سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

السبت، يونيو ٠٧، ٢٠٠٨

نساء بيروت(2)


هوامش عـلـى يوميات حملة "حزب الـلـه" الـمـسـلحة عـلى بـيروت (2 من 2)

وجود المدنيين اعتداء سافر على عصمة السلاح و"أمة" الحرب الدائمة

حلقة ثانية من هذه اليوميات. وهي تنقل لحظات من حياة كثيرين من سكان المدينة وهواجسهم وخوفهم نهار الخميس 8 أيار وليله، بعد المؤتمر الصحافي للسيد حسن نصرالله.

الخميس 8 ايار

-6-

روت المرأة التي كانت وطفلتيها في عداد الاسر الهاربة من بيوتها مرتاعة من بدايات انتشار مسلحي "حزب الله" وحركة "امل" في حيّهم البيروتي الهادىء صبيحة اضراب نهار الاربعاء 7 ايار الجاري، ان نوبة من الرعب اصابتها فيما كان السيد حسن نصرالله يطلق تهديداته الحربية في اطلالته التلفزيونية بعد ظهر الخميس 8 ايار.

كثيرون كانوا يشاهدونه ويستمعون اليه في صالون منزل اهل زوجها، غير بعيد من الحي الذي تسكنه وفرّت منه بعدما تسلّلت اليه طلائع المسلحين القادمين من حي اللجا وزقاق البلاط والبسطا التحتا، فكمنوا، صبيحة نهار الاضراب، عند زوايا البنايات وفي مواقف سيارات سكانها، وتمركزوا على السطوح العالية، حاملين اعدتهم الحربية من بنادق رشاشة ومناظير واجهزة اتصال لاسلكية، واحضروا ما يحتاجونه من ذخائر.

في ريبة وخوف ووجوم كان الجالسون في الصالون يستمعون الى السيد نصرالله ويشاهدونه على شاشة التلفزيون، فيما هو يتبسّط في مؤتمره الصحافي، شارحا دور سلاح الاتصالات والاشارة واهميته لمقاومته وانتصاراتها، كأنه استاذ او خبير يحاضر في طلابه الصحافيين، عبر شاشة عملاقة في قاعة مجهولة تحت الارض، فيما كان مسلحو حزبه واعوانهم قد اتخذوا مواقعهم الهجومية في احياء بيروت، منتظرين نهاية محاضرته كي يبدأوا عملياتهم العسكرية في شوارع المدينة.

حين لعلع الرصاص في الخارج البعيد من البيت الذي هربت اليه المرأة، لم تدرك وغيرها من الهاربين والهاربات من بيوتهم صبيحة الاضراب، ان الاحياء التي فروا اليها طالبين الامن والأمان والطمأنينة، سوف يبدأ مسلحو "حزب الله" وغيرهم من شراذم الاحزاب المتخلفة عن ايام الاحتلال السوري، باجتياحها وترويع سكانها، مباشرة بعد انهاء السيد نصرالله كلمته الحربية التي قال فيها انه سيقرن القول بالفعل.

والدة زوج المرأة اياها، كتمت رعبها المغتاظ وتداركته بأن امسكت رأسها بكلتا يديها، وغادرت الصالون الى غرفة النوم. وحين اشتد اطلاق النار في الخارج البعيد، لم تفكر المرأة الهاربة بطفلتيها، سوى بجوازات السفر، متذكرة في اي مكان من بيتها وضعتها، ثم لامت نفسها على عدم احضارها معها قبل مغادرة البيت ظهيرة امس.

-7-

لقد قرن السيد الأمين العام القول بالفعل، فوراً وبلا تردد هذه المرة. والحق ان فعله قد سبق قوله بيوم واحد على الاقل، وبأيام كثيرة يتطلبها الإعداد والتحضير والاستطلاع والاستعداد لعمل عسكري، مهما كان سهلا. وهذا يعني ان المؤتمر الصحافي للسيد لم يكن عملاً اعلامياً ودرساً في تكنولوجيا الإتصالات الحربية، وخطبة للتهديد والوعيد، بل كان عملاً حربيا خالصا، وله وظيفة محددة في مجريات الخطة العسكرية المقررة والموضوعة سلفا لاجتياح بيروت.

لكن صاحب "الجيش السري" والانتصارات الالهية، كان غفورا ورحيماً بمستمعيه ومشاهديه من غير "امته" الخاصة. فهو صارحهم في خطبته الحربية بأن في وسعه اقتيادهم من اسرّتهم الى السجون، او رميهم في البحر، لو اراد. وبما ان العزم على قدر المغفرة، فقد اعفى سيد المقاومة عن "الأمة الضالة" من مستمعيه في بيوتهم، فاكتفى باجتياح احيائهم وترويعهم، لاعادتهم عن ضلالهم الى السراط المستقيم الذي خرجوا عليه، حين قالوا انهم يرغبون ان يعيشوا في مجتمع مدني، اي غير حربي كالمجتمع الذي انشأه لـ"أمته" منذ اواسط ثمانينات القرن الماضي.

غير ان المجتمع المدني والحياة المدنية في أعراف المنظمات العسكرية الثورية اليسارية والاسلامية الأهلية كلها، مدارهما "المشاعر والاحاسيس والمأكولات والمشروبات والمعاملات والميوعة"، على ما بين وضاح شرارة في تعليقه (صحيفة "المستقبل" 30 ايلول 2007) على "كتاب" محاورات مع السيد محمد حسين فضل الله جمعته منى سكرية في عنوان "عن سنوات ومواقف وشخصيات"، ونشرته "دار النهار" سنة 2007. وبما ان مجتمعاً هذه صفاته وحاله، ليس اكثر من مجتمع نساء واطفال في عرف دعاة مجتمع امة القوة والحرب الدائمة، جاز لهؤلاء الدعاة ومريديهم تخليصه من "ميوعته" التي اظهرها المجتمع اللبناني بين اغتيال الرئيس رفيق الحريري و14 آذار 2005. ومنذ ذلك التاريخ، ضاق "حزب الله" ذرعاً وأعيته السبل لاعادة لبنان ومجتمعه الى جادة الصواب. فحتى "نصره الالهي" في حرب "الوعد الصادق" وإقامته مخيمه الحربي في وسط مدينة بيروت لم يقويا على تخليص هذا المجتمع من "ميوعته"، فعمد، في 7 ايار 2008، الى القيام بحملته العسكرية على مدينة "الميوعة"، فاجتاحها تحت انظار وحدات الجيش اللبناني. وهو الجيش الذي قام "حزب الله" وجمهوره باستنزاف طاقته المعنوية والمادية في انتفاضاته الانتقامية الارتدادية المتكرة ضد الحكومة الاستقلالية الأولى بعد جلاء الجيش السوري عن لبنان.

- 8 -

ما أن أنجز "الجيش السري" للحزب مهمته في شوارع المدينة التي قام بمناورة حربية بالذخيرة الحية في أحيائها، حتى سلّم شوارعها لملحقاته ولزمر الرعاع والدهماء من فتيان الشوارع الذين خرجوا من قسوة حميميات حياتهم الأهلية العضوية في محمياتهم الى ديار "الميوعة"، أي ديار الحرب، حاملين العصي، ومتنقلين على دراجاتهم النارية. وهذه صارت من آليات سلاحهم اللوجستي في حروبهم وعراضاتهم الحربية. وقد تبعتهم في العراضة الأخيرة الحاسمة شاحنات "جهاد البناء" حاملة الردم والإطارات المطاطية، لتقطيع أوصال المدينة وحصارها بالحرائق والسواتر الترابية.

فالحزب الذي ولد من رحم الثورة الايرانية الخمينية مسلحاً وشاهراً سلاح مجتمع الهجرة والتهجير والحطام الحربي في وجه بقايا الحياة المدنية ببيروت أواسط الثمانيات، لا يدين لشيء في عمله وأفعاله وقوته لغير السلاح. وهو لم يقم بعمل وفعل ونشاط في مسيرته كلها، إلا وكانت الحرب وحدها نموذجه ومثاله الملهم. حتى إنه جعل "أمته" الطائفية معقلا لمجتمع حربي ناجز، غير مسبوق في تاريخ لبنان والمجتمعات العربية. والحق أن الاعلام الحربي لـ"حزب الله" – وإعلامه حربي كله – وكذلك الناطقون بإسمه وجمهوره، لا يراوغون قط حين يقولون إن ما أقدم عليه حزبهم بين 7 و12 أيار 2008 في شوارع بيروت وفي قضاءي عاليه والشوف، هو "اعتصام مدني" أو "عصيان مدني". فالمدينة والمدني والمدنيّة ليست سوى كلمات – أقنعة لقوة السلاح الذي روّع بيروت في أيام العصيان أو الاعتصام المزعوم. لذا أصدَقَ الإعلامُ الحربي للحزب سامعيه القول، الذي قرنهُ بالفعل. والفعلُ هو السلاح المقدس الذي لا عصمة لشيء سواه، بعدما جعلته حرب "الوعد الصادق"، مع كلمة "المقاومة"، مصدر وجود "أمته" وكينونتها وحياتها وروحها.

أما المدنيون، وهم أصلا هَمَلٌ ونوافلُ مادة بشرية فائضة عن الحاجة في مجتمع أمة الحرب الدائمة، فإن وجودهم وحياتهم وأنفسهم وأعمالهم وسعيهم وأوقاتهم، ليست سوى إعتداء سافر على عصمة السلاح والتكليف الشرعي. وهذا ما قاله حقاً المستشار "السياسي" للأمين العام، الحاج حسين خليل، حين اعتبر أن ما حصل في شوارع بيروت لم يكن سوى اعتداء تعرض له منفذو الاعتصام أو العصيان، فيما هم يوزعون الورود على العابرين. فتباً لأولئك العابرين الجاحدين الذين بادلوا ورود المعتصمين بإطلاق النار عليهم في شوارع المدينة الجاحدة.

وبحسب نائب الامين العام، الشيخ نعيم قاسم الذي استخدم لغة الطب والجراحة، فإن ما قام به المعتصمون، لم يكن سوى عملية جراحية موضعية أو جزئية، لاجتثاث "ميوعة" المدنيين، أي تلك المادة البشرية النافلة في جسم أمة الحرب والسلاح.

-9-

في صمت مستريب حدّق المسلح في وجه المرأة التي عادت الى بيتها لاحضار جوازات السفر لها ولطفلتيها، بعد خطبة السيد الأمين العام الحربية. حين تقدم من سيارتها صامتاً وممتشقاً سلاحه في الموقف تحت البناية، أفزعها صمته وتحديقه الأخرس في وجهها وداخل سيارتها. وربما لأنها شعرت أن الكلام أخفّ وطأة ورعباً عليها من هذا الصمت المسلح، استجمعت بقايا مقدرتها على النطق بلسان شبه متخشب، لتقول له: ماذا تريد، إني آتية الى بيتي؟! فلم يجبها المسلح بغير نظرته الصامتة والسليطة إياها.

من أين أتى هذا الجفاء والجفاف ليتراكما على أثاثات البيت كلها في الساعات القليلة الماضية على مغادرتها إياه في الظهيرة؟ تساءلت المرأة وهي تقف وحيدة ضائعة في الصالون، وماذا أتيت افعل هنا؟ فكرت، فيما هي تدخل الى غرفة النوم، حيث رأت الأغطية منطرحة على السرير، كأنها لم تكن قماشاً لإلفة بشرية.

هل يعلم الذين اجتاحوا المدينة في ساعات أي خواء مديد غرسوه في الاماكن والاشياء والوقت؟ خواء العداوة بين البشر وأشيائهم وأماكنهم وأوقاتهم التي أمضوا سنوات طويلة من حياتهم وأعمارهم وعلاقاتهم في تربية إلفتهم وحميمياتهم فيها، ساعة بساعة، ولحظة بلحظة.

وهل يدرك الذين أطلقوا النار من أسلحتهم دفاعاً السلاح الذي رفعوه الى مصاف الآلهة ويعلمون علم اليقين والقوة أن لا أحد من اللبنانيين يقوى على رفع غير الرأي والكلمة في وجه سلاحهم هذا - هل يدركون أنهم على لحظات الإلفة الحميمة في حياة البشر وعلى الكلمات أطلقوا رصاصهم؟!

فجأة لعلع الرصاص قريباً من بيت المرأة في ذلك المساء، مساء الخميس 8 ايار، فحملت جوازات السفر، وأسرعت في الخروج من بيتها. كان المسلحون منتشرين في مرآب السيارات وفي الشارع الضيق بين البنايات، كأن لم يبقَ أحد في الحي سواهم.

-10-

في بيت أهل زوجها أمضت المرأة الليل مع طفلتيها في الممر الضيق بين الغرف. كان نومهن متقطعاً. الطفلة الصغرى كانت تقول إن ما يوقظها من النوم هو مفرقعات عرس أو احتفال، وترغب في الخروج الى الشرفة، لترى السماء مشعشعة. الطفلة الكبرى تستيقظ مذعورة وتقول إنها تريد العودة الى افريقيا، حيث يعمل والدها، وأمضت العائلة السنة الماضية مقيمة هناك.

بين الساعة الثالثة والخامسة من فجر الجمعة، لم تعد الطفلتان تقويان على النوم. توقفت الكبرى عن الكلام عن افريقيا، متسائلة عن اسباب إطلاقهم النار في الخارج، مستعيدة مشهد المسلح الذي أبصرته صبيحة أمس (الاربعاء) في مدخل بناية خالتها وصعدت الدرج ركضاً حتى الطبقة الثالثة عشرة. كانت تلهث اللهاث نفسه، فيما هي تقول لأمها في الممر الضيق: ماما، ماما قولي لهم أن يوقفوا هذه الاصوات، بليز ماما، ما عاد فيّي اسمع، ما عاد فيّي، ثم تصرخ وهي تسدُّ أذنيها بكفيها الصغيرتين.

محمد أبي سمرا