سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الأربعاء، أبريل ٢٨، ٢٠١٠

الحروب الجوالة للأنوثة والذكورة الطائفية في مصر هاني درويش


لايحتاج حمام الكموني قاتل الأقباط السبع ليلة عيد الميلاد إلي علاقة مباشرة بأسرة فتاة فرشوط المسلمة المغتصبة، ولا يفرق بعد الزمان والمكان بين الحادثين لتبرير إنفصالهما عن سياق المواجهة الطائفية المستعرة في مصر، لابد أذن أن يعترف الجميع بذلك أولا حتي يمكن تحليل الحادث المدوي الذي شهدته قنا أقصي صعيد مصر، أما أن تصر الجهات الأمنية والتنفيذية المصرية عن نزع الصفة الطائفية للحادث فهو دفن للرؤوس لا في الرمال لكن في بالوعات المجارير، وبمزيد من الروية يمكن تفكيك الحادث إلي أكثر من زاوية تصلح لفهم ظاهرة العنف الطائفي المتجول الحديثة في مصر.

جغرافيا، تقع قنا في أقصي جنوب مصر، وهي قبليا الأكثر مباهة بجذورها الشريفة الممتدة –وفقا لإدعاءات قبائلها- إلي الرسول، هي في ذلك أكثر جذرية في عصبية الإنتماء للصورة النقية من الإسلام من مجاوريها شمالا في سوهاج وأسيوط وأكثر تعصبا للعروبية البدوية من أسوان جنوبا التي يختلط فيها الدم العربي بالدم النوبي فينتج تسامحا أثنيا جديرا بفتوغرافيا السياحة الشهيرة في بلاد الآثار والسد.

الأشراف، هكذا يطلق علي اللحمة الأساسية للقبائل القيناوية التي تحتضن أقلية مسيحية قديمة ليست بحجم التوازن الحرج شمالها في سوهاج وأسيوط والمنيا (حيث تتقارب النسب بغلبة طبيعية للإسلام) ، ولا بندرة المسيحيين جنوبها بعد تحول النوبيين جميعا للإسلام بعد ثلاثة قرون من الفتح العربي لمصر.

وضع الأقباط في قنا هو أقرب لأقلية مستقرة في عرف رحابة صدر القبائل العربية الكبيرة، هي ليست بذلك الأقلية الحرجة علي خطوط النار كما في أسيوط وسوهاج والمنيا، الوضع الطبيعي للأسر المسيحية القليلة في القلب القناوي هي صورة طقس تتناقله الدراسات الإجتماعية والعرفية لهذه الجغرافيا الإثنية مفادها الإستعارة الزمية التالي:

يخرج كبير العائلة المسيحية المحتضنة من القبيلة العربية في طقس سنوي وهو يسحب حصان شريف العائلة المسلمة في "زفة" تؤكد الولاء والتبعية الإستزلامية، فتتجدد حماية القبيلة المسلمة للأسرة القبطية من عام لآخر، وينتهي الطقس بحفل يقوم فيه القبطي بخدمة ضيوف القبيلة المسلمة بتقديمه بنفسه للطعام والشراب.

هذا الطقس ليس مبالغة إستعارية بل هو مظهر فخر القنائيين حتي الأكثر يسارية وليبرالية منهم علي مقاهي مدينة القاهرة، بمعني آخر، هناك إستقرار ضمني تسليمي في علاقة الأقلية بالأغلبية، وهي مستوعبة داخل أطر السلطات القانونية والأمنية الرسمية، الحزبية منها والأهلية، وبهذه الرعاية العرفية عاش أقباط قنا في مدنها وريفها في إحتكاك أقل دموية من الحادث شمالهم، فلم يسجل تاريخ التفجرات الطائفية في الصعيد منذ منتصف السبعينيات أي جور طال أقباط قنا مقارنة بما حدث شمالها.

ماذا تغير إذن في هذه المعادلة المستقرة، ما الذي يدفع ضميرا جمعيا للتعبير عن صدمته بإختلال التوازن فيطلق بلطجي مسلم النار علي جمهور قبطي غفير ليلة عيدهم؟ لامفر هنا من الحديث عن فرشوط وحادثتها الإستثنائية، حيث إغتصب "أبله" مسيحي- كما بدي في بكاءه أثناء جلسات محاكمته المصورة تلفزيونيا- طفلة مسلمة، وعلي الرغم من إحصاءات الإغتصاب المرتفعة يوميا في مصر، والتحرش الذي أصبح نافلة قول في الشوارع، إلا أن إغتصاب "مسيحي" لـ"مسلمة" عبر بما لايدع مجالا للشك عن خلل تاريخي في خيال تلك العلاقة، فحوادث هروب "مسيحية" مع "مسلم" هي الماستر سين الذي يبلسم العقل الجمعي الشعبي للأغلبية المسلمة، خاصة عندما تحميه معالجة أمنية تميل غالبا إلي حماية "المسلم" الذي تشرعن عقيدته زواجه من مسيحية فيما تحرم الفعل العكسي، أقول هنا أن الحماس الأمني "المدعوم غالبا بحس تمييزي عرفي" لإنهاء مثل تلك الصدامات الطائفية علي خلفية علاقة بين الجنسين، أسس لغبن تاريخي عند الأقباط مفاده أن الأمن غالبا ما يتلكئ في إعادة فتياتهم، بل إنه يحمي غالبا وضمنيا الفعل طالما كان الذكر مسلما، علي الجانب الآخر، شرعن التواطؤ الأمني "حرب خطف الفتيات المسيحيات" وجعل منها حربا إذلالية موسمية للأقباط في صعيد مصر طالما بقت النتيجة محسومة سلفا.

نحن هنا نتحدث عن بنية مستقرة من التكيف الأمني والتنفيذي مع التمييز العرفي ضد الأقباط، بل إن محافظ قنا وهو المسيحي الوحيد في جهاز الحكم االإقليمي لنحو نيف وعشرين محافظة جاء من الأقلية الكاثوليكية داخل الأقلية المسيحية، وبدي الرجل في تصريحاته ملكيا أمنيا أكثر من الملك الأمني حين حمل أقباط فرشوط مسؤلية مذبحة أقباط نجع حمادي!.

لايحتاج إذن بلطجي يستعمله مرشحي الدولة لتقفيل إنتخابات مجلس الشعب لا إلي إذن من أحد ولا لعلاقة مباشرة بالإسلام كي ينفذ جريمته، هو أبن شرعي لهذا المناخ التمييزي التاريخي الذي صدم-علي مايبدو- بـ " جرأة المسيحيين في إغتصاب فرشوط"، هو أبن العدالة الشعبية الصامتة التي إهتز مكيالها، وفيما لم يجد مغتصب فرشوط محاميا واحدا يجرؤ علي الدفاع عنه في أول جلسات محاكمته، سيجد "الكموني" بلا شك ألف محامي للدفاع عن حقه في القتل، أو علي الأقل من ينفي عنه جرم الطائفية متكيفا مع القاعدة التي يراد بها باطل "أن كل متهم برئ حتي تثبت إدانته".

لقد إخترع عنصري الأمة معارك "الأنوثة والذكورة" الجوالة، في ظل رعاية أمنية وفراغ سياسي وإنعدام معايير مواطنة قانونية، والآن جاء وقت الحلقة الأضعف كي ينفلت عقال مؤدبيها، فمن حادثة جنائية عادية تخضع للقانون إلي إنتقام عشوائي طائفي لن يخضع لأي قانون، أللهم إلا رائحة المجارير التي نتنسمها مع كل تقبيل للحي الشيوخ والرهابان في لقاءات التلفزيون الموسمية.