سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الثلاثاء، يناير ٣٠، ٢٠٠٧

النواطير وذئبنة الراعي في المراعي



النواطير وذئبنة الراعي في المراعي
هاني درويش



في أحد مشاهد الفيلم البرازيلي " مدينة الرب" الحائز علي جائزة أوسكار أحسن فيلم وثائقي يسأل المحاور فتي ملثم من أعضاء عصابات المخدرات في أشهر أحياء مدنة سان باولو عن إحساسه في مواجهة شرطي من قوات مكافحة المخدرات المشهورة بفرق الموت ، يبتسم الفتي ويقول " سأقتله وأشعل فيه النار وأنا أدخن سيجارة" هكذا يعبر الطفل عن موقفه النفسي من شرطي يعلم تماما ان خياله الإنتقامي منه قابل للتحقق ، بل ويعلم في سياق صدام الأخيلة أن ضحيته المتخيلة لن تتورع في فعل نفس الشئ به إذا ما إنعكس الوضع ، فالفيلم فيما قبل هذا المشهد وبعده يكرس للآنهائية ميراث الثأر التي تغلف علاقة فقراء ذلك الحي الذي إختار الفيلم تسميته منه وبين رجال الشرطة ، فالحرب بينهما كانت قد إكتسبت فيما هي تتدحرج ككرة النار في هشيم الفقر والمهانة والفساد بعدا فنتازيا حاول الفيلم التستر عليه بموضوعية التعامل الوثائقي لمثل هذه الموضوعات ، أتذكر هذه الحرب فيما أتأمل متتابعات صحفية عديدة ومشاهد تلفزيونية وكليبات سيبرية عن مجموعة من الأحداث التي تؤرخ لبدايات مثل هذه الشرارة من النيران في مصر ، فغير بعيد عن المتابعين تأمل سياقات الإحتجاجات الفردية والشبه جماعية ضد سلطات الشرطة المستفحلة التوحش في الفنرة الأخيرة ، ربما يري البعض فارقا ضخما بين مارصده الفيلم البرازيلي وبين حالات حتي هذه اللحظة لا تعدو مجرد إحتقانات لا ترقي إلي مستوي الظاهرة ، لكن إجابة سائق التاكسي علي سؤال حول علاقته بضباط الشرطة والتي لخصها في جملة " يارب الإرهاب يرجع عشان ينتقم لينا منهم " ربما ترسخ لذلك الإحتقان العنيف ، وليس أكثر من حادثة الأسبوع الماضي دلالة علي ذلك ، حين تفجرت إحتجاجات عنيفية بقرية تابعة لمركز العياط – ضاحية ريفية جنوب الجيزة – علي أثر بداية تركيب محطة تقوية لإحدي شركات المحمول فوق أحد منازلهم ، تصاعد الإحتجاج فما كان من الشرطة التي تحركت في غيبة لأي إحساس بالعقل إلي محاصرة القرية ُثم إقتحامها بجحافل الأمن المركزي موقعا قتيل وعشرات الجرحي ، الأزمة أن الشرطة تحركت لحل خلاف كان أولي به إجراءات قانونية لجهات أخري ، وهي تحركت هذه المرة لصالح تنفيذ مصالح شركة محمول في مواجهة قرية بأكملها ، أو بمعني أدق تحركت العصا فيما يتجاوز حدود إستخداماتها السياسية المتفق عليها لتصبح ببساطة عصا مستأجرة لمصالح كارتيلات إقتصادية تستمتع هي الأخري بقدرتها علي تحريك العصا وقت ما تشاء ، وللأزمة وجه آخر وهو أهالي القرية الذين لم ترهبهم عربات الأمن المركزي عن الدفاع عن حقوقهم حتي مع سقوط ضحايا ، ففي تقرير أذاعه برنامج العاشرة مساءا علي شاشة دريم الفضائية ورغم بكاء أقارب الضحايا أما المستشفي بدي في عيون المتماسكين منهم تلك النظرة – وإن خلت من إبتسامة –لفتي سان بولو ، هذا المشهد لا يكرس فقط إلي حالة سلطة إنفلت عقال قمعها عن حدوده فبات يخشي فعليا ورمزيا من أي تجمهر محبذا العصا علي التفاهمات أو محاولة الإلتفاف – وما أكثره وما أكثر ما قبله المصريون منه في تاريخ تحايلاتهم مع السلطة - ، إنما يكرس أيضا الممارسة الممنهجة للعنف في علاقة الشرطة المواطن والتي غالبا ماتحولت إلي علاقة تميز أداء الترهيب اليومي لحملة الضبابير – أبو ضبورة إسم ضابط نشرته جريدة المصري اليوم لأحد أباطرة التعذيب في منطقة شعبية بالقاهرة – وتتواكب مع جرأة للصحافة والإعلام في تغطية تلك الأحداث في وقت تزايدت فيها الظاهرة بشكل ملفت للإنتباه ، وهي الجرأة التي لا تحسب كنتاج هامش ديمقراطي بات يتسع بقدر ماتحسب للتنامي الغير قابل للإنكار لإنفلات الممارسات الأمنية بشكل غير مسبوق ، ولعل الفساد المتنامي داخل تلك الأجهزة التي كثيرا ما تخفت في ممارسلتها العنيفة في تخصص لبعض إداراتها ، حيث إنفرطت تلك الممارسات لتشمل أي علاقة تجمع مواطن بذوي الملابس السوداء ، فإذا ما ترافق ذلك مع عدم إحترام أخلاقي لتلك الأجهزة بعد أت صعدت من ممارستها الفاسدة في الجباية المالية في بعض المواقع ( تحديدا شرطة المرور سيئة الصيت ) وإندماج الشرائح العليا من تلك الأجهزة في شبكات الفساد المجتمعية التقليدية ( مع رجال الأعمال واصحاب رؤوس الأموال ) وتحلل تلك الرهبة الطبقية التي كثيرا ما حمت أجهزة الشرطة من تشكيك أعدائها في نزاهتها ، فقد بات التشكيك في نزاهة أجهزة الشرطة المترافق مع غباءها المستشري في كافة قطاعتها مثار تندر شرائح كل لمجتمع ، خاصة إذا ما وضع في الإعتبار تنامي ظاهرة جديدة في سلوك تلك الأجهزة يمكن تسميتها بسيولة المعايير القمعية ، فقد عرفت تلك الأجهزة لفترة طويلة حدود إستخدامها لبطشها ، حين راعت طبقية قمعها ، حيث كان مشهد تجاوزها الفاسد لتجاوزات شرائح إقتصادية عليا قانونا للتواطؤ مع تلك الطبقات ، شرائح إحتمت هي الأخري بنفوذها السياسي والطبقي باتت هي الأخري تحت وطأة الترهيب الوحشي والعشوائي للشرطة ، عشرات الحوادث في السنوات الأخيرة تكرس هذه السيولة ، قتل أبن سفير في حي السفارات ( جاردن سيتي ) بحجة الإشتباه ، أو حادثة عماد متعب لاعب المنتخب القومي في منطقة صلاح سالم ، وليس أدل علي ذلك من سحل قاضي خلال إعتصامات القضاة ومشهد الإعتداء الفاحش علس صحفيات أما سلم نقابة الصحفيين ، وهنا لا تفرقة واضحة في معايير القمع بين صوت معارض من داخل تلك الشرائح ،وبين الإعتداء علي مرشد سياحي مثلا في أحد كمائن طريق الغردقة أمام زوجته ، لا فارق بينه وبين عماد الكبير سائق الميكروباص وصاحب فضيحة الإغتصاب الشهيرة التي تحقق فيها النيابة المصرية الآن ، الفارق الوحيد هوبالطبع في درجة وحشية الممارسة القمعية ، الشرطة إستطاعت في الأعوام الأخيرة توسيع سجل عدائها المجتمعي حتي مع الشرائح المنتجة لخطاب ومبرر القمع ، وهو النتاج الطبيعي لتنازع الإرادات والمزايا ، فحين تتورط آلة قمع عمومية ومسيسة في كل خلاف بيني داخل كل شرائح المجتمع بمعايير مزدوجة تجعل حتي من أدني أفرادها ملكا متوجا في سياقه القمعي ، عندما تتحول أداة القمع إلي وسيلة إبتزاز في أي خلاف بين أي طرفين ويصبح فارق الرتبة العسكرية المستجلبة لحسم الخلاف هو الحاسم ، كل ذلك يدفع بجهاز الأمن إلي سطح المجتمع الخشن ، حيث يتحول دون أن يدري مبتكري إيدولوجيته إلي وسيط قمعي فاقد لدوره المركزي ، دوره المتلخص في حماية طبقة في مواجهة طبقات ، ويدفع الشرطة نفسها لتبؤ مكانة الطبقة الإجتماعية ذات الوظيفة الخدمية ،في ذات الساق يمكن تأمل مشهد إنتحار أحد جنود الأمن المركزي بإطلاق النار علي نفسه بعد تعرضه لإهانة عنيفة من ضابطه وهو المشهد الذي بات متكررا داخل تلك الشريحة الدنيا في أسفل السلك القمعي للجهاز ، وبالعودة إلي مسار التقييم المجتمعي لأداء اجهزة الأمن يبدو أن تجييش الفضاء المدني بالعسكرة – راجع مقالة سابقة للكاتب بعنوان العسكرة من أعلي ومن أسفل – فيما أتي بثماره الوظيفية في أمنجة النظام المدني والإداري بكوادر علي المعاش من الجيش والشرطة تولوا مناصب مدنية داخل الدولة وفي المؤسسات الخاصة ، فإنه أدي إلي خروج تلك الطبقة أخيرا لفضاء مفتوح تتصارع فيه هي الأخري مع قوي مجتمعية فأنزلها ذلك من علياء بدت فيه أقرب إلي الطبقة المحمية بالغموض، وربما يبدو ذلك التقييم المجتمعي لأداء النظام الأمني هو ما جعل من مشهد حرق قسم المنتوه في كليب موقع يو تيوب غير مدهش لكثيرين ، فكما هو معروف ان سياقات التمردات الشعبية والفردية من أند الظواهر في مجال البحث الساسي خاصة مع الإعتقاد الشائع بأن لا شيئ يتغير في مصر إلا ان متتالية الأحداث في العامين الماضيين تؤكد عكس ذلك ، ولا يعني هذا التنبؤ المفارق ببلورة تلك الإحتجاجات في شكل هبة منظمة ، بل يعني أكثر ما يعني تحول في المزاج الإحتجاجي نحو عدم الخوف من الشرطة ، أينعم لا زال الخوف مسيطرا علي قطاعات لابأس بها من الطبقات الشعبية ، إلا أن العين أصبحت لأول مرة قادرة علي إدامة النظر في وجه قامعها وتأمله إنتظارا ليوم هو آت لا محالة سيقف فيه المقموع ليشرب سيجارة فيما يشرع في إشعال النار في عدوه.

السبت، يناير ١٣، ٢٠٠٧

فإذا ما مرت عليكم غيمة باردة،حملوها السلام إليه ...أسامة الدناصوري...هل تسمعني


فإذا ما مرت عليكم غيمة باردة، حمّلوها السلام إليه:
أسامة الدناصوري... هل تسمعني؟
المستقبل - الاحد 14 كانون الثاني 2007 - العدد 2501 - نوافذ - صفحة 14
هاني درويش
سأحاول الكتابة مدعياً بعضاً من البرودة كما فعلت سابقاً معه، سأقول مثلاً ذلك الكلام المألوف عنه بأنه كان حمامة سلام الأجيال الأدبية وأمير التسامح مع أكبر كم من الكائنات التي لا ترقى لمستوى الكلمة. سأحاول أن أتجاوز مشهده وهو ممدد قبل الوفاة بساعات وقد امتلأت جغرافيا جسده المتضائل بخراطيم موصولة بشاشات ترصد إنسحاب الحياة بلا خجل، سأقول مثلاً كيف فتح عينيه للحظات وحاولت إبتسامته تجاوز أورام الوجه فخرجت زفرة من صوته المتألم. قبّلته على ركبته المنثنية تحت الكوفيرتا فيما نهاية محجري العينين مخطوط بسيل من الدماء المتجلطة، لم أجد مفراً لنفسي إلا برسم ظل إبتسامة وأنا أردد: أيه يا عم ما أنت بقيت زي الفل أهه، يالله قوم بقى "... فزاغت عيناه للمكان الآخر الذي جاء منه. على الباب قال لي يحيى :تماسك أمال لو شفته من يومين في مستشفى الجمهورية للتأمين الصحي، كان جسمه بيجيب دم من كل حتة، كده الحمد لله بقى كويس".سأحاول مرة أخرى أن أكتب عنك يا أسامة الدناصوري ببعض من البرودة لتوازي بعضا من برودة تلك الليلة. فبعد الزيارة بساعات قليلة وبعد أن هدّأت كلمات يحيى مخاوفي وقللت من حجم الألم المستحق عليك، جاءت مكالمة ياسر عبد اللطيف قبل منتصف الليل بقليل "أسامة تعيش أنت". لم أجد إلا كلمة واحدة بقيت أرددها منذ أن كنت جالساً على الكنبة حتى وصولي إلى مركز القاهرة لأمراض الكلي. كلمة لم أدرك أنني أستعرتها من قاموس أمي الحزين كلما حان فراق أحد الأحبة: "يا حبيبي يا أسامة"، فيما دموعي تنهال كما لم أبكِ في حياتي. أولول فيما أسحب المفاتيح. أولول فيما أرتدي ملابس مرتجلة لتقيني برودة أقسى ليالي شتاء القاهرة هذا العام. أولول بها، بالكلمة: "حبيبي يا أسامة". ولا أعرف حتى الآن كيف قدت السيارة. أمام المستشفى إصطف البعض وعلى درجات السلم تمدد آخرون وفي الممر الضيق كان ياسر وإلى جواره بعض من أقنعة الأطباء المعقمة مرمية على الأرض تشاركها القفازات البلاستيكية مصيرها الخائب. شاش طبي ملوّث وسجائر مطفأة من المنتصف أمام غرفة الجسد الذي كان منذ لحظات أسامة. إستندت الى إطار باب الغرفة وكان هناك قابعاً تحت ملاءة بيضاء شبحاً كالأطفال. كم كان جسده صغيراً ياالله، جسد هو الآن تحت أيدي أمه التي تقرأ القرآن ذاهلة، جسد لا أكثر، لماذا لم يأخذوه وقد ظل عبأ عليه وليتركوا مثلا ضحكته الصافية، أو ليتركوا ظل عينيه التي لذئب طيب. ليأخذوا ما شاءوا وليتركوا مثلاً الصوت العميق الساخر الذي كان يدفع الجميع إلي الإنصات. ليتركوا الصمت الذي يتبع كلماته فيما أوركسترا العقل تندفع للإشتباك مع ما قاله. الموت هذه المرة غيب كل هذا الأثر المدوّخ للقلوب وترك للناس الجسد الخائن. الجسد الذي ما تناسب يوما مع روح مزهرة كروحه. الجسد الذي كان إضافة له في كل حين، وربما لأنه أدرك ذلك كان أكثر الناس خفة في الحضور المادي. يدخل كشبح. وينسحب كشبح، لا يترك أثراً على المقاعد التي أستوي عليها، سيجارته المطفأة من لحظات عند هاشم لم تعاني من آثار الدهس، فاليدان كانتا أرق من أن تتحملا ذنب حياة منطفئة. كانت يداه دقيقتين يلتققان بفتاة من الجيشا، يدان كثيراً ما تأملتهما وهما تعملان بدقة من يصلح ساعات على جسد ورق البفري. وكثيرا ما تخيلته يكتب بهما على ورق صغير وشفاف في حجم قبضة اليد... يتناثر هذا الورق الآن في جيوب معاطفه الطويلة المتأنقة. يدان، وياللمفارقة، يلتقان بطبيب أطفال. كان دائما ما يحتاط بهما من خيانات جسده لهما فتراهما مرتكزتين على ردفيه، أو ممسكتين بمساند المقعد وكأنه على وشك الإقلاع. لكنني قد وعدتكم بقليل من البرودة فها أنا استحضره بصهد غرفة النهاية وأدخنة سجائره البطيئة التمدد. ها أنا أستحضره بتفاصيل اليدين بعد لعنة الأجساد التي طاردته. أنتحدث مثلا عن عذابات الروح وفيها الكثير، منها كونه أكثر المتسامحين مع أضداده من الناس. في العزاء مثلا تمدد صنفان منهما لا يجتمعان إلا في أجندة تليفونات أسامة، متطرفان بحجم تطرف الظاهرة البشرية. لما لا وقد ترك مساحات الوسط العادي لأصحابه الذين يتمددون الآن في وحدات غسل الكلي عبر ربوع القاهرة. هؤلاء العاديون المتصالحون بفخر مع آلام مرض مصر الأول، هؤلاء الذين سيستقبلون خبر أسامة بكثير من الرحمة فيما يسقط أسمه من إحدى الوحدات ليحل فيه من طابور الموتى المستقبليين مرشح جديد. أما من إمتلأت بهم صالة العزاء في عمر مكرم فقد إنتهى الجسر البشري الواصل بين شقاقاتهم اللانهائية. سيعودون لمعارك الخنادق دون نبيل كان يقدم لهم السلوى فيجتمعون عند أطراف مقعده، وكأنه بشطآن تعاطفه الممتدة كان جديراً بزمان آخر. كان جديراً بلغة أخرى. فأحياناً، وأمام معظم قصائده، كنت تتأمل ذلك التدقيق والنحت في لغة تبدو ضيقة على خيال هذا السيميائي. خيال مصفّى ومقطر إلى حدود تدفعك للبحث في ما بين السطور عن ما لم يقل. تدفعك للسؤال كيف فعلها هكذا؟ كيف أحال العادي المجاني من اللغة إلى هذا الشطر؟ وتصدقه، تصدقه في شعر التفعيلة كما بدأ، ثم تؤمن به في قصيدة النثر كما أختار، ثم تؤمن به وهو يحول يوميات مرضه الأخير إلى نثر لا شعر فيه وإن لم يخل من الشاعرية. أسامة الصادق، هكذا كان إذا ما كتب للأسماء أن تكون على مسمى، إذا ماكتب عليه أن يتجاوز مأزق إسمه الذي طارده: دناصوري أم ديناصوري. حتى ديوانه الأول طارده إرتباك التسمية، حراشيف الجهل أم حراشيف الجهم، وكأنه جاء للحياة في سوء فهم كامل. إثنا عشر عاماً من المعاناة وآلآف الليترات من الدماء المغسولة سدّت مسام الجسد الخائن فلم تقبل مدخلا كي تُخرج دماءه للتنظيف، إنسدت المسام فسقط مطر خفيف ذلك المساء لأول مرة هذا العام ربما ليزيل سوء تفاهم مع الحياة إستمر 47 عاماً بالرحيل

الاثنين، يناير ٠٨، ٢٠٠٧

من يعرف أسامة الدناصوري؟


من يعرف أسامة الديناصوري؟
عباس بيضون
من وقت ليس بعيداً أرسل لي أسامة الديناصوري نصا للنشر. لا أعرف ما الذي دعاه الى ذلك. لم يكن ذلك من عادته ولا عادتي، أسامة الذي لا أعرف أين يكون وإن كنت أعرف دائما أني سأجده. ويأتي ويذهب كأنه لم يأت ولم يذهب. ولا أصدق ان هذا هو وأن هذا هو المريض نفسه الذي يغسل كلاه ثلاث مرات أو أربع في الأسبوع. وان هذا هو الشاعر نفسه الذي يبقى شاعرا كتب أو لم يكتب، ولفرط ما يتأخر عن الكتابة تنسى أنه فعلها ذات مرة أو مرتين؟ ولا تعرف اذا كان ما قرأته يستحق اسم أسامة الديناصوري أو لا يستحقه، ثم تنتبه لغرابة أن يكون لامرئ هذا الاسم وان يضعه على ديوان عنوانه «حراشف الجهل»، ولا تفهم عندئذ اذا كان الاسم طفا على العنوان ذي الحراشف أو طفا العنوان على الاسم الديناصوري. ولا تصدق في النهاية ان هذا الاسم لهذا الرجل وان هذا الرجل لهذا الاسم. ثم انك لا تعرف لماذا للمريض هذا الوجه الذي يكاد ان يكون وسيما، أو هو وسيم لكنك لست بصدد وسامته، لا تلاحظها لكنك تتذكر الآن ان لأسامة وجهاً مستوياً، وان لا عوج فيه ولا اختلال، وهذه ليست في الغالب سمة الوجوه. تتذكر ايضا الآن، الآن ليس قبل، ان له عينين زرقاوين وتسأل نفسك الآن: أوصل الأمر الى هذا الحد. هل ان فعلا عينيك زرقاوين. أم انك تختل وتفكر في شخص آخر؟ لكن اسامة مع مرضه وعينيه الزرقاوين وبشعره غير المنظوم شخص آخر بالتأكيد. وتبدأ أنت تحبه وتقدره قبل أن تراه أو تقرأه. فلأمر ما، أسامة الديناصوري رجل لا خلاف عليه في وسط عامر بالخلافات. إيمان وأحمد ومحمد والجميع يودون أسامة ولا بد أن توده أنت كذلك. وتفهم أن الأمر ليس في مرضه رغم انه قد يكون في مرضه. ان أسامة لا بد وجد لهذا المرض بعداً آخر، وانك حين تفكر في مرض اسامة تفكر في هيئته وشعره، الذي كتب، وأهم من ذلك شعره الذي لم يكتب لكنه تحقق بالتأكيد على نحو ما. اذ يخطر ان كل ما شاب اسامة جاءه من الشعر، أو يخطر ان اسامة لا يحتاج الى كتاب ليكون شاعرا. وتتذكر، لكن ماذا تتذكر في رجل قدمه لك الغياب، ماذا تعرف عن رجل قدمه لك المجهول: عينين زرقاوين وثنية في الذقن وابتسامة واهنة وشيئا أبعد من ذلك، نظرة لا تحد وفكرة لا تدرك وشعراً غير منظور. أرسل لي اسامة نصاً. كان عليّ ان أخاف، لكن من يؤكد ان اسامة أرسله فعلا. من يؤكد ان اسامة يفعل أكثر من تسمية هذا الشيء سفرا وبتسمية هذا الشيء عالما وتسمية ذلك الشيء حقيقة. من يؤكد ان اسامة الذي مر دائما بين عالمين كان موجودا حقا في احدهما. أم انه كان يختفي في احدهما عن الآخر، لعله الآن مجرد اختفاء. ثم تنتظر ان يقدمه لنا الغياب والاختفاء من جديد. لا أذكر المرة الأخيرة التي شاهدت فيها اسامة الديناصوري لكن هل لأسامة مرة أولى أو مرة أخيرة، ما دام سؤالنا الاول عن موته، عن صبره على مرضه وهو يرد بأن يقول شيئا عن حياته، يبتسم ويقول ان الأمر ليس شيئا، انه عادي قبيل وفاته. فكر اسامة ايضا في حياته. في هذا الشيء العادي والعادي جدا الذي صنعه، كتب «مذكرات العادي». كان يسمي الموت هكذا، يمدده مكانه على السرير ويتركه يغسل دمه. فيما ينتظر هو في الخارج. كان بورخس يقول نسيني الموت. هو الآخر سلم الموت عماه وعصاه وجعله يتدحرج أمامه. كان اسامة متأكدا من أن الموت نسيه وفي لحظة ضجر كبيرة أمسكه من أذنه ووضعه في التابوت.

إيمان مرسال: لا أريد تصدير وعي ما إلى القارئ



لأنها من ثقافة مختلفة فإن كل تورط لها في الأدب سيكون مختلفاً

عناية جابر
غدت إيمان مرسال مع الوقت شاعرة مكرسة لكن طابعها الفتي، طبع المغامرة الخاصة والحساسية المتفردة والنظر المختلف. هذا الطابع لا يزال يرافقها الى الآن، تتكلم ايمان كما تكتب. تتكلم بعيداً عن أي تحديدات مسبقة او استعراض او ثوروية فارغة او بيانات عالية. لعل هذا ما نسميه احيانا الصدق. في شعرها قد نجد السمة نفسها. إنه شعر لا يتواطأ مع المثير والسائد والمدّعي، بل يبحث عن مقابلة في اعتراف وملاحظة خاصين، إنه التهكم ممزوجاً بالإشفاق ممزوجاً باليوميات المباشرة. لكن هناك ايضا الذكاء والتثقيف غير المعلن ومرة ثانية الإخلاص لما تقوله. مع إيمان كان هذا الحديث.
ما سرّ تميّز تجارب شعرية دون سواها؟ مفارقتها للسائد؟
الثقافة؟ الوضوح؟ من أين يأتي الشعر ولماذا يتميّز هنا أو هناك؟
} لو كنت أعرف لاطمئن قلبي، ربما يكون أقسى وأجمل ما يشكل علاقتنا بالكتابة هو أننا لا نعرف وصفة محددة لجعلها متميزة أو مختلفة أو حتى حية. مع ذلك هناك بصيرة رائقة وحادة يمكن لمسها في كل ما نظنه كتابة متميزة؛ البصيرة ليست وحدها السر النهائي للتميز ولكن سيكون مستحيلاً وجوده بدونها؛ إنها بصمة الكاتب الشخصية التي لا يمكن تقليدها ولا تعميمها حتى لو أصبح شيخ طريقة، هي التي يجب العمل عليها بصبر واحترام وهي التي تستطيع أن تنقل الثقافة من مجرد معرفة خارجية مستقرة إلى عبء ذاتي يشكك بتلك المعرفة التي لا تمنع كل هذا البؤس في العالم، البصيرة هي التي تمد الكاتب ـ في ظني ـ بالشجاعة الكافية ليحتفي باختلافه فلا يمشي في طرق معروف آخرها لأنها صنعت بخطوات آخرين، هي التي تحميه من الانتحار في مواجهة الفشل والتزييف والفوضى وتجعله يعود للكتابة لأنها اختياره وكنزه.
لا أرى في مفارقة السائد أو الوضوح أو الغموض ميزات أو عيوب تخص كتابة ما، ولا أتخيل أن حلم أي كتابة متميزة يكمن في الحرب على بلاغة قديمة ولا في التأسيس لبلاغة جديدة ولا في استقطاب جمهور، لا أظن أن تحقق كتابة متميزة له ارتباط باختيارات تقنية في حد ذاتها؛ بل أتخيل أنه مرتبط ببصيرة تحلم بتأسيس أخلاق شخصية جديدة تكنس كل هذا القمع والكبت والظلم المحيط بها ـ أتمنى ألا يلتبس ما أحاول وصفه بـ«موضوع الكتابة» ولا بـ«دعوتها الأخلاقية» ـ أنا أقصد انحرافاً في رؤية العالم وتورطاً في عدم رضى عنه يحتوي ضمن ما يحتوي اللغة والخيال. طبعاً الكاتب ليس نبياً وستكون خسارة أن يكون ولكنه مسؤول عن وعيه الملتصق بلحظته التاريخية والذي يعمل للخروج منها في الوقت نفسه وهو لا يملك في مواجهة هذا إلا بصيرته التي تتدخل في كل خطوات عمله منذ اختيار كلمة محددة من ضمن كلمات محتملة قد يظنها آخرون تقوم بنفس الدور الدلالي مروراً بأصالة مكانه وهو يصنع عالماً من زاوية نظره وحتى قراره أين ينشر نصه ولماذا.
توقفت سنوات طويلة عن النشر منذ «المشي أطول وقت ممكن» .1997
ماذا تفعل شاعرة في الأثناء، هل كنت تكتبين؟ هل من قصدية ما في توقّفك عن النشر؟
} أتمنى ألا يكون في ردي شبهة تبرير لعطلاتي، ولكني توقفت عن الكتابة من قبل ـ عدة سنوات بعد الانتهاء من ديواني الأول «اتصافات» 1989 ولم أعد إلى الكتابة «ممر معتم 1995» إلا بعد تراكم ربما يكون هو الأكثر راديكالية في حياتي، مثلاً التحول من الإيمان بالعمل الجماعي الماركسي إلى البحث عن فردية كانت هي الحل الأخلاقي الممكن بالنسبة لي وربما لآخرين بعد حرب الخليج الأولى وبعد تفكك جغرافيا قديمة تضم أفكاراً تربيت عليها تخص الدور المباشر للكاتب في تغيير العالم أو أهمية معرفية النص عبر التناص مع الأسطوري والصوفي ...الخ في انتمائه للحداثة. لم أقلق وقتها من توقفي كما لم أخف منه بعد «المشي أطول وقت ممكن». ربما يكون للهجرة والاكتئاب معاً دور في التورط في أعمال أخرى؛ وجدت نفسي في مواجهة مجتمع جديد يربكني في اتجاه لم أمر به من قبل، وانشغلت بكتابة رواية والمشاركة في فيلم تسجيلي وفي ترجمة وفي تجربة الأمومة والعمل الجامعي. بدت القصيدة وكأنها في مكان آخر حتى بدأت «جغرافيا بديلة». أظن أنه لا قصدية في الأمر، إنه أشبه بإيقاع شخصي.
الأفكار الكبيرة
في «جغرافيا بديلة» إصدارك ألأخير، قصائد أقل شخصية وأقل غنائية، وفيه حضور للجملة السردية، لماذا هذه العودة؟
} لا أدري ماذا تقصدين «بأقل شخصية»؟ ولكن من متابعتي لما كتب عن «جغرافيا بديلة» أظن المقصود بها قلة المشاهد التي تكون الأنا في القصيدة طرفاً في مشهديتها، وهذا لا يعني أنها «أقل شخصية» في ما أظن. بالنسبة لحضور السرد؛ أعتقد أن ذلك ليس اختياراً تقنياً شكلانياً ولا أيديولوجياً يخص هذه الكتابة، ربما أن طموحها ليس في صنع أداء لغوي ولا مجاز عن العالم، ولا في رسالة من ذات تؤمن بوعيها إلى جمهور تعرفه. ربما الطموح هنا ـ بصرف النظر عن تحققه من عدمه ـ هو تفكيك ذاكرة شخصية هي بالتأكيد جزء من ذاكرة أكبر يحملها الواقع واللغة وما نظنه شعراً ـ التفكيك كلمة ملتبسة ـ ولكني أعني بها تفكيك الذاكرة والهويات الجاهزة التي نحملها ونموت بها إلى ذرات صغيرة وتهشيمها وإعادة صنعها. إنه طموح لا يسعى إلى تصدير وعي ما إلى القارئ، لهذا لا تناسبه الغنائية رغم أنها في ظني من الممكن أن تنتج شعراً عظيماً، بل إلى مشاركة قارئ ما والتواصل معه حول تفتيت ذلك الوعي. السرد هنا قد يكون اقتراحا ومكان شعرية ما في إحدى تجاربها وليس اختياراً أبدياً لها.
نصك أشبه بسيرة ذاتية ضمنية، أو مزيج من سيرة ويوميات وملاحظات ومشاهدات، من خلالها تقاربين عالمك الشعري. هل الأفكار الكبيرة ضرورية لتسند الشعر؟
} أعتقد أنك أنت نفسك لا تعتقدين أن هناك أفكاراً كبيرة وأخرى صغيرة وثالثة متوسطة الحجم، هناك إنسان عاش ويعيش الآن وفي كل مكان ويخاف من البطالة والوحدة والفقد و المرض ومن الموت. ولكن لأن كلمة إنسان تبدو مائعة أحياناً ولأنها تساوي بين القاتل والمقتول، ولأن الانسان كائن تاريخي واجتماعي؛ دعيني أقل أنناً نشأنا في الثقافة العربية نخاف بالاضافة إلى ذلك من الاحتلال والحكومة والبوليس والوالد والفضائح وغشاء البكارة والحسد والجار المختلف في الدين، مع ذلك تعيش الأفكار «الكبرى» أقصى لحظات ازدهارها: القومية، التبشيرية بالجنة في الآخرة، الداعية لكراهية أميركا أو للتحالف معها أو الهادفة إلى قتل الشريك في ما يسمى الوطن لأنه مسيحي أو سني أو شيعي أو كردي أو أمازيغي. كل ذلك من وجهة نظر أو أخرى هو من نوع «الأفكار الكبيرة«» بالمعنى الايجابي طبعاً مثل الإيمان بقضية يموت الواحد من أجلها والدفاع عن الحق التاريخي والعرض والمقاومة الخ الخ. ولكن لماذا لا يكون من حق كاتب ما، ليس في قدرته تغيير هذا على كل حال، أن يرى عبثاً سوداوياً في هذا الازدهار لما يسمى بالأفكار الكبرى. لماذا يعد «أفكاراً صغيرة» الانشغال بقيمة الحياة وبإنجاز وعي فردي يفكك سلطة الأب ويدافع عن حق جسد متعين في الوجود ويحلم بإنجاز لقيمة المواطنة ويقاوم النفاق العام والاكتئاب والفشل الشخصي في التواصل عبر محاولة فهم هذا العبث بدلاً من إضافة نص آخر لأرشيف القضايا المسماة بالكبرى والتي تتجاوز كل شيء لتحتمي بحجمها.
لو كان الشعر يحتاج سند الأفكار الكبيرة بهذا المعنى لكان رؤساء البلاد العربية وصانعو البروباغندا خلفهم أعظم شعراء في العالم، وليس بعيداً أنهم يظنون ذلك عن أنفسهم. ربما ارتبطت بعض النصوص العظيمة بوجهة نظر سياسية أو بصراع مع احتلال أو بهم طبقي مباشر؛ هذا لا يقلل من أصالتها ولكنه لن يساعدها على أن تظل طازجة ومقروءة إن لم يكن بها من الشعر ما يكفي لتبقى.
ثقافة مختلفة
ماذا عن علاقتك بالشعر ألأميركي؟ أميركا ماذا عنت لك شعرياً؟ هل قدّمت لك سيناريوهات جديدة لكتابة الشعر؟ هل أضافت الى اقتراحاتك؟وهل من رغبة عندك الى كتابة الشعر بالانكليزية؟
} بدأ اهتمامي بالشعر الأميركي منذ وقت مبكر وقبل غيره من الشعر العالمي، كان لي شعراء مفضلون أو حركات شعرية مفضلة ولكن في السنوات الأخيرة اهتممت أكثر بالتعرف على سياق هذه الحركات الشعرية في التاريخ السياسي والأدبي لأميركا، لقد وجدت أيضاً في قراءة سير حياة الكتاب أو زيارة الأماكن التي شاهدت وجودهم متعة، المشي أمام بيت آن سكستون في نيوتن أو زيارة مقاهي البيت القديمة في سان فرانسيسكو أو الحديث التلقائي مع شاعر أميركي من جيلي والتعرف على علاقته بتراثه وذاكرته وتحيزاته يحرك موقعي من مجرد قارئة إلى شيء آخر؛ ولا أظن أنني يمكن أن أتبنى موقع هذا الشاعر أو أنتمي أو أتحيز من نفس خلفيته، ذلك أنني ببساطة إنتاج ثقافة مختلفة، مما سيجعل كل تورط لي في ذلك المشهد الأدبي مختلفاً أيضاً.
ما زلت في مواجهة تجاور لغوي؛ ألقي محاضراتي وأكتب دراسات وأتعامل مع طلابي وأصدقائي هنا بالانكليزية وأكتب الشعر بالعربية ولم أشعر حتى الآن أن لدي أي دافع حقيقي لكتابة شعر بالانكليزية.
ما معنى وجود إنسان عربي، مبدع وشاعر على وجه التحديد في بلد أجنبي، وتتوزعّه أكثر من قومية وثقافة وفكر؟
} الوجود في بلد أجنبي لا يعني التوزع بين أكثر من قومية وثقافة وفكر، بصراحة كنت أتمنى أن يكون ذلك كذلك، سيعجبني كثيراً تخيل نفسي غارقة في ترف التوزع بين ثقافتين أمتلكهما أو أنتمي إليهما بنفس الدرجة، ولكن هذا غير صحيح بالنسبة لي؛ ولا أظنه صحيحاً للكثيرين من الكتاب العرب الذين هاجروا بعد أن تكونت ملامح شخصياتهم وكتابتهم. خصوصاً هؤلاء الذين طردوا من بلادهم أو هربوا بحياتهم أو بعد سنوات في السجون فمؤكد أن تلك المرارة التي يحملونها معهم توجه كثيراً طريقتهم في الوجود في بلد أجنبي. إن تنازع ثقافتين ينطبق في رأيي على كتاب مثل إدوارد سعيد وأهداف سويف وآسيا جبار ليس لأنهم إنتاج ثقافتين مختلفتين فقط ولكن لأنهم أبناء ازدواج لغوي أيضاً ولا أظن ذلك ينطبق على سركون بولس ولا سعدي يوسف ولا وديع سعادة على سبيل المثال.
لقد تركت مصر بعد أن نشرت ثلاثة كتب شعرية وبعد أن دقت على الرأس طبول كثيرة كما يقولون، ولم يكن أهلي قد أرسلوني إلى مدارس أجنبية ولم أكن أفكر أصلاً بأنني سأعيش أو أموت في بلد آخر. أظن أن ذلك مهماً، لم ينفيني أحد وغادرت بهدوء وبثقة في حب كبير يربطني بأهلي وأصدقائي ولهذا لم أجد دليلاً في تجارب الآخرين يساعدني على فهم ما كنت أشعر به.
في تجربتي؛ الهجرة تعني أنك تواجه ما كنت تظنه أنت، بكل ما تحمله هذه الأنت من قومية وثقافة وفكر وذاكرة وأحلام وخيبات ولكنة ولون بشرة وطريقة في السخرية في أرض جديدة وبشروط إنسانية وتاريخية مختلفة. تعني أنك مهدد بالزوال أو بالعزل أو بالاختزال في صورة ربما لم تر نفسك فيها من قبل؛ مثلاً كنت أسأل نفسي عندما أعامل على أني مصرية أو مسلمة أو أستاذة أدب، هل أنا فعلاً مجرد مصرية أو مسلمة أو أستاذة؟ هل كان هذا ما يعرفني به الآخرون أو أعرف به نفسي وأنا جالسة مع أصدقائي في مقاهي القاهرة وكأننا مجتمع مرفوض ومستقطع من العالم الكبير الذي اسمه المجتمع المصري بمشهده السياسي والأدبي أو وأنا أتناول العشاء في بيت أبي أو وأنا أعيش وحدي في شقة صغيرة أملكها طبقاً لنصيحة فرجينيا وولف ولكني أحمي نفسي من تلصص الجارات اللواتي يقطعن الباذنجان على السلم المؤدي، هل هذا ماكان يشكل هويتي حقاً في وطني؟ أم أن تحت ذلك كله رحلة وعي هي أنا ولكنها غير مرئية في كل اقتراح باختزالي في هوية عامة؟
كيف تتدبرين غربتك بمعنى المسافة والبعد؟
} في البداية يكون الحنين الذي يأخذ أشكالاً معقدة أحياناً، البحث عن تشابهات، اختلافات، مقارنات، انتقاءات من مكانك القديم ومن مكانك الجديد. أظن أن معظم ما قرأته في أدبنا العربي عن تجربة الغرب باستثناءات قليلة يتم فيها اكتشاف الذات مثل لويس عوض وهشام شرابي وحسين برغوثي لا يتجاوز هذه المرحلة. هذه مرحلة يمكن وصفها بالوجود على حافة بين مكانين، إن لم يكن عندك مشروع نجاح تحلم به كأغلب المهاجرين أو مشروع ثقافي كبير كالذي تبناه معظم مثقفينا الليبراليين العظام والذي يعني انتقاء قائمة بالأشياء التي يجب استيرادها لتجديد ثقافتنا أو لتحديث مجتمعنا فأنت هالك لا محالة، هكذا هلكت بعض سنين، وعشت سنوات معزولة ومكتئبة ومهددة بالتلاشي.
رجعت لمصر لسنة كاملة وهنا حدث اكتشاف هام بالنسبة لي وهو أنني لست في بيتي مرة أخرى وربما إلى الأبد، رأيت أمامي نوعين من الاغتراب واحد في وطنك ـ ربما لا يقل قسوة ـ والآخر في بلد ليس بلدك؛ واخترت الثاني إلى حين.
هل تتابعين ما يجري في العالم العربي؟ ألأحوال السياسية أعني. هل تتابعين ما يجري في فلسطين والعراق ولبنان. في حال اهتمامك ومتابعتك، أسألك لماذا فعلاً تتابعين؟ وكيف تتدبرين اهتمامك بما يجري عندنا وسط إيقاع حياتك الغربية، سريعة ومختصرة من العواطف؟} أتابع ما يجري ليس في العالم العربي فقط، وليست الأحداث السياسية فقط، المتابعة عادة سيئة ولا داعي للتخلص منها لأنها جزء من ممارستنا لحياتنا وارتباطنا بهذا العالم