سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الثلاثاء، أبريل ٢٠، ٢٠١٠

حائك أعمي ينسج ثوب روسيا اليوم مركب العبادة السرية والكراهية الإستعراضية لسيوران


هاني درويش

ليلة بعد ليلة ، وبدءا من الواحدة فجرا، أتابع بدءب أفلاما وثائقية علي قناة روسيا اليوم، القناة الموجهة للعالم العربي بلغته، ولهذه المناسبة تكشفت روسيا عن كنزها الوثائقي الجبار، أمر يبدو أقرب إلي دخول مجرة أخري ، ثبت اخيرا توافر الماء والهواء الصالح للعيش بها، الإتحاد السوفيتي السابق كان يعلم أنه يصنع التاريخ مصورا، وما قرأنها في كتب النضال الشيوعي القديمة ملونا إياه بطاقات الخيال، ينفجر ليلا أمامي صورا تتحرك، مترو موسكو الباذخ، تاريخ الأرميتاج، وكثير من المعارك الحربية الشهيرة التي دارت رحاها خلال الحربين العالميتين.

لا أعلم من أين تأتي هذه الثقة في إستجلاب عجائز تخطوا السبعين والثمانين والتسعين من أعمارهم للحديث كيف قاوموا الدبابة تيجر الألمانية مثلا ،لا زالت ذاكراتهم قادرة علي إحياء وقائع معركة ستالينجراد، رجال ونساء يحملون النياشين ، يركلونهم في حقول خضراء بهية معاصرة، ليتذكروا زمن المقاومة بالأبيض والأسود، الأفلام تبدو للوهلة الأولي وكأنها ليست دعائية فجة، والتاريخ يحرسه العجائز لأطفال ينصتون فتنتقل روح الفخر الروسي الحديثة جيلا فجيل. المدهش أن الجانب الألماني (خاصة فيما يتعلق بالمعارك الشهيرة بين الجيش الهتلري والأحمر) حاضر، بمؤرخيه وجنوده ومادته الفيلمية .

الألمان في تلك المشاهد يبدون متواضعون، وكانهم جلبوا في طقس تطهري ، يتحدثون عن الهزيمة لا بذلك الإحساس الموصوم بالخيبة، بل بموضوعية باردة، الروس يحتفون ويبكون ، عجائز يضعون الزهور علي مقابر شهدائهم، نعم شهداءهم وإن لم يقولوها هكذا، وثمة عقل ناظم جبار يعيد التصالح مع روسيا الشيوعية، يخرج من الرماد فينيق الروح القيصرية الأصيلة.

القناة التي تدخل عامها الثاني، ترسم صورة روسيا الجديدة عن نفسها، صورة من يضرب في خلاط ضخم كل السرديات حتي المتعارض منها لإنتاج نسق ما، نسق يجد الجرأة مثلا في أن يتشاغب أمريكا بشبح الإنفصال عندما تعرض القناة وثائقي عن بقايا قبيلة هندية في الآسكا خارجة عن الإطار الفيدرالي وتطالب بالحكم الذاتي. وثائقيات أخري حديثة تتحدث عن خبايا البحث العلمي الروسي المدهش في مجال التلاعب بالجينات العضوية، وأخري تستعرض تاريخ قادة النبوغ السوفيتي.

أحد تلك الأفلام هو مقابلة طويلة مع أشهر راقصة باليه روسية وهي تدخل عامها الرابع والثمانين، تقيم الآن بين ميونخ وأوكرانيا وموسكو، تحكي من رقصت باليه بحيرة البجع نحو 900 مرة كيف أنها كانت دون جواز سفر(لكونها ثروة قومية يجب حمايتها من نفسها)، كانت تحفة إنسانية محنطة ورقيقة تحملها الدولة السوفيتية إلي رؤساء العالم، ناصر أهدي لها في زيارتها للقاهرة عام 1960 علبة فضية تحوي كارته الخاص، هل كان بالكارت رقم تليفونه مثلا؟ لا تسأل ولا تجيب، تقول أنها لم تجد الكارت لاحقا، لا تتهم أجهزة الحزب الشيوعي الرقابية مثلا أو عمال مطار القاهرة بسرقته، تستعرض فيلما لرحلة سياحية لها عند سفح الهرم، الجمل والخلاء، ثم مادة فيلمية لها وهي ترقص في أوبرا رقصا شرقيا، تقول أنها تحدت أشهر راقصة شرقية في مصر في ذلك العصر، لاتذكر أسمها ، هل هي تحية أم سامية، أم أن مقارعة الكلاسيكية تتطلب فريدة فهمي بطلة فرقة رضا للفنون الشعبية؟ حيث زمن تبادل السلعة الشعبية (الفلكلور) لدولة من العالم الثالث بفخامة البولشوي؟

في فيلم عن تاريخ المترو الموسكوفي الشهير، والذي تزامن عرضه للصدفة البائسة مع تفجيرات محطتي المترو الأخيرتين، لاترد أي إشارة إلي حقيقة تارخية عن إستعمال الآف الأسري الألمان المستعبدين في بناءه، لكن البنيان الضخم للأسطورة التي إنبنت علي عضلات مناضلي الثورة الأوائل يمر طفل عابث ليثقب بالونها بمنتهي البراءة، والطفل اللاهي هو الأرشيف نفسه، يتحدث الفيلم عن لقاء مصمم محطة قصر السوفيتات بالقيادة السياسية في ذلك الوقت، المهندس المعماري كان قد قدم تصميما لأولي المحطات الشهيرة علي هيئة محطة سفلية ذات بهو فرعوني بأعمدة مشابهة لمعبد الكرنك الشهير، يالا سيولة الثقافة في عشرينيات القرن المنصرم، علي أن يبني فوقه ناطحة سحاب يصل إرتفاعها إلي 240 متر هي الأعلي في العالم في ذلك الوقت، وتنتهي الناطحة –ويالا المفارقة التنابزية مع العدو الإستراتيجي- بتمثال للينين، تمثال ضخم ينتهي برأس لينين وقد تحول إلي مكتبة ضخمة للشعب، ونتيجة لضيق ذات يد الثورة تم تنفيذ محطة الأنفاق فقط.

عندما قدم المصمم المعماري تصميم المحطة سألته القيادة السياسية عن اصل تصميمه، فقال لهم أنه قصر الفرعون في مصر، إندهشوا وقالوا له :الفرعون ملك ونحن ليس لدينا لا مملكة ولا إمبراطورية، نحن لدينا الشعب، فتفتق ذهن المصمم وقال: في مصر القصر للفرعون، في روسيا القصر للشعب، وأكاد أسمعه يقهقه، المدهش أن القيادة إقتنعت بهذا النفاق الرخيص (في دولة كانت تمر بمجاعات شهيرة منتصف العشرينيات)، بل وأسمت فنون عمارة كل محطات المترو الباذخة لاحقا بـ"فن عمارة قصور الشعب"!

أنا لا أؤلف شيئا، هذا مايقوله الفيلم حرفيا، طبعا دون القهقهة الإعتراضية من جانبي.

روسيا اليوم أيضا تتباهي بالإستعارة الإيروتيكية الضخمة كل خمس دقائق بإستعراض صواريخها العابرة للقارات، بل وتنتج أفلاما وثائقية عن كيف تصرفت روسيا في عبء تسلح الأمس، وفي أحد أكثر المشاهد بؤسا يتحدث طاقم أحدي بطاريات تلك الصواريخ النووية عن كيف يحافظون علي جاهزيتهم يوما تلو الآخر، وهم منذ أن جلسوا في ذلك المخبأ يستعدون ليوم يعرفون أنه ربما يكون الاخير في حياتهم، يتدربون يوميا علي ضغطة الزر التي قد تحول العالم إلي دمار ، يتدربون علي ضغطة الزر منذ عشرات السنوات في ذلك الصقيع البعيد، تحت الأرض،وهم إلي جانب ذلك مؤمنون بما يفعلون، صرامة وإنضباط في المخيلة، يالبؤس خيال ستانلي كوبريك في فيلمه الشهيرمقارنة بهذه الحقيقة التسجيلية!

يستكمل الفيلم تجواله فيصل إلي قرية توجد بها إحدي الحاضنات القديمة للصواريخ النووية، ظهرت القرية لتخدم علي مايبدو قاعدة الصواريخ المخبأة علي أعماق 40 مترا تحت سطح الأرض، وعندما تم تفكيك الصواريخ تحولت القاعدة إلي مسرح خراب إستولي أهالي القرية علي بقية ديكوره، فهذا إستولي علي الأنابيب الضخمة للصواريخ وحولها إلي أحواض إستحمام، وآخرون صنعوا من طبقات الفولاذ وقضبانها أشكالا خرافية في القرية، وثالث إستأجر القمينة ذاتها وجعلها بيته ، ولنتخيل-وقد عرض الفيلم ذلك- شخص يفتح سطح منزله بزر لتنجلي السماء بعد تحرك قبة ضخمة وصدئة وسوداء.

في كتابه الصادر حديثا عن دار الجمل، يتحدث إيميلي سيوران الشاعر و فيلسوف الشذرات في نص طويل لصديقه الكاتب والفيلسوف الروماني كونستنتين نويكا عن روسيا، تعود الرسالة/ النص إلي سنة 1960، وقد تعرض مستقبل الرسالة إلي الإعتقال بسبب هذه الرسالة تحديدا، الرسالة التي بإسم "روسا وفايروس الحرية" اقتطع منها هذا الجزء البديع:

"لقد هجرت فكرة الإمبراطورية هذا الركن من العالم(أوروبا الغربية)، وكان مقدرا لها أن تجد مناخا مناسبا في روسيا حيث كانت دائما موجودة والحق يقال، خاصة من الناحية الذهنية. بعد سقوط بيزنطة رسخت موسكو في الوعي الأرثودوكسي بوصفها روما الثالثة وريثة المسيحية الحقيقية والإيمان الصحيح، كانت تلك أولي اليقظات المسيحية، وكان لابد لها من إنتظار أيامنا هذه كي تشهد يقظتها الثانية،.....

إن مطامع روسيا في الإنتقال في الانتقال من الأسبقية المهملة إلي الهيمنة الواضحة ليست مبنية علي فراغ.ماذا كان يحل بالعالم الغرب لو أن روسيا لم توقف ولم تمتص الغزو المغولي؟ لقد ظلت خارج التاريخ طيلة قرنين من المهانة والعبودية، بينما أمم الغرب تسمح لنفسها بترف أن ينهش بعضها بعضا. لو أتيح لروسيا أن تتطور دون معوقات لأمكن لها أن تصبح قوة عظمي منذ بداية العصور الحديثة، ولبلغت مابلغته الآن منذ القرن السادس عشر أو السابع عشر. ...،إلا ان في وسع الروس تدارك مافاتهم....حين قامت الماركسية بتأليه التاريخ للحط من مكانة الإله، فهي لم تفعل غير جعل الإله أكثر جاذبية وإستحواذا علي النفوس، ولما كان الدين في قرارة الشعب الروسي، فإن الغلبة ستكون له لامحالة. ثمة أسباب تاريخية ستساهم في ذلك بدرجة كبيرة.

بتينيها الأرثودوكسية عبرت روسيا عن رغبتها في الإنفصال عن الغرب. كانت تلك طريقتها لإثبات ذاتها منذ البداية. ولم يعبر الإنشقاق عن إختلاف مذهبي(مسألة الطبيعيتين التافهة) بقدر ماعبر عن إرادة إثبات الذات إثنيا، وهو إلي رد الفعل القومي أقرب منه إلي المجادلة النظرية...لم يكن الإنشقاق إلا صراع قوميات متنكر، وفيما أتخذ الإصلاح هيئة خلاف عائلي أو فضيحة داخل الغرب،كانت الخصوصية الأرثودوكسية الروسية تطال العمق، وبرفضها الكاثوليكية أعاقت روسيا تطورها وخسرت فرصة أساسية للتحضر بسرعة، لكنها كسبت في الوقت نفسه مزيدا من الكثافة والوحدة، كان من شأن ركودها أن يجعلها مختلفة، مغايرة، وهو ماكانت تطمح إليه، متوقعة دون شك أن الغرب سيندم ذات يوم علي ماتقدم به عليها.

سيكون من شأن روسيا كلما إزدادت قوة أن تزداد وعيا بجذورها، تلك التي سعت الماركسية بشكل ما إلي إبعادها عنها، وبعد جولة قسرية من الكونية ستروس(تصبح روسية) لفائدة الأرثودوكسية. إلا أنها قد تكون من ناحية أخري قد وسمت الماركسية بميسمها حد تحويلها إلي سلافية. كل شعب مهما كان حجمه، ما أن يتبني إيدولوجيا غريبة عن تقاليده، حتي يهضمها ويغير طبيعتها ويميل بها في اتجاه مصيره القومي، ويزورها لفائدته إلي أن يجعلها لاتختلف في شيئ عن عبقريته الخاصة. إنه يمتلك رؤية خاصة به هي بالضرورة مشوهة، وينطلق من خطأ بصري لا يزعجه بقدر ما يرضي غروره ويحفزه، وقد تكون الحقائق التي يتمسك بها خالية من القيمة الموضوعية، لكن ذلك لايمنعها من أن تكون حية وأن تنتج ذلك النوع من الأخطاء الذي يصنع تنوع المشهد التاريخي.

بينما كانت الشعوب الغربية تنهك نفسها في صراعها من اجل الحرية، وتنهك نفسها أكثر في الحرية المكتسبة(فلا شيئ ينهك أكثر من امتلاك الحرية والإفراط فيها)، كان الشعب الروسي يتألم دون أن يجهد نفسه، إذ لا شيئ يستحق إجهاد النفس غير التاريخ. ولما كان قد أطرد من التاريخ فقد توجب عليه أن يتحمل انظمة الاستبداد الصارمة التي مني بها، كان وجوده خاملا نباتيا، لكنه سمح له بتقوية عوده وتنمية طاقته ومراكمة مدخراته والخروج من عبوديته بأقصي مايمكن من المكاسب البيولوجية، وقد ساعدته الأرثودوكسية علي ذلك.

ونعني الأرثودوكسية الشعبية التي افلح بناؤها المثير للإعجاب في إبقائه خارج الأحداث، علي عكس الأرثودوكسية الرسمية التي كانت توجه السلطة ناحية أهداف إمبريالية، كانت الكنيسة الأرثودوكسية ذات وجهين: فقد حرصت من ناحية علي تخدير الجموع، بينما وضعت نفسها من الناحية الأخري في خدمة القياصرة، محفزة طموحاتهم متيحة لهم فتوحات هائلة باسم شعب مستكين. استكانة محمودة بما انها أمنت للروس تفوقهم الراهن، ثمرة تخلفهم التاريخي. ايا كانت مشاريع أوروبا وسواء أكانت لفائدتهم أو ضد مصالحهم فهي لاتدور إلا حولهم. وهي إذ تضعهم في المركز في دائرة اهتمامها أو من دائرة مخاوفهم فإنها تقر لهم بالغلبة الإفتراضية. هو ذا أحد اقدام أحلامهم وقد بات شبه متحقق. وان يتم لهم ذلك عن طريق إيدولوجيا ذات مصدر خارجي(الماركسية) ، لهو أمر يضفي قدرا من المفارقة ومسحة من الطرافة علي نجاحهم. المهم في النهاية أن النظام روسي، وانه راسخ تماما في تقاليد البلاد. إن الشعب علي أي حال لايمثل مجموعة أفكار ونظريات بقدر مايمثل مجموعة هواجس متسلطة.

كي تتأقلم روسيا مع نظام ليبرالي لابد لها من ان تضيع قوتها وان تفقد حيويتها، واكثر من ذلك، أن تخسر سمتها المميزة وان تنسلخ من قوميتها في العمق..ولو نجحت في ذلك إفتراضا عن طريق قفزة مفاجئة ، لتناثرت أشلاء علي الفور. أمم كثيرة تحتاج كي تحافظ علي نفسها وتزدهر إلي جرعة من الرعب.

لم تكتف روسيا مطلقا بالمصائب التافهة سواء تلك التي تسببت فيها أم تلك التي هبطت عليها. وسيكون ذلك شأنها في المستقبل. ستنبطح علي اوروبا بحكم حتمية فيزيائية ، بحكم الدفع الذاتي لكتلتها، بحكم فائض حيويتها المرضية، بحكم تلك العافية التي هي عافيتها، المترعة بغير المتوقع، بالفظاعة والألغاز، المنذورة إلي خدمة رسولية ليست في الحقيقة سوي أصل وتصور مسبق للفتوحات، أما فيما يخص الأمة فغنها لاتجد شرط حياتها إلا في نفسها وليس في مكان آخر:فكيف يمكن لغيرها ان ينقذها؟ تعتقد روسيا دائما ان من حقها تأمين وضع العالم والغرب في المقام الأول.الغرب الذي لم تحمل تجاهه في النهاية شعورا محددا، بقدر ماتنازعها تجاهه الميل والنفور، وغيرة(هي مزيج من العبادة السرية والكراهية الإستعراضية) نابعة من مشهد العفن، المرغوب فيه بقدر خطورته، والذي يغري بالإحتكاك به لكنه يغري أكثر بالهرب منه."

هذا النص الطويل المقتطف من رسالة الفيلسوف الروماني يجمع نثار تلك المشاهد التي قدمتها ويعبر ببلاغة صافية عما تحتويه من مفارقات، فثمة صورة مركبة ومرعبة تشكلها "روسيا اليوم" وهي للأسف لاتخرج عن نبؤة كاتب الرسالة منذ نصف قرن بإنملة، روسيا التي حاولت البرهنة علي أتساقها مع روح الليبرالية الغربية تقدم أشنع المستنسخات، تلك الروح التي تبطن رسالتها الإمبراطورية عبر قرن في صورة ثوب مهلهل، عكف حائك أعمي عليه فوصل ذراع من هنا بياقة من هناك، وبلاغة نص سيوران تتناص مع ماتحيله تغطية القناة المبالغ فيها لأنشطة الكنيسة الروسية، حيث يستقبل بابا روسيا الرئيس ميديفيف دوريا ليتبادلا التطمينات حول تعريف الأمة الروسية الجديدة، شخصيا لم أري من وجه هذه الأمة إلا وجه إليانا، قابلتها في ترانزيت طويل بمطار لارانكا بقبرص بعد اسابيع قليلة من الحادي عشر من سبتمبر، كانت تحتمي ليلا بي من تحرشات رجال الشرطة القبرصيين الذين فهموا مأزقها، جاءت إليانا من دمشق في طائرة الخطوط السورية(دون تأشيرة علي عادة الخارجات من دمشق) علي وعد بتخليص رجال المافيا لها بألف دولار في المطار، كانت قد رحلت من أوكرانيا قبل ذلك بعامين، عملت في بارات سرية لدي متعهد أسمه (أبو أياد) لمدة عامين كي تعيش، فتاة في الحادية والعشرين من عمرها متعلمة وقصيرة بجمال روسي منهك من فرط المضاجعات المبكرة مع رجال قساة، كانت إليانا تجري لثلاث أيام إتصالات مكثفة لتخرج من المطار نحو أوروبا، حلمها يقف خلف بواية العبور البسيطة، لاتحمل بعد كل هذا الإنتهاك الجسدي قيمة التأشيرة السياحية ومهددة بالعودة علي الطائرة الأوكرانية لتبدأ رحلة هروبها من اول السطر، بلغة تشبه لغة مترجمي اللقاءات المباشرة في روسيا اليوم، حيث لا ينطقون حروف الهاء والحاء، حكت لي وهي تدخن بشراهة وعيون مجهدة من السهر كيف تحلم مئات الآلاف من الروسيات بالوصول لنصف ماقطعته في هاذين العامين.

أتخيل إليانا خارجة من تلك القرية البعيدة التي يرسم أهلها فخرهم ببقايا إكسسوار القمينة النووية، أتخيلها لاتصدق جلسات الجدات المثرثرات بمجد ستالينجراد، هكذا تحدث سيوران عن البؤس الروسي، وهكذا شاهدته في لارانكا، ولنكتفي بهذا القدر من بث أكاذيب الفخر الكاذب في وثائقيات روسيا اليوم.