سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الخميس، نوفمبر ١٥، ٢٠٠٧

حين كان الخطاب الرئاسي مناسبة للفرح العام


حين كان الخطاب الرئاسي مناسبة للفرح العام
والله زمان ياسادات .....ياملك البهججة
هاني درويش
لم أستطع يوما تفسير بكاء أمي الملتاع يوم وفاة الرئيس السادات ، إنقطع الإرسال فجأة ففتحت أمي الراديو وجلست تبكي ، سألتها "مش ياماما السادات دا...اللي حبس بابا " ، فأجابت "بس ياأبني حرام كدا يروح غدر "، مرت سنوات عديدة حتي فهمت مغزي تلك الدمعات القصيرة التي زرفتها في مناسبة كانت جديرة بالزغاريد ، أمي كعادة الشعب المصري في تلك الأيام – وفي كل الأيام حتي الآن- كانت لاتستطيع أن تطبق مقياس معاناتنا الشخصية علي شخصية بحجم الرئيس ، لم تعترف يوما بأن القبض علي أبي تم في عصر السادات ، ولم تفلح محاضرات أبي الكفاحية في إفهامها أن النمو المبالغ فيه لثروة" أم فوزي "الدلالة هي نتاج لسياسات الرئيس المؤمن ، أو أن إزدياد ثروة "أبو تامر" من سفرياته الطويلة لبورسعيد وحضوره بشنط الشامبو ومعجون الأسنان هو تخريب للإقتصاد القومي – لا الوطني طبعا حيث كانت التعبيرات القومية لازالت شائعة - ، لأن أمي السيدة التي لم تأكل من "عنب " الثورة شيئا ، تمنت أن يفلح آخرون في أكل "بلح" الإنفتاح ، حتي لو حقد الحاقدون ، امي لاتختلف كثيرا عن الملايين الذين أحبوا السادات بإخلاص ، رجل إستطاع أن ينقل بلد من مرحلة الخنادق و"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" إلي إنتظار الملايين لخطاباته بأكياس الفول السوداني وأكوام اللب ، فقد كانت خطابات الرئيس المؤمن مناسبة فارقة للضحك من القلب ، ففيما كان ناصر يدفع الناس للخروج إلي الشوارع منتفخي الأوداج ، كان خطاب الرئيس السادات فرصة لإتساع الأشداق والإرتخاء علي الكنب وتمديد السيقان علي إتساعها ، لذا كان طبيعيا أن يكون مادة محببة للكاريكاتير ، بحكم تكوينه الفسيولوجي ولغة جسده الطاغية الحضور وتلوينات صوته ، هذا بعيدا عن تحليل مضمون منتجه الكلامي الذي يمزج بين الغمز واللمز علي طريقة حكائين المصاطب الشعبية ، والرطانة السياسية المشخصنة التي لاتفرق بين الوطن والرئيس ، بين الحاكم المتلبس سمت كبير العائلة المصرية وبين المسافة المفترضة مع جمهور يمثل جسد متباين الأعضاء والوظائف ، خطابات السادات التي كانت أمي تسمعها كانت موجهة إليها ، إلي تلك الحكمة "الفكيكة" التي يتحدث بها أب إلي أبناءه ، يسمح لهم بالسخرية عليه من خلف ظهره ، لكن نحنحته من بير السلم كافية لإسكات الضحك العالي في الدور الثاني ، هكذا كانت أمي تتابع بشغف سخريته من القذافي وبريجينيف في جلسة مجلس الشعب عندما وقف يقول :”..... أظن كلنا شايفين بعينا المحاور اللي بيعملها ...أا أا.....الإتحاد السو ....فيتي ...أا ...أا......وفي الخطاب الأخير..أنا جاي أهوه ..بتاع بريجينيف أاا أاا ... موضح وقايل...وإبتدي يقسم العالم العربي أاا..أأاا ....خلاف التقسيمة بتاعة التصنيف ...بتاع الرجعي والتقدمي ..لأ( بنبرة عالية قاطعة مع رفع اليد) أااا ....أااا بي ...بيقسم التقسيمة بتاعتوه هواه...لأنوه ...أااا...معمر القذافي قال عليه...أا .. (يضم يده وهو يعد كما من يتعلم العد) الملحد ...أاا..أاا ...الكافر ....الإستعمار الجديد ...طيب ( يفتح يده خالية) ...دلوقتي علاقته مع معمر القذافي سمن علي عسل ....طيب ( يضم يده بقائمة إحتمالات) ...ياهل تري..أااا أأأا....معمر هوا اللي قلب..( يشير بإصبعه الكبير لأسفل بينما يتمايل برأسه ) ولا... الإتحاد السوفيتي هوا اللي أآآمن؟.....( يمط رأسه لليمين موجها بصره لشخصية متخيلة وكأنه ينتظر الإجابة منصتا فيما الضحك والتصفيق يتصاعد ... الصورة تنقل ضحكات وإهتزازات الصف الأول من نواب مجلس الشعب فيما نائبه يتأكد من عدد الضاحكين حوله قبل أن يبتسم بتثاقل ثم تعود الكاميرا إلي المنصة ) ...يعني الحقيقة أااا....أأأ ....العملية ...فا ....(صمت ) ".
لااستطيع أن اصف مقدار البسمة التي كانت تعلو وجه أمي في تلك اللحظة ، بسمة أعتقد أن الكثيرون من ابناء هذه الفترة قد شاركوها فيها ، فالسادات رغم حجم النتائج المهولة لسياساته التي ندفع اثمانها حتي الآن إستطاع أن يجمع علي الأقل من الكاريزما نصيب لابأس به ، كاريزما كان يحتاجها شعب مفطور في أباه ، شعب يعلم أنها فرصة الأخ الكبير لملئ عباءة أوسع منه قليلا ، عباءة تحتاج إلي من يقدم إسكتشا هزليا، مثل من يلقي نكتة حارقة في سرادق عزاء كبير ، لذا كان طبيعيا أن تترقرق عيناي كلما تابعت مع أبي جلساته الليلية بجانب كاسيت الثمانينات الشهير ماركة ناشيونال 747 ذا الزرار الأحمر ، بينما في فسح الدراسة نتبادل الشريط الساخر بنكاته الحارقة بصوت ماعرف يومها بالممثل الشاب أحمد ذكي ، الآن أسترشد بخيال صديقي الروائي الجميل ياسر إبراهيم الذي رأي أن "ناصر" كان يمسك بمطواة قرن غزال في جيب بنطاله اليمين فيما هو يلقي خطاب التنحي ، وأحمل كل الإسكتشات الكوميدية للرئيس المؤمن لساعات الكآبة الصافية بحثا عن إبتسامة أمي ، أمي التي لم تري من بعدها خطابا واحدا للرئيس النائب ، ولم يجد أبي موضوعا يصلح للنقاش معها ، تحية لملك البهججة ...وحشتنايا أأاا...أااا يا راجل.