سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الخميس، نوفمبر ١٥، ٢٠٠٧

تاريخ الإستشراق الذي لم يكن يوما إلا في المخيلة


تاريخ الإستشراق ..الذي لم يكن يوما إلا في المخيلة
المركزية الأوروبية التي يؤكدها بن لادن ورفاقه
هاني درويش

لم يكن الإستشراق يوما إستشراقا ، بمعني أنه لم يكن فيما تعني اللغة إرتحالا من وجهة ثابتة نحو الشرق ، هكذا علق صديق مقرب فيما كنت أناقش معه بعضا من أفكار ذلك الكتاب الساحر " تاريخ الإستشراق وسياساته ..الصراع علي تفسير الشرق الأوسط " لزكاري لوكمان الصادر حديثا من دار الشروق في ترجمة بديعة للباحث السياسي المتميز شريف يونس، أحدد من البداية أنه مناقشة لبعض أفكاره لأن مجمل هذه الرحلة التي يقدمها الأستاذ البارز في قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة نيويورك تمور بالكثير من النقاط التي لابد من التوقف عندها طويلا ، فالكتاب كما يبدو من عنوانه الدال يمثل تاريخا للمصطلح عبر رحلة إكتشاف الغرب للشرق ، وهي الرحلة التي يؤكد المؤلف أنها رحلة ذهنية سافرت في خيالها نحو الشرق أكثر مما سافرت واقعيا إليه ، فالشرق الذي يتحدث عنه زكاري لوكمان ليس مجرد الإسلام، هو أي بقعة خارج مركزية الرؤي الأوروبية للعالم ، مركزية إكتشفت مبكرا موقعها كهوية شبه مميزة في مواجهة الغير الجغرافي مرة ، والغير الديني مرة ، ثم الغير الحضاري مرات ، لذا تبدو الرحلة في تاريخ الإستشراق رحلة في تلافيف العقل الغربي نفسه وهو يحيط قرنا تلو الأخر هويته بذلك السياج من المعرفة بالذات الذي يضع داخله منجز بشري ضخم من الإيجابيات فيما يرمي خلفه مانحا للغير – الآخر – كل مثالب البشر ، وهو ما يجعل الإستشراق أكثر من مجرد بحث يخصنا نحن كموضع لمثالب البشر ، يجعله ساحة مشرعة علي صراع من الهويات التي تحاول إحداها فرض تصوراتها علي الجميع ، وهي التصورات نفسها التي تسللت بخبث شديد حتي إلي داخل نخب من المثقفين واصبحت منطلقا ثابتا لخطاب تمايزهم الفكري في صراعهم مع الآخر ( الإستشراقي).
خطاب المركزية الأوروبية خطاب متأصل في عقل الأوربيين حتي قبل إدراكهم لكونهم أوربيون ، فاليونان القديمة التي قدمت فلسفتها وعلومها وأصبحت ركيزة أساسية في مسيرة تراكم إحساس الأوربيون بمركزيتهم لعبت منذ البداية دورا في تنقية مفهوم الهوية الأوروبية من الأغيار ، لم تعترف يوما بحجم – جاء الإعتراف متأخرا جدا- بأن نموها المضطرد كشعلة حضارية هو نتاج بلورتها لحضارات مابين النهرين والحضارة الفرعونية ، بل إنها مارست نفس الإقصاء المتعمد لجيرانها الأوربيون مرة بإسم متوسطية موقعها بين الشعوب الباردة الجاهلة شمالا والشعوب الحامية الكسولة جنوبا ، ومرات بإسم ديمقراطية نظامها السياسي الذي أكد باحثون كثر لاحقا زيف إدعاءه حين حلل المجتمع اليوناني الطبقي القائم علي ثنائية العبد والحر التاريخية ، ترتحل إذن تلك النواة الصلبة من لحظة اليونان الفارقة أوروبيا لتمارس منذ تلك اللحظة تمحورها عبر التاريخ ككل ثابت فيما كل ماعداها كل ثابت أخر في دونيته ، تأتي المسيحية لتعطي للمسحة الجغرافية الإستعلائية بعدها الديني فتقسم العالم توراتيا إلي أبناء يافث ( الأوربيون) الذين لابد لهم من الإنتصار علي أبناء سام ( في آسيا)وأبناء حام ( في إفريقيا) ، وحتي حين تتنافس أوروبا علي خطاب هويتها ذاته مع غنقسام العالم المسيحي إلي كنيستان إحداهما شرقية وأخري غربية، يتم إلصاق عيوب الشرق المأفون بالكنيسة الشرقية لمجرد مجاورته لهذا الشرق الغرائبي ، ويتحول الفخر الأثيني إلي عيب ومذلة يتم إلصاقهما بالكنيسة الشرقية ليتصاعد نحت التمايز الغرب شرقي حتي في داخل أوروبا ، يتمدد العالم جغرافيا من حول المركزية الجغرافية الأوروبية ويبقي الشرق شرقا حتي مع إكتشاف أعماق آسيا وقلب إفريقيا وظهور البحر المتوسط كبركة صغيرة يتضخم من حولها العالم ، ومع ظهور الإسلام في الجار الشرقي القريب البعيد تستمر مرحلة الجهل العمدي به ، تظهر حتي – كما يوضح زكاري- في التسمية ، ساراسيين أم هاجريين أم إسماعلييين ؟ ، ديانة توحيدية أم ثالوث وثني أم وثنيون اصفياء ؟، حتي من رحلوا إلي هذا العالم بغرض التجارة أو الرحلة قدموا منه بحكايات تثبت غرائبية هذا الجار النامي بإضطراد ، تجعله ذلك الآخر الدوني العجيب في وعي النخب كما في وعي الخطاب الشعبي ، وفيما أوروبا تدخل في غياهب عصورها الوسطي المظلمة وينمو الجار الإسلامي قارعا بصهيل أحصنته وقرقعة سيوفه أبواب مناطق المسيحية في أقاليم الإمبراطورية الرومانية المتحللة ، تبدو الأمبراطورية المسيحية الغربية شامتة في جارتها الشرقية المتحللة بل يري مثقفوا الغرب المسيحي أن في إنتقام الشرق الإسلامي المتخلف من الشرق المسيحي المتخلف هو الآخر معركة بين شرقين متخلفين ، وحتي مع تحور المفهوم الشرقي الفارسي المبهر والسحري لكنه المتخلف من جهة داخل المعني الإسلامي بعد فتح الإسلام للإمبراطورية الفارسية ، تتحول نقائص وعيوب ذلك الفارسي الذائب إلي القيمة الصافية في الحضارة الإسلامية ، يذكر لوكمان كيف أن مثقفي أوروبا الغربية إستصعبوا من البداية إحتساب ذلك المد الإسلامي لخصائص أصيلة في الدين المحمدي ، بل إنهم عزوا التقدم المضطرد في عصر الدولة العباسية مثلا إلي كون ملوكها في الباطن مسيحيون ، وأن ما انجز في عصور النهضة الإسلامية هو ببساطة نتاج حضارة فارس ذات الأصل الآري ، وكأن أوروبا حتي في لحظات ضعفها جعلت أسباب تفوق الشرق مختومة للأسف بمركزية الهوية الأوروبية ، يرتحل لوكمان إذن في نصوص وحوليات وكتب رحلات وتقارير سياسية أوروبية بحثا عن الرتوش المتراكمة عصرا تلو الآخر في صورة الشرق ، التي هي في مرآة الذات الأوروبية نفيا أو إثباتا لصورته عن ذاته ، وتأتي الحملات الصليبية المتتالية نحو الشرق لتربط بين المصالح الدينية الكنسية والمصالح السياسية لأمراء أوروبا بالخيال الشعبي للمواطنين الأوربيون ، حيث جردت الحملة تحت صليب الكنيسة وفقا لما رسمه الرحالة المأخوذين بسحر الشرق بأنهار عسله وذهبه الصافي ونساءه الشبقيات ورجالة قساة القلب علي أرض الحج المسيحي ، إنها الصورة أخيرا المفصلية في عداء بإسم الصليب التقدمي في مواجهة جهالة الشرق الوثني والتي يدفع ذكاري بأنها حكمت الصورة الذهنية الإستعمارية اللاحقة في تعامل أوروبا مع الشرق أو أي شرق آخر سواء في أسيا البعيدة او في إفريقيا المجهولة أو أمريكا المستكشفة بعد عصور ، لكن هزائم الحملات الصليبة لا تمنع أوروبا من إغتصاب مواطن الفخر الشرقي فهاهم ينسجون الأساطير حول صلاح الدين الذي هزمهم ، بل ويقتنصونه من قلب سيرورة الشرق في حكايات شعبية تؤكد أنه إما ولد لأم مسيحية أو أسر بمسيحيته علي فراش الموت ، وهذا الميكانيزم من إنتزاع إيجابيات الآخر لتحسين صورة الذات سيجد أكبر دليل عليه حين تراقب أوروبا آخر ترنيمات البجعة الإسلامية ممثلة في الدولة العثمانية ، حيث التأرجح بين الإعجاب الذي يعزو كل فضائلها لصفات أوروبية أصيلة والتأكيد علي مثالبها التي إكتسبتها بإرتباطها بالدين المحمدي ، فنهضة الدولة العثمانية كما يري الخطاب الإستشراقي كان علي يد العبيد المسيحيون بالولادة المجلوبين من أقاليم التوسع العثماني ، وأن إنهيار الدولة العثمانية جاء مع سيادة العنصر التركي شيئا فشيئا علي تركيبة الدولة،
هنا ومع لحظة النمو لأوروبا الغربية المتمثلة في عصر نهضتها ، حين مالت الإمارات الصغيرة للتوحد في دول قومية وبزغ من قلب المرحلة الإقطاعية التحلل من سلطة الكنيسة وجدت أوروبا نفسها أقرب لبلورة أخيرة لصورتها المثالية ، صورة مفادها أنه بما ان(ننا) أنجزنا المهمة التاريخية بالتقدم والعقلانية فنحن الأولي بسيادة العالم ، جغرافيا تتفتح تحت ضربات السفن التي تلف العالم فتكسر مركزية العلاقة القديمة بشرق محيط لأوروبا – رحلات إكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح والوصول إلي الهند - ، وضربة حظ لمغامر آخر تكتشف العالم الجديد ، هنا يؤكد زكاري لوكمان أن الخطاب الإستشراقي القديم والتقليدي كان ولا يزال أسير ذلك التعميم المدهش الذي يري في الشرق كلا ثابتا جوهرانيا لايتغير بفعل الزمن أو الجغرافيا ، شرق فارسي كان أو إسلامي يجري تلخيصه في معالم ثابتة مثلما يري في نفسه غربا ثابتا ممتد منذ الحضار اليونانية إلي ديمقراطية جورج بوش ، شرق يجري الحديث فيه عن " الشخصية الإسلامية " أو " المسلم " كمفردة تجمع لاتفرق بين حضارات وأقاليم شتي ولغات وثقافات متنوعة ، فيما الغرب نفسه بحدوده الأوروبية النامية والمرتكزة علي مفهوم العرق قبل الديانة يتسع ليشمل متناقضات أوروبا ويوحدها في مصطلح واحد هو الغرب ، هذا الميل إلي التركيز علي نواة صلبة لاتاريخية ومصمتة هو قلب نظرية المركزية الأوروبية المرتحلة منذ قرون ، والتي فيما هي تشكل العالم وفقا لإزدواجات تعميمية مبسطة ، تخلق نقيضها وتبلوره وربما تقنعه بأنه شرق ، وتأتي الحداثة الصناعية والرأسمالية التي صعدت بالغرب لتؤكد هذا التمييز القسري ، ويأتي العلم المكتشف في نهضته الكبري ليدفع بالهوية الأوروبية إلي أقصي تطرفاتها تمايزا ، فطالما إستاطعت أوروبا إنجاز هذه النقلة دون غيرها – دون أن تدري كذلك أنه علي حساب غيرها بالأساس- فهي بالسليقة تحتوي علي صفات نقية دفعتها لإنجاز مشروع الحضارة الحديثة ، وتأتي نظرية التطور لداروين والثورة الصناعية من قبلها لتلعب دورا في تحويل هذا التمايز في المخيلة إلي ثروات كبري ، فبإسم هذا التمايز يساق العبيد من إفريقيا لخدمة التطور الرأسمالي النامي في الأمريكيتين ، وتحت حمي نفس القناعة يجري إقتسام العالم بين الأوربيون ، هكذا يلتحم خطاب الإستشراق بالمصالح الإقتصادية ويتحول من مجرد تراكم في المخيلة الأوروبية إلي أهم أداة في مشروعها لإستعمار العالم ، وللتأكيد علي عمق هذا الخطاب يسلط لوكمان الضؤ علي تخلل هذا الخطاب حتي بين أبناء النزعة الرومانتيكية في خطاب القرن الثامن والتاسع عشر ، فصاحب " روح القوانين " أول من لفت الإنتباه لمصطلح الإستبداد الشرقي ، وجوته في أعماله المهووسة بالروحانية الشرقية – فاوست نموذجا- يكرس لغرائبية وسحر هذا البعيد القصي ، ويقدم كذلك كيف تخلل هذا الخطاب الإستشراقي بني خطاب المفكرين الماديين الجدليين كهيجل وماركس فيما عرف بتخريجة " نمط الإنتاج الآسيوي " التي وجد ماركس أنها أحد أسباب إنجاز مهمة التطور البرجوازي والرأسمالي في أوروبا وصعوبة إنجازها في أسيا أو الشرق ، وهي أكثر المثالب النظرية في الوعي الماركسي الذي بدي يبشر في هذا المنحي بضرورة وأهمية الإستعمار كمخرج لشعوب الشرق من حلقة الإستبداد والموات الإقتصادي السياسي ، ولا يعني إستمرار خطاب التمايز الإستشراقي عبر مراحل التاريخ آلية منضبطة ووحيدة لرؤية الغرب بشكل قاطع فالكاتب يورد أمثلة منذ البدايات لخطاب مواز وإن كان ضعيفا وشاحبا في رؤي الغرب للشرق فيه بعض الموضوعية ، وإن بقي الخط العام لخطاب الإستشراق أبنا للتعميم الأجوف والأكاذيب واللاعلمية ، ومن تشكل مصطلح الإستشراق كمناخ عام لرؤي أورويا عن نفسها إلي ظهور المصطلح بشكل علمي مؤسسي في الجامعات الأوروبية ينتقل لوكمان إلي العصر الحديث الذي إرتبط فيه علم الإستشراق بمصالح السياسة الإستعمارية بشكل مباشر ، وخاصا في العالم الأنجلو ساكسوني ، فإنجلترا حكمت كثير من دول الاشرق وأمريكا تورطت بداية القرن العشرين بمصالحها في نفس الملاعب الجغرافية ، فظهر علم دراسات المناطق في أمريكا أبنا شرعيا لمؤسسان راسمالية كبري أصبحت في أشد الحاجة لمتخصصين في أقاليم الخامات والإستهلاك السلعي ، لذا ليس غريبا أن يكون روكفلر وفورد وكارينجي أساطير الرأسمالية الأمريكية أول من دعموا مراكز الأبحاث لدراسات الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الولي وحتي الآن ، لكن زكاري أيضا يشير إلي حركة المقاومة التي بدأت منذ نهاية الستينيات في تلك المراكز مع تفجر مدارس نقد الإستعمار والمركزية الأوروبية عارجا علي إدوارد سعيد وكثيرا من المناضلين الذين يحاولون مواجهة ذلك المصطلح الظالم لمعظم دول العالم ، وتبدو الأزمة الحقيقية في تأمل هذا الكتاب الذي وجهه الباحث إلي القارئ الأمريكي " العادي " أنه يضع كثيرا من الملح علي جراح القارئ العربي المتخصص ، فكثير مما إحتواه يؤكد أن فيما الغرب يراجع مفهوما مؤبدا عن صورته ننحو نحن في طبعتنا الإسلاماوية والقومية إلي التأكيد علي أن الإسلام والعروبة هوذلك الجوهر الثابت الجامد منذ قرون وكأننا نؤبد ما يفعله بنا الغرب بتصديق الصورة وتطبيقها علي أنفسنا ، خاصا إذا ما عرفنا حجم الهوة التي باتت تضيق بن مار يراه الأخرين عنا وماصرنا نحتفي بدموية أسامة بن لادن علي تصديقه في أنفسنا ، وهو مايؤكد أن خطاب الإستشراق يواجهه خطاب إستغراب لن نجد وقتا بين الحرائق لنقده أو مراجعته ن وهذه هي المصيبة لو عرفنا.