سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الاثنين، مايو ٢٨، ٢٠٠٧

لو قدر لنا أن نلتقط بكاميرا ذاكرة الأباء المنسية


مسيرة علي عكس العرف السائد أدبيا هي أكثر ما يميز كتابة الروائي حسين عبد العليم ، فنظرة سريعة سيرته التي يلتزم إرفاقها بنهاية اعماله ، تضعه ضمنيا بين ابناء جيل التسعينيات ، عمله الأول ظهر عام 1990 تحت عنوان مهر الصبا الواقف هناك من غصدارات الهيئة العامة للكتاب ، لكنه لم يدخل دوائر المثقفين إلا مع عمله الخامس " فصول من سيرة التراب والنمل " الصادر منذ ثلاثة أعوام من دار ميريت للنشر ، ثم توالت اعماله مع الدار سنويا بعمل جديد " سعدية وعبد الحكم " و "بازل " وأخيرا " رائحة النعناع " التي صدرت من قبل من نفس جهة النشر الحكومية عام 2000 ، المثير في الأمر أنه بمجرد مقابلتك لحسين عبد العليم في جلسات مهمد هاشم المتصلة ليل نهار ، يفاجئك ويصدم توقعاتك ، فهو لاينتمي إلي هذا الجيل سنا أو مظهرا أو إيقاعا ، صامت إلا فيما ندر ، تبدو عليه علامات شيب فاجئته وعندما يتحدث تجد ذلك الرق الموسوس لمن حضر علي عجلة وإختار المكان الخطا ، فمتوسط عمره يدور في فلك الأربعينيات الذي يضععه في مجايلة أخري زمنا وإبداعا ، المشكلة الحقيقية أنه بدأ المسيرة من نقطة متقدمة جدا في الخبرة لم تفسدها اهواء الكتابة للمصادر المعرفية والطرائق الكتابية لأبناء زمنه ، كتب بروح التسعينيات بينما شعره الشائب يضعك في إحراج مخاطبته بأستاذ كذا أم بإسمه مجردا ، لذا لم اصدق محمد هاشم عندما أبديت إعجابي بالعمل ليفاجئني هاشم ان صاحبه يجلس إلي جواري دون أن انتبه له أو أتوقع نهائيا درجة الصلة بين ذلك العجوز الصامت وسيرة أربعة نساء من هوامش المدينة يحكين واقعهن الضاغط بعامية صافية صادمة وجديدة علي السرد المصري ، كان ذلك في إطار إعجابي البالغ بروايته " بازل " ، رواية قصيرة ذات تكثيف مدهش وبنيان متقاطع مستوحي من تسمية النص ، تلتمس شفاه نساء مقهورات بين الدعارة والهجر الذكوري وإجهاضات الفقر والمرض وكثير الكثير من الخبرة المقطرة لعوالم هامش الهامش النسوي ، حالة من السرد المتداعي لخبرات تتوقعها خيالا ولا تستطيع لفرط جرئتها ان تتخيل إحتوائها داخل نص أدبي ، ماذا يمكن أن يكون عالم تلك السيدة التي تفترش نصبة الشاي المرتجلة أسفل كوبري فيصل وهي تناول سائقي الميكروباص أكوابهم " علي الطاير " فيما هي لا تخفي غنجا خشنا لا تسمح له قارعة الطريق بالتفتح ، هكذا أرقتني وجوه بازل المتعددة وأنا أراقب ذلك العالم الذي خلناه بعيدا عن الزائقة الأدبية ، فإذا به وباللغة العامية الجارحة يجد نصه أخيرا ، وجدتني مضطرا لتتبع أعماله حتي السابقة ، فكانت سعدية وعبد الحكم التي حاول خلالها خلق سيرة من فراغات بحثه حول تاريخ الدعارة أوائل القرن لفتاة من ريف مصر ، ألقت بها مقادير الفقر والجهل والهوي إلي طريق الوعد ، سيرة تتلمس ذلك التاريخ الصامت الذي أوجزته تلك المصادر في أرقام وبيانات نازعا عنه بهاءه الإنساني ، نداء المدينة الذي أنزل فتاة قروية وسحب في أثرها أخاها عبد الحكم الباحث عن عاره في مدينة تدهس الجميع ، أما عمله الأخير " رائحة النعناع " والذي لا تزيد صفحاته عن الثمانين صفحة ، فهو أقرب إلي جماع شتات سيرة ذاتية قائمة منذ اللحظة الأولي علي التداعي الحر المنفصل رغم إتساق النص في خط سردي لا تقطعه فواصل زمنية أو مكانية ، سيرة للحب تبدأ بمناجة إحدي الحبيبات الكثيرات التي تتوزع مشاهدهن بين تفاصيل النص ، تبدو " صافي " حبيبة المراهقة لشاب موزع بين جغرافيا متواترة التنقل بين الموطن " الفيوم " و " القاهرة " حيث بيت الجدة و " الأسكندرية " مكان التصييف ، "صافي " هي نقطة إرتكاز وهمية لنص لا يستسلم لدائرية ما ، شذرات من المشاهد متتابعة وكأنها صندوق من التذكارات يتم تفريغه بلا منطق ظاهر ، ورغم ذلك لا يفقد نهائيا منطقه الخاص الذي يجعلك متابعا لتطور ونكوص سيرورة الشخصيات حتي لو تخلخل زمنها بين الماضي البعيد وماض قريب ، والأجمل في هذا التداعي حين تحاول إقامة تركيب جديد لتفاصيله ومشاهده التي تتزامن مع خبرات ربما إحتوت نصوص أخري عوالمها وتحديدا ذكريات جيل الستينيات والسبعينيات ، تكتشف عمق التقطير الخاص بتلك التجارب التي تخيلت لحظة إنطفاء عوالمه بعد أن أستنفذتها اجيال متلاحقة ، ينفتح هامش تلك العوالم بين حي السيدة زينب و منزل العائلة في الفيوم وبلاجات الأسكندرية علي شخصية أخري يتمركز عليه النص كبؤرة أكثر شمولية وهي شخصية الأب ، وعلي عكس تلك العلاقة الإنتقامية التي ميزت جيل التسعينيات بظاهرة " موت الأب " نجد هذا النص يحاول الإحتفاء بتلك الإنسانية الصافية لهذا المكون الشخصي ، لاألوهية أو أبلسة متطرفة ، حنين لذلك الزمن بكامل تناقضاته ، حنين حتي للقسوة دون مازوخية ، التي تركت علاماتها علي مسيرة الطفل فالمراهق فالشاب ، لكن هناك ثمة إحساس بالخفة يسيطر علي كوارث التداعي التي تميز الشخصيات ، خفة مارستها اللغة التي نحتت من العامية المصرية فصحي جديدة ، حتي علي مستوي بناء الجملة إستطاع حسين عبد العليم أن يبتني جملة قائمة علي إحالات وتراكيب جديدة مستمدة بالأساس من إيقاع العامية ، فسيفساء لغوية متداخلة ، خاصة وحميمية ومبتكرة ، قلما نجد إهتماما بها في الكتابة الجديدة ، فإذا ما تزامنت مع كثافة للحدث خالية من اي ترهل درامي أو إكسسوار في إنسياب النص وهي تعلي من شأن الطاقة الدرامية علي حساب غواية اللغة ، خرج النص من أعباء كثيرا ما حملت بها النصوص الجديدة ، وبدي بمقاربته تلك الذاكرة المدهشة لأزمنة الستينيات والسبعينيات حميميا وكأننا قدر لنا اخيرا أن نري بعيون حداثية خالية من أوهام التاريخ الكتابي تاريخ الأباء ، نص أقرب أدبيا في زواياه المتعددة والجديدة من فيلم " بحب السينما " لأسامة فوزي ، حيث طفولة لاهية يتساقط حولها التاريخ العظيم بهشاشة أوراق الكوتشينة ، تاريخ فقد سطوته إلا من طفل مشاكس نراه بين السطور يضحك ملئ فمه من كوارث عائلته وعالمه ، ربما هذا تحديدا ما دفع أحمد اللباد مصمم الغلاف إلي إختيار متتابعة لبوستر فيلم بحب السينما الحديث إنتاجيا علي واجهة سينما الفانتازيو القديمة ، مقتنصا روح النص في تناص بديع ، او كاشفا دون أن يدري عن عمقه الذي سيجه حسين عبد العليم بكثير من المهارة .

عن الربيع الذي كثيرا ما فارق مواقيته


كنت تحبه ، لا داعي أن تمحو كل هذه السنوات بضربة قلم واحدة ، عفوا ببعض العرق المنهمر كسياط لاهبة لم تراع ملابسك الثقيلة ، لكن ما جدوي الإعتراف المتأخر بمحبة الربيع الذي ما عاد ربيعا ، هل كنت يوما مسؤولا عن إختيار اللحظة المناسبة لكي تقول بدأ ربيع ما ، لا ، كانت أمك بلهجة من تنتظر إلهاما إلهي ترفض أن تنهي موسم الشتاء قبل الزيارة الإسبوعية لجدك حيث بمعاينتاها وجها لوجه لون ملابسه الميرية تتأكد أن الضباط قد خلعوا الأسود ولبسوا أبيض الصيف ، جدك المتفاخر بزمن حراسته الملكية لبوابات قصر عابدين والذي دفن طموحه في ترقي ملكي تحت غبار بدروم الأرشيف بإدارة مرور القاهرة المركزي بالدراسة ، كان الجد النازح من وادي حلفا السودانية قد أكتسب جلده الأسمر المدبوغ قابلية كسولة للتكيف مع التغيرات المناخية ، لذا كنت وانا طفل أخاله يتعمد أن يكون آخر من يبدل ألوان ملابسه كل إنقلابين ، وكانت بوصلة أمي المناخية بذلك تتأخر عمدا حتي لو رأت بأم عينها تبدل ملابس رجال الشرطة في إشارات المرور التي كنا نمر عليها ،والنتيجة أننا الأطفال المدكوكين بملابس الشتاء الإلزامية ونحو طاقمين داخليين نرزخ تحت العرق فيما زملاء الحي قدبانت اذرعهم البضة أخيرا بعد حبسة الشتاء الطويلة ، كانت الفصول إذن لاتضم الإعتدالان الشهيران ، الربيع والخريف ، وكان مظهرنا متسربلين إما بملابس مضاعفة أو أقل من اللازم – ربيعا ثم خريفا – يداري فقرا طبيعيا لتنويعات الثياب المناسبة للإعتدالين ، البلوفرات الخفيفة المناسبة كي تحاوط الأكتاف علي طريقة أحمد رمزي في فيلم " أيامنا الحلوة " ربيعا ، والقمصان الثقيلة الجاكتية الإحساس حين يتغول إحساس الخريف بالشتاء نهايات شهر أكتوبر ، أمي من جهتها كانت لديها الحجة المنطقية الوحيدة لفلسفة هذا العوز بكثير من الرحمة ، حين كانت تفسر هذا الترحيل الزمني في إرتداء الملابس المناسبة بخشيتها علينا من الإصابة بنزلات البرد ، الأخيرة كانت بعبع الطفولة مع وراثة متجذرة لقلة المقاومة الطبيعية من جهة أبي ، لذا إختارت امي عبر تاريخ طفولتنا ميعاد الإحتفال بشم النسيم – عيد مصري فرعوني شعبي – كبداية للتسويف والمط في موعد خلعنا لملابس الشتاء ، ملابس الشتاء الحقيرة التي كانت بفضل ندرتها وجبرية دورتها الطويلة للبقاء علي أجسادنا مظهرا خفيا للفقر رغم ما تدعيه امي من أن " الشتاء سترة "، حيث يزداد الإهتمام بالمعيار الكمي – درجة الدفء التي توفرها الملابس – علي المعيار الكيفي – درجة مناسبتها للذوق والموضة – فيما كانت تعدد مزايا تلك الملابس الشتوية التي تقلل من جهة أخري حجم الغسلات المتوقعة لقطع الملابس ، فالجاكيت مثلا لا يغسل من الشتاء إلي الشتاء والبلوفرات تتحمل عرق شهر علي الأقل وهو ما يعني عدم إضطرارها للغسيل إلا مرة كل اسبوعين للملابس القطنية و مرةشهريا للبلوفرات ، مع ما يعنيه الغسيل من يوم عمل إضافي لطفولتنا التي تعاملت فيها امي حتي لما قبل العشرينات علي اننا – انا وأخي الأصغر- فتيات البيت المساعدات ، كانت امي لا تعترف بالإعتدالين فاورثتنا طابعا إنقلابيا منضبط البوصلة علي التطرفات ، رغم أن الربيع ايام قرارات امي السادية كان ربيعا بحق ، كان ربيعا جديرا بأغنية سعاد حسني الشهيرة ، حتي مع الأخذ في الإعتبار موجات الخماسين الغادرة التي كانت تحيل نهارتنا إلي اصفر الكتكوت المفترس ، كان أتربة الصحراء التي تجبر شبابيكنا علي الإنغلاق رغم الحر الشديد فاصل قصير أيا كان عنفها ، حتي اليوم التي أظلمت فيه السماء في عز الظهر وراحت أمي تحسبن وتحوقل مخافة ان يكون يوم القيامة قد ازف دون إستعداد ، كان ذلك منذ نحو عشر سنوات عندما أبتليت مصر بنوبة من الكوارث المناخية المتتالية ، نوبتان من السيول المدمرة التي إقتنصت الفقراء في مقتل في صعيد مصر وسدت طرقات القاهرة ، علي خلفية غضب الطبيعة بعد الفصل الأول المتمثل في زلزال 1992،ثم اليوم الأسود الذي اظلمت فيه السماء في تمام الثانية ظهرا مستدعيا في القريحة الشعبية أنواع من الصلوات والأدعية الجديدة لدي أبناء الديانتان ، عمقت أغدار الطبيعة علي مايبدو من فلسفة امي المتشككة في الطقس فدخلت طوعيا عصر الأكمام الأبدية خاصة مع امراض التقدم في العمر ، في حين ومع إرتخاء القبضة الأمومية والأبوية حققت أحلامي أخيرا في إحتفاء متأخر بالخروج من الشتاء ، كنت قد إستقللت ماديا في سن مبكر وخرجت طوعيا من زمن الكساء الشعبي الإجباري ، حيث عرفت طريق وكالة البلح – سوق الملابس المستعملة المستوردة – والذي أدخلني فجأة في مفارقة زمنية مناخية اخري ، فملابس البالة الأوروبية تراهن علي تطرفات مناخية وفاشونية تنتج من مريدها شخصية خارجة لتوها من السيرك القومي ، ملابس مبهرجة الألوان لا تتماش مع الخطة اللونية للفراغ البصري المصري ، وكانك فجأة قد خرجت من فيلم فرنسي ملون لتدخل في مشاهد فيلم بالأبيض والأسود ،خلفيات تتدرج لونيا بين الرمادي و الأصفر المغبر والبيج المنمحي والأبيض المقرح، باليتة لونية يعلم التلوث وحده عبقرية معادلات المزج بينها ، إستطاعت الطفرة الخارجة عن مسار الخطة اللونية علي الأقل ان توفر ذلك الميكس بين قطع الملابس ، القميص المبطن الثقيل مع الجيليه الصوفي بلا أكمام مناسب لإفتتاحية خريفية تمزج بين صباحات حارة ومساءات ذات لسعة باردة ، وبينما يصلح التعديل إما بخلع الجيليه مستقرا علي الكتف وتشمير الأكمام للصباحات الحاملة لرطوبة صيف طويل فيما الفول أوبشن للمزيج يسمح ليلا بدفء نسبي ، غير ما سيدته ثقافة الوكالة فجأة من ثورة الفاسكوز الإيطالي ، وهي الثورة التي وصلت مداها الذوقي بداية التسعينات ، كان الفاسكوز قد إنتشر كلمعة إضافية مبهرة مع شيوع موديل من جواكت البدل الفردية ذات الثلاثة أذرار، حيث أنتشر ذلك الموديل من الجواكت المبهرجة الألوان والتي تبطن ببطانة من قماش الفاسكوز ، وإقتضت موضة هذا الموديل أن تشمر الأكمان علي الأقل في ثنية واحدة تكشف البطانة المزكرشة والتي تفنن فنانو وممثلي تلك الفترة في إختيارها من تطرفات الألوان ذات اللمعة – إطلالة سريعة علي أفلام تلك المرحلة وبدايات الفيديو كليب نهايات الثمانينيات كفيلة بإكتشاف ذلك العار الموضاوي- لينفتح من بعدها عصر الفاسكوز كقميص وحد بين الطبقات والشرائح الإجتماعية ،و كعلامة إضلفية علي إنهيار عصر العلاقة التاريخية بين المصريين ونباتهم الأثير الطبيعي ( القطن ) ، كان الفاسكوز الحقيقي منه والذي يشبه الحرير والتقليد المكون من أردأ انواع البوليستر بداية لدخول الجسد المصري صوبة الإستدفاء الطبيعي ، حيث كان يشكل بالإنعزال الحراري الذي يمثله تكيف مشوها مع هيستريا المناخ المصري ، واقصد تحديدا المناخ لا الطقس، حيث دخلت الفصول المناخية حالة من الإرتباك الذي عمق من تضاربات المصري مع جسده ، بت شخصيا لا استطيع التنبؤ – مثلي مثل ملايين ومن قبلنا هيئة الرصاد الجوية المصرية- لا فقط بإحتمالات الطقس من يوم لآخر بل بإحتمالاته من ساعة لأخري خلال نفس اليوم ، ويزداد هذا الإرتباك تحديدا في الإعتدالان الشهيران ، حيث يبدو المصريون في شوارع القاهرة وكأنهم مسافرون وصلوا فجأة إلي صالة إحدي المطارت ولم يحتسبوا لنقلة المناخ المتوقعة ، بلوفرات علي قمصان علي تي شيرتات فاتحة قصيرة الأكمام وكثير من الجواكت الثقيلة ، فتيات يرتدين قمصانا قصيرة الأكمام يجاورن ملتحفات بالنقاب الأسود في عز الظهر ، رجال يبدو إستعدادهم لغدر المساء البارد مبالغا فيه أمام فتوة شباب كشفت سواعدهم عن درجات لونية خارجة لتوها من أغطية الشتاء ، وحدهم القادرون علي تكييف مساراتهم اليومية بين مكيف السيارة ومكيف العمل ومكيف المنزل من يستطيعون الإستمتاع بربيع إفتراضي دائم ،فالجميع يعلم ان لا الشتاء أصبح شتاءا ولا الصيف اصبح صيفا ، تمر سنة احيانا لا تعرف فيها القاهرة زخة مطر واحدة فيما تعيش نيران ستة أشهر من الصيف المتأجج، وهم يكررون حكمة دامغة لا ينفكون يمضغونها دون تفكير فيها ، الشتاء هذا العام لا يوصف في برودته ، أو أن حر هذا الصيف لم يحدث من قبل ، وكأنهم من عام إلي آخر أو من فصل إلي آخر يتحسرون علي ما مضي ، وكأنهم بمعني آخر ينفخون في مناخاتهم بعضا من الصبر الذي يبدو لا نهائيا ، يستعر بنيران صبر جديد لا أكثر ، يجد ممداده اللآنهائي في معية من ينتظرون الأسؤ دائما ، حتي لو كسرت مرارة الصبر نسمة طرية عابرة ، حتي لو اسفر هذا الربيع عن لون بمبي مؤقت تمنته سعاد وماتت دون أن تراه ولو مرة واحدة ، حتي لو اعلنتها وحدك ، أنك ما عدت تري ربيعا طويلا أو قصيرا في القاهرة..

الأزهر يطلق أكثر الفتاوي عجائبية


ماهو حكم الإسلام في الباب الخشبي ؟ أو ماهو حكم الإسلام في أكل لحم الجان؟ هكذا ومنذ زمن بعيد كنت أستمع إلي برنامج "أفيدونا يرحمكم الله" بإذاعة القرآن الكريم ، والذي كان يتولي فيه علماء أزهريين أفاضل الرد علي أسئلة المستمعين ، لكن الأسئلة كما تقدم لم تكن تخرج عن هذا الإطار ، بعض من الفانتازيا وكثير من الهوس ، أما فضيلة الشيخ فكان مضطرا بكل تهذب للرد علي تلك الأسئلة بمنتهي الجدية والوقار ، نعم وقار لا يمكن وصفه إلا بسلوك من تحكم في إنفعاله داخل عزاء خشية أن ينفجر في الضحك ، هكذا تخيلت نفسي للحظة أمام تلك المهمة الجبارة التي وهي أمانة في رقبة شيخ ربما تكون تلك كل وظيفته في الحياة ، أن أكون في موقعه مضطرا -مخافة أن أتجاوز نصا أو سنة -لمراجعة مئات الكتب الدينية بحثا عن موقف أو حكم الإسلام في الباب الخشبي، أو علي أقل تقدير عدم الإستخفاف بغباء السائل الذي يتحدث عن لحم للجن والمسلم القاصي والداني يعلم أنها كائنات ذات طبيعة غير مادية لايصلح معها الأكل والطبخ ، هذه كانت بعضا من الأفكار التي تراودني كثيرا مع إستماعي في فترة الطفولة للإذاعة ذات المحتوي الغير متغير منذ نصف قرن ، لدرجة أني كنت اتخيل أحيانا أن بعض تلك الأسئلة ما هي إلا خيال معد الفقرة وربما الشيخ الجليل المجيب نفسه ، لأن ببساطة من يسأل عن حكم الدين في باب خشبي ويرسل رسالة في مظروف وينتظر الحكم كان جديرا بصورة كاريكاتيرية يظهر فيها السائل ونجار وبعض الجيران متحلقين حول باب لمنزل يستند علي جدار بأحد الشوارع ويضعون أمامه المذياع في إنتظار إجابة الشيخ الجليل التي إما ستجعل النجار يركب الباب أو تضع الباب في حكم الحرام ، مما يستتبع ذلك من خيال لأزمة الباب وإنكشاف داخل المنزل أمام الماريين في شارعه ثم الدخول في باقي ذلك الخيال المضحك ، من ناحية ثانية يبدو سؤال آكل لحم الجن ذو طبيعة فانبيارية أصيلة ، حيث في حالة الإجابة عليه بأنه حرام كيف سيتصرف السائل في اللحم المذبوح أمامه وقد شمر عن ساعديه مستعدا لشواءه مثلا ، الأزمة أن الشيخ في الحالتين كان مضطرا للإجابة الفخيمة الفصيحة التي تبدأ بالإستعاذة بالله والصلاة علي الرسول ، مضطرا للتنقيب في إمهات الكتب التراثية المرجعية بحثا عن سيرة ما للخشب في التاريخ الإسلامي تربطه بمعيار التشريع أو التحريم ، فيما حاول في الإجابة علي السؤال الثاني أن يتحدث عن الطبيعة اللامادية للجن معددا الأيات القرآنية والأحاديث وأخبار الصحابة الأوائل عارجا من ذلك عن أن الجن بلا لحم أو مرق وإن أكد في النهاية أنه بما أن لا مانع شرعي واضح فهو –أي أكل لحم الجن- حلال !
إستدعيت السؤالين خلال هذا الأسبوع كثيرا بعد أن أرق مضاجع المصريين حادثتين كبيرتين علي نفس المنوال ، تحدثت حولهم الصحف ، وإجتمع علي أثرها شيوخ الأزهر ، ودشنت لهما ساعات محترمة من البث التلفزيوني ، ناهيك عن ساعات الثرثرة الممتدة من البيوت إلي المقاهي إلي التجمعات العامة ، والأولي تفجرت كالعادة مع سؤال – لاأشك لحظة في مكر سائله- وجه للدكتور عزت عطية أستاذ ورئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين وأحد علماء الأزهر الأجلاء حول حكم الإختلاء برجال في مكان العمل ، الأمر الذي جعله يفتي بضرورة إرضاع المرأة العاملة لزميلها في العمل خمس رضعات مشبعات كي تحرمه علي نفسها ، ولنتخيل وقع هذه الفتوي التي أثارت خيالا مجتمعيا كوميديا وقد تحولت بمجرد ترديدها – حيث حملتها الصحافة علي أجنحة الريح لجمهورها المتشوق للإرضاع- إلي أزمة كبري ، لم يتنصل الرجل عن فتواه الصحيحة شرعا لكنها في الواقع تبدو كارثية المعني والهدف، وبدأت الناس تتحدث عنها بمنطق الطرفة ، وهو ما أشعر الأزهر بحرج موقفهم فإجتمع المجلس الأعلي وأصدر قرار بوقف أستاذ الحديث عن العمل وإحالته للجنة التأديب، أما الثانية فكانت تصريحا للمفتي الشيخ علي جمعة ردا علي سؤال لأحد المصلين بمسجد السلطان حسن الذي سأل عن حكم التبرك ببول الرسول (ص) فكان رده كما نشرته جريدة المصري اليوم واسعة الإنتشار: إن الأساس في فتوي تبرك الصحابة بـ«بول» النبي صلي الله عليه وسلم هو أن كل جسد النبي صلي الله عليه وسلم في ظاهره وباطنه طاهر وليس فيه أي شيء يستقزر أو يتأفف أحد منه، فكان عرقه صلي الله عليه وسلم أطيب من ريح المسك وكانت أم حِرام تجمع هذا العرق وتوزعه علي أهل المدينة.
وأضاف جمعة: فكل شيء في النبي صلي الله عليه وسلم طاهر بما في ذلك فضلاته، وفي حديث سهيل بن عمرو في صلح الحديبية قال: «والله دخلت علي كسري وقيصر فلم أجد مثل أصحاب محمد وهم يعظمون محمدا فما تفل تفلة إلا ابتدرها أحدهم ليمسح بها وجهه» وحينما أعطي النبي صلي الله عليه وسلم لعبدالله بن الزبير شيئا من دمه بعد الحجامة فقال له الرسول صلي الله عليه وسلم ادفنه، فرجع فرأي النبي عليه شيء فقال له أين دفنته، قال في قرار مكين فقال له الرسول صلي الله عليه وسلم «أراك شربته ويل للناس منك وويل لك من الناس بطنك لا تجرجر في النار».
واستطرد جمعة قائلا: فأخذ العلماء من هذا ومنهم الإمام ابن حجر العسقلاني والبيهقي والدارقطني والهيثمي حكما بأن كل جسد النبي صلي الله عليه وسلم طاهر في ظاهره وباطنه، وعلي ذلك جماهير العلماء كما نص علي هذا أيضا القاضي عياض في «الشفاء» والأمام الغزالي في «الوسيط»، والإمام زكريا الأنصاري في «أسمي المطالب» وابن الرفعة والبلقيني والزركشي، وقال شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني «تكاثرت الأدلة علي طهارة فضلاته صلي الله عليه وسلم وعدَّ الأئمة ذلك في خصائصه فلا يلتفت إلي ما وقع مما يخالف ذلك فقد استقر الأمر من أئمتهم علي القول بالطهارة»
وقد أدي رأي المفتي وفتواه إلي تصريح صادم وعنيف جاء هذه المرة من الشيخ محمود زقزوق وزير الأوقاف الذي إعتبر فتوي " التبرك ببول النبي" كلاما فارغا وفقا لما نقلته صحيفة المصري اليوم حيث قال في كلمته التي ألقاها امام جمهور من الدعاة القدامي وخلال دورة تدريبية للأئمة:
تعودنا أن تكون الإساءة للإسلام من أعدائه والحاقدين عليه وهذا يحدث منذ ظهوره، ولكن الموضة الجديدة هذه الأيام - للأسف الشديد - الإساءة للإسلام من أبنائه وأتباعه ومن هذه الإساءات، التي ظهرت مؤخراً، الفتوي التي تقول إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتبركون بشرب «بول» النبي صلي الله عليه وسلم وهذه إساءة واضحة للنبي صاحب الدعوة، الذي كان نقياً في كل شيء ولا يقبل مطلقاً بهذه التخاريف.
هذا التضارب بين جهتين داخل المؤسسة الدينية ليس بجديد ، بل ومرشح للتصاعد خلال الفترة القادمة ،فالمتأمل لحال المؤسسة الدينية الرسمية يدرك تماما مفصلية اللحظة التي تمر بها الآن ، فقد فقدت شيئا فشيئا كثيرا من رأسمالها التاريخي الممتد لقرون في ذاكرة الجماعة المصرية ، خاصا وهي قد نزلت إلي وحل السياسة حتي أعلي ذقنها ، وأصبحت سيرة المفتي أو شيخ الأزهر أو وزير الأوقاف في الذهنية الشعبية مرتبطة بموالاة شروط السلطة السياسية وتكييف التشريع الديني مع كغطاء للكثير من خطايا النظام ، وليس بعيدا عن ذلك فتوي شيخ الأزهر بعدم مشروعية الإمتناع عن التصويت علي التعديلات الدستورية الأخيرة والتي وصف من يقاطعها بكاتم الشهادة مؤثما قلبه، هذا من جهة ، بينما من جهة أخري تنحو العلاقة بين المرجعية الدينية وجمهورها الشعبي إلي أن تتحول إلي حالة اكثر فردية لا تعتمد علي رسوخ مؤسسة بحجم الأزهر ، فعوام المسلمين يستمدون تشريعهم الآن إما عبر برامج الفتوي الفضائية ، أو عبر سؤال أقرب إمام مسجد أو أي زي لحية موثوف الجانب ، تنحو العلاقة أكثر إلي تبسيط يخضعها لمنطق ( سؤال وجواب شاف) ، خاصة وقد إكتسب الوعي الجمعي الديني صبغة تشظية تفاصيل الحياة الدقيقة تحت مجهر التحليل والتحريم ، وهو المجهر الذي لا يتطلب إطنابا ولغوا وفصاحة أهل العمائم الذين يبحرون داخل كتب الفقه مدللين في أحكامهم جوازا أو قبولا أو رفضا بين بحور مذاهب أربعة ، فيما المستفسر عن شأن دنيوي يبحث ببساطة عن إجابة الحرام والحلال ، وفيما تحاول المؤسسة الدينية النزول إلي معترك التنافس علي رأس مالها المعرفي والوظيفي تنافس شريحة واسعة ممن أصبح الدين تجارة لهم منافسة متأخرة ، تنافس علي أرضية ملعب جري تأميم نتائجه قبل بداية المباراة ، حيث أنتج هوس التدين الشكلي دعاته ومنتجي خطابه المتمالثين في الخيال مع ما يقتضيه العصر من تواصل مع المعارف الحديثة – حتي لو إصطبغ ذلك التواصل شكلانية برجماتية محببة في الملبس وإستخدام التقنيات الحديثة كالنت والموبايل - ، ولنتأمل نموذجا تحليليا فيما حدث مع فتوي إرضاع الكبير حيث من الواضح أن سائلها كان يحاول البحث عن سؤال صعب ، وهو هل يصح ان تختلي مرأة برجل في مكان العمل ، وربما كان ما يريده تحديدا تهدأة مخاوفه علي زوجته أو الإستدلال بحرمانية ذلك مبررا منعها عن العمل ، لكنه سأل في المكان الخطأ والشخص الخطأ ، الدكتور عزت عطية كانت ستسجل عليه لو إستعمل فقه الفضائيات الذي يحرم النزول إلي العمل ومخالطة النساء ، لذلك لم يجد حلا إلا الإبحار فيما يضمنه من مراجع وأمهات الكتب للإستدلال علي إمكان وجود خلوة مع رجل في الحلال ، أبحر الرجل خوفا من أن تسجل علي الأزهر سابقة تحريم عمل المرأة فإصطدم بقاع النصوص وأخرج من ظلال الأحكام حكمه الفقهي الذي هو بإستدلال بسيط شرعي ، لكنه لايناسب لا الحالة ولا الزمان الحالي، ويداوي هاجس وهلاوس التخوين الجنسي بنفس المادة العضوية المستمدة منها ، فلكي يصح قياسا إجتماع رجل وإمراءة لابد أن تحرم عليه جنسيا ، والإرضاع يضع الرجل في محل التحريم ومن ثم علي كل إمراءة تختلي برجال أن ترضعهم خمس رضعات مشبعات ، ببساطة لو مال المتسائل علي جار متدين لحرم له الأمر من بابه ، وحرم عمل المراءة وإنتهي الأمر لكنه ذهب إلي الموثوق بهم – أي رجال الأزهر – فأصاب المجتمع بالصدمة والنساء تحديدا بمدارة الخجل من تلصص عيون الرجال علي أثدائهن المشتهاة ، وهكذا سيدخل الأزهر حقل ألغام محاولة تطويع جمود إجتهاده في النصوص في مواجهة سوق جائع إلي المطابقة بين حياة جماهيره وأحكام الشرع .أما عن الشيخ علي جمعة مفتي الجمهورية فقد إستسلم علي مايبدو لمحاججة فقهية مكانها الطبيعي بين شيوخ الأزهر وهي لاتهم عموم المسلمين في شيئ، حين اضطر للإجابة علي سؤال لامبرر له إلا في قاعات الدرس ، مستخرجا هو الآخر قياس فقهي أكاد أشك في جدواه وفي مراجعه ، فما فائدة المسلمين الآن من إذا كان بول الرسول يصلح للتبرك أم لا ؟ وعند أي حد لابد ان يقف المفتي والمشرع عند معني وجوهر السؤال المطلوب الإجابة عليه ؟ هل هو مطالب بالإجابة علي كل شيئ وعلي أي شيئ؟ وماهي قيمة الفقه إذا ما وصل إلي مرحلة الإفرازات من بول أو لبن ؟ الإجابة واضحة ، فلا سقف واضح لحجم المعرفة التي باتت تدخل حياة المسلم يوما تلو الآخر ، ولا سقف لمعرفة الله ووظيفة الجميع من مؤسسة دينية رسمية إلي فقهاء الأرصفة هي محاولة وضع كل ماهو مفتوح بإتساع في الأول تحت سقف المعرفة الإلهية وإلا فقدوا رأسمالهم الوحيد الذي يضمن للجميع حياة إسلامية سليمة لأربعة وعشرين ساعة في الأربع وعشرين ساعة ، وما اصعبها من مهمة .