سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الخميس، نوفمبر ١٥، ٢٠٠٧



رمضان ... في الفراغات البينية لعنصري الأمة
الدين لله والقراءة للجميع
هاني درويش

للأستاذ عماد أنطون طلة من شاب مبكرا ، يظر هذا أكثر ما يظهر من خلل توزيع مناطق الشباب والشيخوخة بين أعضاء جسده ، له مثلا ذاك الوجه الذي يحمل شقاء إضطهاد أبناء ديانته منذ خمسة عشر قرنا ، فيما عيناه – في بعض اللحظات النادرة- تشع أحيانا ببريق طفولة أختنقت قسرا ، وحين قابلني فنان تشكيلي وأستاذ في فنون النشر الصحفي كان من دفعة الأستاذ عماد في كلية الفنون ، سألني عنه لابوصفه ذلك المصمم الفني التقليدي الذي يرسم صفحات المجلة بنظرية القص واللصق التقليدية التي إنتهت منذ ثلاين عاما ، بل كان يسألني عنه بحنين أبن الدفعة القديمة لأكثر أبناء جيله موهبا قبل أن ينطفئ عماد بقصة حبه لمسلمة بزواج من متطرفة مسيحية حرمت عليه الفن ومشاهدة التلفزيون رغم فراغ حياتهما الممتدة لبعض وثلاثين عاما من أصوات أخري، لم يمنع ذلك الحصار السيد عماد من أن يبقي علي يده شابة بشعر اسود يعارض بقايا جسده الذي ضرب شعره رماد صامت، أحيانا ما تنفلت يده فيرسم بورتريها غامضا – ربما تذكرا بأيام الموهبة الأولي – لكنه سرعان ما يمزق الوجه البادي التشكل بضربات عنيفة ، ضربات لاتتوافق مع سمته الهادئ وإبتسامته الحجرية اللانهائية ، تلاحظه جالسا بعد إنتهاء يوم العمل منتظرا مديره القمعي في عربته وقد أدار الموتور ليسخنها إنتظارا لحلول رئيسه المباشر الذي إنسحق أمامه منذ عشرين عاما ، هائما في نقطة عمودية فارغة أمامه فيما ادخنة السيارة موديل السبعينات تتصاعد ، عندما دخلت عليه في ثاني أيام رمضان وقد خلت قاعة المصممين وجدته وحيدا يقف في منتصف الحجرة وعلي وجهه علامات بؤس ربما تكون الأصدق منذ شاهدته لأول مرة ، سألته عن الزملاء فرد " كلهم راحوا يفطروا ...رمضان كريم " ، فسألته : وأنت حتعمل أيه؟ ، مالك شكلك متضايق، فرد : مفيش ...رمضان والواحد صايم ، سألته : أنت صايم ياعم عماد؟، إبتسم وقال : آه أصل الواحد بيحب يدخل في الأجواء الروحية دي مع الناس ...أصلي بحب الصيام ، كنت علي وشك ان أرد عليه " مش كفاية أنك بتصوم ثلاثة أرباع العام الصوم المسيحي الأرثوذكسي ، إلا اني تذكرت أن محاولة فك تلك التناقضات بشكل مباشر عادة ما تؤدي لكوارث وإنهيارات ، تركته وأنا المفطر المسلم عائدا إلي غرفتي المجاورة لغرفته وأنا أعلم أن الفاصل الخشبي بين غرفتينا سيسيمح بتواصل الحوار كلا في مخيلته ، ويخاف عماد تحديدا من أمثالي ممن لاملة ولادين لهم كما يسمونني ، لأن أمثالي المتحابين مع فكرة الدين من بعيد لبعيد والمقدرين لأهميته دون السقوط في حبائله لايملك هو أمامهم تبريرا ، وكأن لسان حاله يقوك : اللهم أعني علي أصدقائي – في هذه الحالة أنا - أما أعدائي( أعداء ديني) فأنا كفيل بهم ، أمثالي يوترون المسيحيون لأنهم لا يستطيعون تعريف أي معركة إلا بوجوهها المعروفة ، معركة صامتة تدور بين اي مسلم ومسيحي في الحيز العام ، معركة مفهومة ومشرعة ، لكن عماد أنطون لايعلم كيف يدعي أمثالي عدم التورط فيها أصلا ، لذا يحمل أمثالي أعباء كراهية مضاعفة من عماد أنطون، لأن الأخير يعتقد فيما أحزانه تتوالي أنه شهيد معركة أصيلة فيأتي إليه من خارج الملعب من يمر خفيفا ليهز فكرة المعركة والشهادة من الأساس، يتحد عماد اكثر بصفات عدوه ويراني خارجا عن الطائفة ( المعركة) بوصف المتنازعين في معارك التنابز الديني أبناء معركة واحدة ، حتي لو رفع كل فريق هلاله وصليبه ، حتي لو كانت فرصة الشهر الكريم تفصل في الحيز العام ضمنيا بينهما ، يحاول عماد ومن علي شاكلته التأكيد علي محبة العدو بالإمتزاج به بالصيام مرة ، وبملئ فراغات الصائمين في العمل في إطار " الأجواء الروحية " ، هذا تكنيك تتبعه طائفة واسعة داخل الخندق المسيحي ، فيما تلعب طائفة أخري علي فكرة ان الشهر الكريم فرصة لإبانة التمايز ، في مترو الأنفاق مثلا يفرض الصيام علي المسلمين ملامح عامة ، صرامة وإنهاك ووحدانية وفي معظم الأحيان نفاذ صبر عند اول المنحنيات ، هناك ثمة جفاف مشفوع دائما بكلمة " اللهم أني صائم " والتي لاتكفي وحدها لإطفاء حرائق الإحتكاك اللإرادي بين الناس ، وكأن الصيام يعطي مشروعية كي تتخفف نسبيا لامن ذنوبك وحدها بل وأيضا من حسناتك ، هناك مناخ من الإستعراض العام مناسب للشهر ، رنات الهاتف التي تحمل أدعية دينية وإعادة إكتشاف دعاء "مولاي " للنقشبندي في رنات مجسمة ، أصوات متداخلة من القراءات الجهرية بأصوات منغمة متباكية ، وصمت نوم وتثاؤب وإراحة للروؤس ، وكان الصيام إرتبط بالإنهاك العام ، في موازاة ذلك يظهر المسيحيون في ثوبين ، ثوب يدعي إستمرار المعركة (كما حال عماد أنطون) فينكفئ علي وجهه داخل كتاب ديني مسيحي يمعن في إظهاره للتأكيد علي شرف المعركة وإستمرارها بنفس قانونها الأساسي ، ونصف ينفلت مستوعبا كل الطاقة السلبية من حوله ليحولها إلي تألق في الحيز العام ، يصبح صوت المحادثات العادية التي تحوي ضحكا أو صوتا عاليا أو أريحية في لغة الجسد نغمة كاسرة في فضاء عربات المترو لتثاؤب المنهكين وهمهمات المتبتلين ، وكأن الطاقة قد سحبت بالكامل من جسد العربة لتطل في شرارات كهربية عند أحد الأبواب أو علي مقعد منزوي ، في الحالة الأولي هناك تنابز بالكتيبات والمصاحف في لغة صامتة ، وفي الحالة الثانية هناك كسر لإيهام المعركة بثنائية الحيوية والخمول ، يظهر هذا مثلا في لحظة الإفطار عندما تلاحظ في أنفاق المترو جري الصائمين – دائما من محطات قلب المدينة نحو أطرافها – وتمهل المسيحيين في المشي في الإتجاه العكسي – من محطات الأطراف نحو محطات القلب - ، الصائمين منهكون قد إنتهي يومهم يحاولون اللحاق بمشهد النهاية حول مائدة الطعام ، والمسيحيون متأنقون وكأنهم يستغلون فرصة خلو الشوارع من الناس للظهور متأنقين وقد إستعدو للسهر المبكر ، يتقاطع الطرفان أمام شباك التذاكر مثلا ، من يحاول اللحاق بآخر مترو ، ومن يوسع مكانا بثقة للمتعجل لأنه يستطيع الإنتظار ، من ينتظر خلاء المدينة ليتمدد وحده في ساعات الإفطار الخالية من المارة ، لا يتعجل في دفع التذكرة وكأنه يقدم لجسد الآخر ( العدو) فرصة الإنفلات كي يتحقق له إنفلاتا موازيا، إزاحة تخرج المجموع ليبقي الهامش مسيطرا ولو لساعتين ، هكذا تعرف لحظة الإفطار مشهد علي عكس الشائع في علاقة الطرفان ، الأقوي ينزوي ويدخل بياتا شتويا ليحيا الأضعف ربيع قصير ، أما عم عماد أنطون الذي يقف وحيدا فهو يعلم أن المعركة لانهائية ، وأن تكنيكه الثابت في إشاعة جو " الدين لله والمجلة للجميع" فهو مناسب كي يبقي لدي الطرفان أوهام أننا أبناء وطن واحد ، ليقول قائل مستلهما حكمة الأيام الخوالي : والله دا كان معانا عم عماد في الشغل ، بيصوم زي المسلمين ، ويتكسف ياكل في رمضان ، وكمان بيدخن في الحمام علشان ميجرحش شعور الصايمين ، ويشيل الشغل عن الناس،وفي الحج يطلب سبحة من اللي جاي من الحجاز " .