الطاقة المكبوتة عندما نشب شجار تافه بين طالبين من سنتنا الدراسية لنرى بأم أعيننا كيف عاقبوا الشاب مخلص، المسيحي البلطجي، عندما سب الدين لأحد الطلاب فيما هو ينزع ملابسه إستعداداً للشجار، اندفع أيمن مخرجاً مع صحبته الفارامانش في ضجيج نحو سبعين طالباً يتشاجرون في فريقين، وأطاحوا بالفريقين يميناً وشمالاً حتى وصلوا الى مخلص الذي سب الدين، أحاطوا به بما يشبه الدائرة وقبل أن يرفع يده بحزام الوسط الذي استله سلاحاً ضربه أيمن بسيف قصير أخرجه من خلف ظهره، فتدحرجت أذنه المقطوعة على الأرض فيما هو يدور حول نفسه بنافورة الدماء التي إنفجرت لتطرطش أرضية الملعب الرملية قبل أن يسقط ملوياً على عنقه ممرغاً وجهه صارخاً. انفضت الساحة فجأة واندفع الأساتذة الذين كثيراً ما استمتعوا بمشاهدة تلك ا لمعارك من خلف أسوار المباني الحديدية متجمهرين حول الضحية، ومع جرس إنتهاء الفسحة الذي دب قاطعاً الصراخ والصمت الذي تلاه، لم نر كيف اختفى أيمن ورفاقه فجأة من المدرسة، كيف خرجوا؟ لا يعلم أحد حتى الآن كيف استطاعوا الخروج من المدرسة، لينقطعوا أياماً وتفشل إدارة المدرسة في الحصول على شاهد واحد لإغلاق القضية التي فتحت مع وصول عربة الاسعاف وبوكس الشرطة. لم يجرؤ طالب مع دموية الانتقام على الشهادة ووصلت الرسالة كاملة، للطلبة والمدرسين والمسيحيين خصوصاً، تحاشينا بعدها حتى الجهر باسم أيمن ونسيناه هو وعصابته. لكنه وبعد أعوام أطل بوجهه علينا في حرم الجامعة، كنا قد عرفنا باعتقاله للمرة الثانية وأنتهينا من ملفه الشائك قبل أن نراه خطيباً مفوها على معرض للاسلاميين في جامعة عين شمس. كانت الجامعة تمور في تلك الفترة بتداعيات أحداث الحرم الإبراهيمي، وكنا طلاباً اشتراكيين وناصريين قد أقمنا معارض وتظاهرات حاشدة لمدة يومين قبل أن نشاهد أغرب المشاهد التاريخية في جامعة عين شمس، حيث فتحت الأبواب على مصراعيها ليدخل مئات بل ألوف الطلبة الذين بدوا من طلعتهم أنهم غرباء على الجامعة، دخلوا صفوفاً تصحبهم مئات المحجبات والمخمرات وعربة نقل تحمل إكسسوار مسرح وسماعات كبيرة وأجهزة صوت، لينتصب مسرح كبير وتعلق يافطات الجماعة الإسلامية عليه ويبدأ مؤتمر لعناصرهم تحت إشراف قوات الأمن. ساعتها صعد أيمن وقد بدا بعلامة السجود علي جبهته زعيماً وفقاً لدرجة سوادها، صعد خطيباً افتتاحياً للمؤتمر، وإنفض فجأة جمهورنا القليل الذي كافحنا لجمعه لمدة يومين لينضم الى الجيوش المحتشدة صفوفاً والتي تطوف الجامعة متشابكة الأيدي في هتاف موحد "إسلامية إسلامية" فيما يرجون الأرض بدبيب أقدامهم التي تحيل المشهد مع باقي إكسسواره من يافطات زرقاء مطبوع عليها كلمة "أعدوا" الى ما يشبه عرضاً لميليشيا فاشية. استفقنا من الصدمة فقط عندما انفصل عن الحشد أربعة صفوف واقتربوا من معرض لوحاتنا الورقية شاهرين عصياً لا نعلم مصدرها وبدأوا في تدمير المعرض وتمزيقه وضرب الواقفين أمامه. تفرقنا تحت حمى العصي فيما الحرس الجامعي (قوات الأمن) يشاهد بتشفٍّ ما يحدث، تفرقنا بعدما أصيب من أصيب وهرب من هرب وتوجهنا الى قيادات الحرس الذين شاهدوا الحدث فواجهتنا تلك الإبتسامات، وضحت تماماً المؤامرة التي تم الترتيب لها بين الأمن والجماعات لاختطاف الحدث والحشد لصالح الجماعات، ومن ثم تفريغه من أي تراكم قد تخلقه القوى السياسية الأخرى. فبعد مرور ساعة واحدة خرجت الحشود من نفس الباب بمسرحها وسماعاتها وألوفها المجيشة وانفض الموقف من تحت أقدامنا، لم أر أيمن من يومها، لكني رأيت أمثاله في كل الأماكن التي حللت بها، وصار أيمن ورفاقه يحيطون بي في العمل والمترو والمطعم وإشارة المرور وعلى شاشة التلفزيون وعلى سلم النقابة، لذا لم يدهشني ذلك المشهد الذي أفزع المصريين منذ أيام عندما احتشد ملثمون في استعراض عسكري لفنون الكونغ فو أمام مكتب رئيس جامعة الأزهر، وهم معصوبو الرؤوس بكلمة "صامدون"، لم يدهشني ذلك على الإطلاق وأعلم تماماً أن اللحظة قادمة لا ريب فيها، عندها سيسدون الشوارع في لحظة الصفر الحقيقية مضرمين النار في اليابس والأخضر، ولن يكونوا ملثمين هذه المرة، ستكون عيونهم مفتوحة باتساع لإقتناص ثمرة نضجت وحان قطافها. ما حدث في جامعة الأزهر هو البداية لعصر ميليشيا انتظرت كثيراً، وصمدت أكثر، وجاء زمنها لتحتل الشوارع.