سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الأربعاء، ديسمبر ٢٧، ٢٠٠٦

نظرة من بعيد على لبنان


نظرة من بعيد على لبنان
السجال السياسي الذي يحيا على أشلاء البارانويا

بتطور وتنامي حمى الجدل السياسي الحادث الآن في لبنان يحرق الجميع، حكومة ومعارضة، بعضاً من أساسيات النقاش الطبيعي والمنطقي حول مجموعة من المبادئ السياسية، ففيما يعلو خطاب الخطوة خطوة الإنفعالي لتجييش القوى وتحفيزها نحو الصدام الأخير والمتوقع، يجري الحديث وأحيانا بدم بارد عن مجموعة من التوافقات التي يتوقعها طرف من الآخر وكأنها دين البعض في رقبة البعض الآخر. مثلاً هناك تلك المئات من الألوف المحتشدة بلا غطاء سياسي مرن يسمح لمحركيها بالمناورة إلا فيما إرتضته سقفاً نهائياً لمطالبها متمثلاً في إسقاط حكومة السيد السنيورة، فيما يتحدث القادة عن ضرورات عدم الصدام، ولنسأل أنفسنا ماذا قدموا من خطط المناورة السياسية التي تسمح لهذه الألوف المتشنجة بالعودة إلى منازلها عند لحظة توافقية مفترضة في التفاوض السياسي؟ لا شيء لقد أطلقو العفريت ولا يملكون أي كلمة سر لإعادته إلى قمقمه، لأنهم ببساطة اعتمدوا التجييش التوتاليتاري الذي يؤمن بعصا الراعي القادرة على لم القطيع وصرفه لمناسبة ولغير مناسبة، فما هو الغطاء السياسي الذي سيمنع تلك الجماهير من أن تحوّل عرسها الديموقراطي الاستعراضي إلى حمام دم ساخن في لحظة إنغلاق الأفق السياسي البديل لسقف المطالب الواسع؟ لا شيء. سيتحوّل الجاني الدافع بجيوشه إلى ساحة رياض الصلح إلى ضحية وشهيد كما ترجموا ذلك في صدامات الشياح؟ ولن يسأل أحد قوى المعارضة عمّا قدمته عملياً لتفادي هذا الصدام المرشح للتصاعد. الإخوة في المعارضة اللبنانية قادرون بذلك على إستلاب مجموعة من الاستعارات من خصومهم لقلبها في مرآة البارانويا وجعلها جزءاً من أسلحتهم، الاحتكام إلى الشارع كما ترجمته في نسختها الأولى إنتفاضة الرابع عشر من آذار بكل معانيها التلقائية ها هي تتساوي مع آلية الزعيم الروحي وإشاراته بنقطة الصفر لتحرك جموعه: الإستقلال من الوصاية السورية ـ عفواً الاحتلال السوري ـ يتحول إلى الإستقلال من حكومة السنيورة، الحديث عن الديموقراطية ـ وياله من حديث مغدور في حسابات المعارضة التشنجية ـ يتحول إلى الحديث عن توافقية على مقاس الرئيس برّي وحلفاؤه، ويسعنا هنا العودة قليلاً إلى نقطة البدء، أين كان التوافق على صيغة الرئيس بري عندما أوكل حزب الله نفسه نيابة عن كل لبنان في حربه الأخيرة؟ ألا يستحق وطن بحجم لبنان توافقاً ولو ضمنيا على حرب ضروس يقودها فصيل محدد نيابياً بفصيل داخل فصائل المعارضة؟ أعتقد أن حديث التوافق هنا أولى بالرئيس السنيورة المخوَّن. ثم هذا البكاء على حليب الديموقراطية المسفوح تحت أقدام فاشية، ألم تأتِ حكومة السنيورة بإنتخابات ديموقراطية لا يستطيع أي من خصومها التشكيك في نزاهتها؟ فأين كانت تلك الجيوش في لحظة الانتخاب اليس وضعها المأزوم بالموالاة الفجّة لسوريا ورجالها هو ما أطاح بها من أغلبية إلى أقلية؟ ثم في مسلسل البكاء على الديموقراطية أليس أولى بلبنان قليلاً من البكاء على قمع حكومة السنيورة كما تفعل القوى الدولية بحكومة حماس المنتخبة ديموقراطياً وهي حليف حزب الله في المقاومة؟ أم أن البكاء على انقلاب الديموقراطية في فلسطين حلال وفي لبنان حرام؟ الديموقراطية هنا في خطاب المعارضة أقرب إلى مطية إبتزازية صالحة فقط للإستخدام البراغماتي، ربما تصلح في مقام ومقال آخر، كما لدينا في مصر مثلاً، والتي لا يستطيع أحد التشكيك في لا ديموقراطية حدث الانتخابات الأخيرة، ومن ثم فثوب المعارضة منطقي حتى لحركة كالأخوان المسلمين الذين لايؤمنون بالديموقراطية أساساً فيما هم ضحاياها الأوائل، لذا لايبدو مستغرباً في هذا السياق ما قاله محمد حبيب، النائب الأول لمرشد الإخوان المسلمين في مصر في حواره مع جريدة "الأخبار" اللبنانية، من حديث تخويني طال مجموعة 14 آذار خالطا عن عمد ـ كعادة فصيله البراغماتية ـ بين حسابات العداء لأميركا ومن أسماهم بالمتحالفين مع أميركا في لبنان، ولم ينسَ في غمرة حديثه التخويني أن يسقط في تناقض تسمية حلفائه في لبنان ممثلين في الجماعة الإسلامية اللبنانية، أحد فصائل السنة الذين تركوا الساحة للتحالف مع كتلة المستقبل السنية، وكأنه يحرض سنّته (الجماعة الإسلامية) على نقض تحالفاتها مع كتلة المستقبل، والكلام هنا خطير حين تمتد أصابع التحالفات الإقليمية لتلعب كعادة الإخوان في دول بعيدة كل البعد عن ملاعب ألعابهم المفتوحة. هكذا بضربة إخوانية واحدة يقوض التحالف السني في لبنان ويعلن تحالفه غير المشروط مع قوى حزب الله وأي عدو لأميركا وحلفائها في المنطقة، إنها الكوميديا السوداء التي تجعل من الإخوان مكفري المذهب الشيعي حلفاءً له بين لحظة وأخرى، وهذه الخلطة من التحالفات التشنجية على أساس عدو عدوي هو الصديق، هي التي تجعل لبنان ساحة فعلية لأياد طويلة عابثة كالأخطبوط تتلوى كيفما تشاء لتصل فقط إلى أهدافها. سوريا وحلفاؤها في لبنان يرهنون وطناً بأكمله كساحة لتفاوض حادث لا محالة مع أميركا والغرب المستعمر، وايران البعيدة هي الأخرى تبحث عن أرض مواجهة بعيدة مع أميركا، والفزاعة الإسرائيلية بدغدغة المشاعر الوطنية تتحوّل إلى وسيلة إبتزاز رخيص. هكذا ينسى حزب الله في جبروت تحولاته كيف تحدث أمينه العام جهارا بعدم تحويل نصره إلى سلاح ضد خصومه، ونسي السيد حسن موافقاته على أسس تفاوض السيد السنيورة حين أشتد الحصار الإسرائيلي بعد إختبائه خلف عباءة تمثيل السيد نبيه بري مراراً وتكراراً، وها هو يعود منتفضاً مخوِّناً كل من شارك في الخروج من أزمة الحرب الأخيرة، ها هو سلاح المقاومة المخبأ بعناية يدور حول نفسه ليقتل رمزيا من حماه، أنا شخصياً صدقت كالعادة السيد حسن نصرالله وتعهداته، وأنا شخصياً ها أنا نادم كل الندم على ذلك التورط العاطفي مع معركة في المخيّلة كنت أتمنى أن ننتصر فيها على خصومنا الحقيقيين، ها هو السلاح نفسه والساحة نفسها تحتشد لتعيد لبنان إلى نقطة الصفر الوطني، فلا شيء يفوق في مذلته أن تكون فرداً في معركة رمزية يجري ابتزال دمك المسال فيها تحت كرسي وعباءة الشيخ الإمام، حنانيك أبا الهادي ألا يستحق الوطن الذي تعبث بأشلائه الآن في قصعة النصر أن يترجل؟ ألا يستحق لبنان بعضاً من التواضع الكربلائي؟ ألا يستحق هذا الوطن يداً ممدودة بالحوار دون أن تخفي اليد المختبئة خلف الظهر خنجراً مشرعا للذبح؟ وأخيراً ألا يستحق هذا الوطن الصغير أن يهنأ مواطنوه ليلاً بنوم خالٍ من الكوابيس؟