سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الأربعاء، يونيو ١٣، ٢٠٠٧

هاني الجويلي وشفرة الأقدار المؤجلة


في خريطة التفاصيل الشخصية ولع حميم ببعض الإكتشافات التي لا نجرؤ، مهما كانت ذاكرتنا مجحفة، على إنكار فضل إكتشافها الأول لناس بعينهم. أناس أدخلونا ذلك الحرم القدسي لمحبة الأشياء الصغيرة التي هي بتراكمها، اللبنة إلى جوار الأخرى تصنع شخصاً نسميه (س) أو (ع)، شخصا نسميه صاحب الخلطة السرية المكونة مثلاً من تفضيل ساراماغو على ماركيز مع محبة لا موضوعية إلى محمد رشدي وأحمد عدوية في الغناء، وعشق فريد لأعمال بليغ حمدي، وتشجيع عصابي لفريق الأهلي، وتفضيل القطارات بفوبيا كاملة كوسيلة للإنتقالات، وميل فطري إلى الأزرق في الملابس، وألف تفصيل دقيق هي الشفرة الشخصية جدا لهذا الشخص تميزه عن باقي الخلطات البشرية الموازية. ووراء كل تفصيل من هذا "الكود" الضخم نستطيع أن ندشن رواية كاملة عن هذا الـ (س) أو (ع). لكن خلف كل شفيرة دقيقة يقف كرستوفر كولومبوس وحيد في أعماق الذاكرة. هو أول من ألقى بمحبة هذا في مسيرة إلتقاطتك لسيرتك الخاصة، ربما ألقاها عرضا أمامك دون نية مبيتة بكمين عشق إجباري، وربما مارس غواية سرية للتلويح بهذا الكشف من بعيد، ثم تركك لتيه محبة وهوس تلك الشفرة لتخلق بها ومعها عالمكما الخاص. وفي قائمة الشرف الكولومبوسي البدائية يقع خليط مشوش مثلاً من الأب والخال وإبن العم الذين أورثوك من الأعماق أكثر الشفيرات صعوبة على التفسير: كرهك مثلا للبامية ومحشي الكرنب بلا سابق تجربة سيئة. ثم تستمر القائمة صعوداً ووضوحاً في أسماء المكتشفين ولحظات الكشف بطريقة أكثر موضوعية. أنت من ناحية أخرى جزء من عالم واسع من الخرائط، تتقاطع لتكون كريستوفر للبعض وتدين للبعض بشعلة بداية الطريق. أياً كانت مواقع هؤلاء الناس الآن من خرائط علاقاتك الواقعية الآنية، وما أجمل تلك التقاطعات حين تواجه كولومبوس أصيلاً فتتبادلا قوائم الإكتشافات بتسليم صيادي الطرائد الأوائل. عندها يندفع أدرينالين الصداقة بتواطؤ أبناء الطوائف السرية حين يجمعهم اللقاء في حفل عام. يبتسمون إبتسامة التمهل فلقاؤهم الحقيقي مؤجل إلى موعد سري قادم جدير بأصول التعارف اللائقة، والتي يغدو تحديد موعدها تحصيل حاصل لا محالة، ليتبادلوا في صفقات دون شروط مقدمة مخزون إكتشافاتهم عن طيب خاطر.تمر الأعوام على كراسي المقاهي والبارات والمنتديات ويغافلك أحيانا ذلك الشح المتبادل فيمن يتبادلون صفقات إكتشافهم بتقطير من يراهنون على حياة بطولها لإدامة متعة التبادل. يوثقون العهود مثلا بإكتشافين أو ثلاثة لا أكثر، ويتبادلون أحياناً النظرات المتفاهمة على إكتشاف عرضي وسط جموع من البشر في دار لعرض السينما مثلاً، أو في حكاية مارة تلوكها الألسن عبر أكواب الشاي على مقهى شامبليون، ليجعلوا من فروق التوقيت وإنشغال المواعيد وتقاطعات الهجر المؤقتة مبررا لميعاد مؤجل ومفتوح حادث لا محالة في يوم قريب لتبادل كل المكتشفات، تاركين للأقدار وحدها ظرف التحكم في طول البعاد، حتي يفاجئك الخبر. قبله بأيام كنا قد تبادلنا حديثا بالصدفة على الحرية، قال لي "مش ناوي بقى تيجي المعرض؟" فرددت دون مواربة "لأ... تعالى نتقابل ونتكلم"، كنا نتبادل هجراً لا معني له منذ عامين، ونتمهل كعادتنا العتاب المردود ونتواطأ عليه بإبتسامة من يدركون أن الميعاد قادم دون شك. هاتفته بعد لقاء الحرية العابر "أنت فين؟" ـ وكأن من حقي بعد كل هذه القطيعة أن أحدثه كزوجة حرون ـ فرد مستسلماً: أنا في الأسكندرية ...مشوار رايح جاي... وراجع بكرة"، فقلت له : "ماتيجي نتقابل"، رد: "تعالي بكرة الساعة 6 على الحرية "، "طب متنساش ال سي دي بتاع المعرض الجديد" هكذا أنهيت المكالمة الكودية القصيرة، متوعدا أياه بجلسة من العتاب والحواديت أخيراً. في اليوم التالي، وللتأكيد على الموعد، إتصلت به في تمام الواحدة. جائني صوت غريب من على الطرف الآخر، صوت مختنق "مين معايا"، قلت له: "أنا هاني درويش ـ بإستغراب ـ هوا مش دا تليفون هاني جويلي؟" صمت ثم كانت المفاجأة: "أيوا هاني جويلي تعيش أنت ... مات"، في السادسة وفي موعدنا المحدد كنت أدفن صياد الطرائد الفوتوغرافية وصديقي العزيز بمقابر العائلة بمدينة 6 أكتوبر.للموت في بلادي ألف إحتمال غير الموت الطبيعي، قد تختارك بالوعة صرف صحي مفتوحة شهيدا مجانيا، أو تصعقك الكهرباء من سلك عار ممدد في ميدان عام، أو تسقط عليك بلكونة في شارع بوسط البلد، أو يدفعك التزاحم جثة تحت عجلات مترو الأنفاق، كل هذا فيما دون الحوادث الكثيرة غير الموثقة بإحصاءات والتي تحصد يومياً جمهوراً لا بأس به من المصريين. وربما تكون محظوظا بشكل ما لتدخل في إحصاء رسمي فتموت مثلاً في قائمة الحرائق الموسمية، أو في عاصفة رملية أو تغدوا رقماً بين مئات المرضى الذين يموتون في ممرات مستشفيات التأمين الصحي بفيروس سي أو الفشل الكلوي. أما لوكنت تسكن في منطقة شعبية مسرطنة الماء والهواء والطعام، فالسرطان السريع ـ لا يتجاوز ظهوره وحملك في النعش مدة الثلاثة أشهر ـ لاإحصاءات كافية عنه. أما هاني فقد دخل بموته رقما في تشريفة الإحصاءات الحديثة عن حوادث الطرق، حيث يموت سنويا من 7 ـ 8 آلاف مصري ما يفوق عدد شهداء مصر في نكسة 1967، بمعني أنه دخل في روليت موت مجاني مصري أصيل يستهدف 1 من كل 10000 مصري. نسبة موت مشرفة للغاية بعيدا عن مجاهيل الإحصاءات. إختار ظلام الطريق الصحراوي بين مصر والأسكندرية والفاصل المعدني القضيبي بين المسارين في الكيلو 45 سيارته ليضمه بضربة عبثية رقما في إحصائه، ولم تقدم تقارير معاينة الشرطة لموقع الحادث إلا روايات متضاربة عن سبب الحادث ومن ثم الموت. هل واجهته عربة من مخالف؟ أم صدمته عربة من الخلف؟ أم إنحرف طوعاً عن الطريق لتأتي النهاية؟ مات هاني على قارعة الطريق وأصيب في بالعربة إصابات منوعة من الغيبوبة إلى الكسور والشروخ. وفي كيس أسود جمعت الشرطة الكاميرا والعدسات واللوحات والفيلترات وبعض المتعلقات الشخصية وسألوا من تسلمها بلهجة شامتة ومتشككة عن أسباب وجود اجانب في سيارة أهم مصور في مصر. ربما إشتم ضباع المخبرين في لحيته البيضاء و شعره البوني تيل و زوجته الشاعرة جيهان عمر وأثنين من المصورين الأجانب (أندريا وبابلو مصوران من بيرو) إحتمال غنيمة إذا ما أتسعت القضية للإشتباه. ربما هو الداء اللاإنساني الطبيعي الذي بات يمثل أداء مثل هذه الطائفة من البشر دون أن يعرفوا أن وجوه زملائهم المكدودين من أفراد الأمن المركزي كان هاني قد أفرد لهم لقطات بديعة في معرضه الأخير "خيط أحمر رفيع"، دون أن يتخيلوا للحظة أن تلك العين التي أغلقت عن محجريها قد إختزنت لسنوات من خلف كاميرا أشجان وأحزان أهلهم من الفقراء المطحونين، هل كانت أيديهم تدرك، وهي ترفع سماعة التليفون لتبلغ إشارة تسجيل الحادث أن عبثهم في بطاقة هؤلاء الضحايا كانت تحتاج لمن يلتقط لها كادرا، الوحيد اللائق لمثل هذه المهمة قد تحول على شفاههم المتثائبة إلى مجرد إسم ماضي. هل يعلمون أنك يا هاني إخترت الأبيض والأسود تحديدا لكل أعمالك لتكرس جنائزية هذه الحياة. وكم من مرة واجهك الموت أو إستنطقته من زوايا الظل في لوحاتك. في الهند حيث سيدتان وقفتا في صلاة جنائزية إخترتهما لي لتؤرقاني في الغدو والإياب كلما مررت أمام مكتبي، في لقطة حفار القبور الذي ماخفت لحظة من أن تلتقط مشعله وهو يرتحل بك لأعماق مقبرة في الليل، في خشوع مصلين بزاوية وهم يصلون الجنازة على ميت غريب.يامن لم تأتِ في ميعادك المؤجل منذ عامين، هل تسمح لي بكشف بعض من صفقاتنا غير المكتملة. ألم أبادلك محبة نصرت فتح على خان مقابل موسيقى البونا فيستا، ألم تقارعني ببيتر جابرييل فقدمت لك ضافر يوسف وشربل روحانا؟. ألن تسمع مواويل عدوية كما أسمع ألان أوكولا أوكولا، هل هكذا تترك الأهلي ينهزم أمام برشلونة؟ ومن سيشاهد معي فيلم كوانتين تارنتينو الجديد؟ من سيلتقط البورتريه الأول لآدم؟ كيف سيكون المشهد إذا ما سافرت إلى أربيل من دونك؟ هل ستترك كأسك هكذا فارغا لننزل في منتصف الليل بحثا عن شيشة ومقهى يفتح أربعاً وعشرين ساعة لنتبادل بعضا من كنوزنا الأثيرة؟هل كانت هناك حكمة ما عندما همست لي منذ شهرين في عزاء أسامة الدناصوري وأنت تحتضنني: إحنا بقينا نشوف بعض في العزا بس والا أيه؟، أعتقد أنني لم أفهمها في وقتها، أعتقد أنني الآن أفهمها.