سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

السبت، نوفمبر ٢٤، ٢٠٠٧

في الخلاف بين جويل بينين ورؤوف عباس


رءوف عباس وجويل بنين ...المؤرخ عندما يتلبث سمت الراوي فجأة
عن الهوة العميقة بين مسارات تقاطعت وتوازت وعادت لتصطدم
هاني درويش

لاتدعي تلك المداخلة بأي شكل محاولة البحث عن تقييم جديد إسهام الأكاديمي اليهودي الأمريكي جويل بنين في كتاب " شتات اليهود المصريين" وهو عمل جدير بمساحة أخري آخري غير هذه السطور ، ولا تذهب أيضا إلي الدفاع عن التهم التي وجهها الباحث الأمريكي إلي المؤرخ المصري رءوف عباس فقد أفاض كلاهما في الحديث عن صيرورة علاقتهما الشائكة شخصيا و أكاديميا ، بل هي محاولة لقراءة قضية اخري خبأتها السطور المنفعلة لكلا الطرفين وبدت لقارئ إفتراضي يمثله كاتب هذه السطور قضية خطيرة ، وهي ببساطة كيف يمكن النظر إلي مؤرخين مختلفين النوازع والمناهج العلمية والمسيرات -بما تعنيه من تحولات في البوصلة الحياتية والإيدولوجية- التي تجعل من روايتهما للتاريخ المشترك مساحة لتفجر كل هذه العداءات ، حيث يبدو من الجزء المشترك الوحيد بين الرواتيتين أن كلاهما حمل للطرف الآخر لفترات طويلة تقديرا اكاديميا وإنسانيا تحول بدرجة أو أخري إلي عداء سافر فجرته الغواية الصحفية لزميلنا الصحفي محمد فرج حين ركز – بميل الصحفي أكثر من المحاور – علي نميمة معلوماتية تتعلق بذلك العداء المستتر فكان حواره مع جويل بنين أقرب فعليا إلي رسالة عداء سافرة موجهة إلي رءوف عباس ، فيما كان من المتوقع أن يهتم الحوار أصلا بأفكار الكتاب محل النقاش كما أوهمتنا المقدمة ، وعندما نتحدث هنا عن الغواية الصحفية نتحدث عن آفة حقيقة تتعلق بقدرة المحاور علي مقاومة إغراء المعلومات الفرعية الملتهبة التي تصحفن مادته أمام أسئلة الحوار الأهم بحيث تجرف الأولي الأخيرة ، ولايتبقي فعليا من الحوار غير العناوين البراقة المسطحة ، وبالعودة إلي قراءة روايتي المؤرخين الذين تجرءا فعليا علي تلبث سمت الرواة أخيرا خالطين الأكاديمي بالشخصي ، فمن الواضح من تحليل الشهادتان أن مسار التوافق الأكاديمي والنفسي للمؤرخين شهد لحظات من الود والتعاون ثم سرعان ماتحولت العلاقة إلي كابوس نفسي ومهني بعد أن ورث الطرفان طرقا مختلفة أكاديمية علي خلفية تحولات أيدولوجية موازية ، فرءوف عباس المتعاون عام 1971 مع باحثين إسرائيلين أمريكيين في لحظة المد القومي الزاعق لايقدم تفسيرا تاريخيا واضحا لتلك الأريحية الأكاديمية التي كانت يومها تحتسب تهاونا أيدولوجيا ووطنيا خطيرا ، وحتي مع إحتساب ذلك التأسي الرومانتيكي الذي وصف به المؤرخ المصري زيارة الباحث الأمريكي الذي تجاهل الإشارة لدوره في رسالته الجامعية لايتناسب مع روح " صفقة المؤرخين " التي حدثت في لقاءهما الثاني أواسط الثمانينات – وفقا لشهادة رءوف نفسه علي صفحات البديل - ، كما لاتتناسب تلك اللهجة العدائية المتبادلة – في الحوار والرد عليه – مع إستقبال المؤرخ الأمريكي لزميله المصري في بيته وتقديمه للمجتمع الأكاديمي الأمريكي في زيارة المؤرخ المصري في التسعينيات لأمريكا ، ثمة حلقة مفقودة بين كل ما تقدم وما كشفت عنه البديل في الحوار والرد ، واعتقد أن الهوة الشاسعة تلك لايمكن تفسيرها فقط بما أورده جويل بنين من حادثة معرفة رءوف عباس أن لأسرة الأول إمتدادات في إسرائيل –وهي في إعتقادي معلومة عادية لاتدفع لمثل هذا العداء المفاجئ كما أنها متوقعة – ولا يعود سببها لما فعله رءوف عباس برسائل هنري كوريل كما أكد جويل في حواره ، وأعتقد أن نقطة البدء لفهم هذا التحول ربما تعود لنقطة أقدم وأكثر حساسية من كل هذا ، وهي تحديدا موقف مؤرخي اليسار التقليدين من ميراث " العقدة اليهودية المؤسسة" ، و التي يمثل ذروة إحساسها السيزيفي بالذنب الموقف من هنري كورييل تلك الشخصية المستعصية علي الفهم ، وقد تقاطع المؤرخين المتصارعين تحديدا عندها في صفقتهما الشهيرة ، فقد ورث اليسار التقليدي ميراث مهانة التفسير الأولي الساذج لإشتراكية دولة إسرائيل وفقا لخريطة الطريق الستالينية الشهيرة ، وبات الدفاع عن مصير مشترك لنضال الطبقتين العاملة في كل من مصر وإسرائيل كأداة لحل المشكلة الفلسطينة إحساسا نخبويا يساريا في مواجهة واقع يتجذر فيه العداء بين مصر القومية من جهة وإسرائيل الإستعمارية من جانب ، وبدت ماكينة التبرير الإيدولوجي اليساري معطلة بالكامل عن فهم دولة إسرائيل وطبيعة دورها- اللهم إلا فصيلا يساريا صغيرا- حتي أعطي ذلك الفرصة لناصر ونظامه لضرب الحركة الشيوعية مع صعود مفاهيمه الشيفونية وصدامه الطبيعي مع الدولة العبرية ، وبقي حلم تحرر إسرائيل من الداخل عبر تثوير طبقتها العاملة المتحالفة مع الطبقة العاملة العربية مسيطرا علي مايبدو علي قطاع لابأس منه اليسار الإسرائيلي والمصري علي حد سواء ( لاحظ الإشارة إلي الراحل محمد سيد أحمد ويمكن كذلك تخيل الراحل لطفي الخولي في حوار جويل بنين) ، لكن جماعات المؤرخين اليساريين ذوي الأصول اليهودية وتحديدافي أمريكا إستطاعوا بلورة مفهوم الدولة الواحدة كحل نهائي للقضية الفلسطينية وفقا لمتابعتهم الأكاديمية النظرية من بعيد عن الصراع ، بل وإندمجوا أكثر في المناهج النظرية التي تعيد كتابة المنطقة من وجهة نظر جديدة تعلي من صوت الهامشي في تواريخ المنطقة ويمكن هنا تأمل ذلك التحول الذي قادوه في مجال دراسات الشرق الأوسط بدءا من السبعينيات وصاعدا ويمكن هنا ذكر كل من جويل بنين وزكاري لوكمان ، في الجانب الآخر نحي مؤرخو اليسار إلي إستنهاض مدرسة أقرب للوطنية القومية المصرية للنظر في التاريخ السياسي الحديث ، وهي مدرسة بطبيعتها تتشكك في النظرة الإستشراقية بطبعها ويمثلها هنا رءوف عباس نفسه ، لكن الخط الواصل بين التخصصين كثيرا ما تقاطع وتوازي وتعاون ثم اخيرا إنفصل تماما خاصا مع الهوة النظرية الواسعة التي باتت تتسع بين المنهجين ، أصبح مجال دراسات الشرق الأوسط بدءا من التسعينات يمر بأسؤ أحواله بعد أن ضيقت الحكومات الأمريكية المتعاقبة تمويله وإستسلم كثير من أساتذته للتعامل البرجماتي السياسي اليميني الداعم لربط الأكاديمية بمصالح أمريكا وإسرائيل في المنطقة ، والذي يبدو حاليا جويل بنين أحد دعائمه في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ، في حين أصبح سهلا علي رفاق الأمس ان يروا في حلفاء الأكاديمية اليسارية الأمريكية التقليدية عملاء لإسرائيل ، هكذا يمكن فهم تلك الروح الثأرية المتنامية بين جانبين كثيرا ما تبادلوا الشكوك وجاءت لحظة الحسم لتفجر اللآفا المحتبسة لعشرات السنين ، الأزمة الأخيرة والروايات المتعارضة تثبت أن المؤرخون هم آخر من يحق لهم الرواية فقد إعتادوا منهجيا أن ينتظروا الفترة التاريخية اللازمة لتأمل ظاهرة ما ، لكنهم هنا هم قلب الظاهرة و علي آخرون أن يحكوا عنهم لاحقا .