سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

الثلاثاء، يوليو ٠١، ٢٠٠٨

محمود العسيلي علي طول ....ولع ولع قول


بشعار :اللي يحب ربنا يسقف للحسيني
الأغنية الشعبية تنتشي بالوعظ فينتصر الشيطان في حواره مع العبد
هاني درويش

غالبا مالا يراوح الغناء الشعبي وظائفه الأساسية، حيث هو فيما يؤسس لشرعيته المنفصلة عن منتج الثقافة السمعية السائدة يبحر أكثر في معناه الأول الذي تشكل عبر التاريخ، منحي السير و الحكايات المأثورة التي غالبا ما تمثل "عبر" و"أمثولات" ثابتة أتفق أبناء تلك الثقافة علي أهميتها، وهي بمجملها تحوي جدول القيم الفضلي التي تتسم بها تلك الطبقات أو تتمناها في نفسها، وتاريخيا كان الغناء الشعبي المصري وتحديدا المنتج وسط الطبقات الدنيا من الحرفيين وساكني قاع المناطق العشوائية الجديدة غالبا ما كان يدور جدول القيم والأمثولات المكرسة لايخرج عن تيمات محددة، إعلاء قيمة الشرف والشجاعة في مقابل اللصوصية والغدر، تقديس قيمة الوفاء بالعهد في مقابل خيانته، حكايات ظلم وسجن الضعفاء في مقابل تكبر وغطرسة القوي، وبعض الثنائيات الأخري المبسطة التي تقسم العالم الأمثولي بين خير منهزم وشر منتصر، إلا ان دائرية الأمثولة (الغنوة) غالبا –وعلي عكس ما يحدث في الواقع- ماتنغلق علي إنتصار الخير أخيرا في مواجهة الشر، زاد تلك الحكايات الأساسي أو في صورته الخام مستمد بشكل كامل من السرديات الدينية القديمة، لكنه فيما يتحور ويكتسي شعبيته كمنتج مستقل فقد كل إرتباطاته بذلك الجذر القديم، ولعل أكثر التناصات الشهيرة في الغناء الشعبي مع سرديات الدين هي أمثولة الغواية/ الخيانة /الوفاء كما تمثلها قصة النبي يوسف في القران الكريم والتي تنتشر في طبعات شعبية غنائية ملونة حسب كل منطقة ومغني ولحظة إنتاج، لكن في جميع حالات التناص تلك غالبا ما يحاول المبدع الشعبي تلوين منطق الحكاية بالكثير من العصرنة، وكأنه يحاول بعصرنتها التأكيد علي أزلية تلك الأمثولة في أكثر تجلياتها حداثة، لذا تبدو أغنية "العبد والشيطان " للمطرب الشعبي محمود الحسيني إنقلابا علي ذلك الحس الغالب العصرنة أو الحداثي الذي غالبا ما تداري به الأمثولة تاريخيتها، وقد شهدت الأغنية إنتشارا ناريا في عالم الميكروباصات والتوك توك في مصر خلال الفترة الأخيرة، وصاحب ذلك الإنتشار إنقلاب آخر في عالم الفورمات (الخام)، فمنذ نهاية السبعينيات عرفت الأغنية الشعبية إنفجارها المدوي مع ظهور صناعة الكاسيت، وهي الصناعة التي أخرجت المزاج السماعي من حالة تحكم الثقافة الرسمية في غالب الإنتاج الفني السمعي، حيث اصبح بمقدور المستهلك أخيرا الإستماع منفردا وبإختيار حر كامل إلي ما يرغبه بعيدا عن الإذاعة كمؤسسة ضبط ثقافي مركزية، ويعزو كثيرون الشهرة الضخمة لسلطان الأغنية الشعبية العظيم أحمد عدوية إلي ظهور الكاسيت تحديدا في لحظة صعود طبقي لطائفة الحرفيين وأصحاب المهن الخاصة، فمنذ هذه اللحظة تحديدا كرس الغناء الشعبي التجاري وجوده ومارست طبقات كاملة إستقلالها عن المزاج السمعي المعمم، الجديد هذه المرة مع محمود الحسيني هو إنتشار وسيلة جديدة تحمل فورماتا جديدة هي الأخري، وهي أجهزة الإم بي ثري الصينية المدهشة التي يجري تركيبها مباشرة علي أجهزة مسجلات السيارات والتكاتك( التوك توك موتوسيكل ثلاثي العجلات صيني وهندي الصناعة يشبه الريجشا الهندية وظهر في مصر كوسيلة مواصلات داخل الأحياء الشعبية في العامين الماضيين)، والأمر لا يقف في تلك النقلة النوعية علي مجرد الأجهزة بل يتجاوزه إلي الفورمات التي أعطت لكل من يتمني الغناء والتسجيل فرصة ذهبية للإنتشار أيضا خارج ثقافة الكاسيت التجاري الكارتيلية، أصبحت المادة الغنائية بذلك أكثر سيولة ووفر مجال تبادلها عبر الإنترنت شيوعا إستثنائيا لمواد غنائية ظلت لفترة طويلة مغبونة، ومن قلب هذا الفيض الجديد من الأغنيات الشعبية والتي غالبا ما تشتهر عبر الأفراح الشعبية تظهر تجربة الحسيني كإنقلاب علي الذهنية التاريخية التي حركت خيال وإبداع المطربين الشعبيين، أغنيته الشهيرة هي العبد والشيطان وهي حوار متصل علي موسيقي راقصة بين الإنسان(العبد) والشيطان تبدو تكرارا واضحا لمشهد الغواية بين الإنسان والشيطان كما قدمته السرديات الدينية الكبري، لكنه هذه المرة بإكسسوار حداثي يتعلق بمجالات الغواية كما يراها مطرب شعبي يعبر عن نسق الفكار المتداولة داخل طبقته، وتتخذ الأغنية سمت الحوار الراقص – علي عكس ما يفترض في مثل تلك الحالات من وقار يناسب الحالة الوعظية- التبادلي أو التناظري حيث يقدم كل الطرفان (الشيطان والعبد) مبرراته لمواقفه، الغواية من جهة والثبات علي الصراط المستقيم من جهة أخري، لكن وقبل تحليل مضمون الحوار والموسيقي وفيما نبحث في هذا الخطاب الغنائي لابد من الأخذ في الإعتبار مجموعة ملاحظات، أولها إستحضار الطقس، فغالبا ما تغني الأغنية في الأفراح الشعبية مع ما يصاحبها عادة من تعاطي للمخدرات وتناول المشروبات الروحية، هذا مع تواجد راقصة درجة ثالثة مصاحبة للأغنية، ثاني الملاحظات هو تماهي ذلك الخطاب الوعظي مع تنامي الحس الديني السلفي بشكل عام داخل تلك الطبقات، ويبدو جديرا تامل ذلك التوجه مع شيوع نمط الوعظ التهديدي العنيف في منابر مساجد الحياء نفسها، وهو ما يضعنا مباشرة أمام مفارقة إستيعاب تلك الطبقة لكلي الخطابين معا في نفس اللحظة، الخطاب الترهيبي المرعد والوعيدي بالعذاب، وخطاب اللهو الغنائي والذي يتلبث فيه المطرب الشعبي سمت الواعظ علي خشبة المسرح، واخيرا ملاحظة ان الحوار الغنائي منقسم موسيقيا إلي موسيقي رزينة مصاحبة لمقاطع محاججة العبد للشيطان وموسيقي راقصة صاخبة ومشتعلة مصاحبة لمقاطع غواية الشيطان، وهو ما يجعل طقس الرقص المتوقع والصخب –كما تترجمه أصوات الجماهير المصاحبة للأغنية- مصاحبا لمقاطع الغواية التي من المفترض ضمنيا أنها مستهجنة، وكأن الوظيفة الحقيقية للأغنية تتعارض كليا مع الغرض المفترض منها وهو الوعظ، أي بمعني أخر تغلب الطبع( الطقس الرقصي ) علي التطبع (ظاهرة الوعظ).
تبدأ الأغنية بموسيقي ملحمية من مقام الواحدة الكبيرة وبإيقاعات المصمودي المصرية التي غالبا ماتميز المواويل الصعيدية، وهي ترافق عادة الندبيات وحلقات الزار الشعبي، وهي تترجم مباشرة جلل اللحظات القادمة ، ويبدأ المطرب كما هو السائد في الحكايات الشعبية ب"الصلاة علي النبي ومدحه:
" اول كلامي انا علي المصطفي أصلي
أقول حكاوي وعبر ..إحفظ وفسرلي
شيطان وقال للعبد طول عمرك بتصلي
وتسبح وتصوم .. بالحي القيوم
طول عمرك مشغولي"
ونلاحظ هنا إحتواء الإستهلال علي تقدمة سريعة لتاريخ شخصية العبد كما يراها الشيطان، لكن سرعان ماينقلب هذا التقييم الإيجابي للدخول مباشرة في محاولة الغواية بإيقاع راقص، فيقول الشيطان مستكملا مع تصاعد موسيقي راقصة:
" إتبحبح روح سينما
إلعبلك دور دومنا
(صوت معلق يساعد المطرب لتسخين الجو) محمود الحسيني علي طول ولع ولع قول
ولع
الجارة اللي قصادك..بتشغلك عبرها
بتقلك وعنادك ....قربت تطيرها
أهوه ..أهوه..أهوه..
ولع"
ما يظهر من صوت للمعلق هو شخص يكسر إيهام الحوار الإفتراضي ليعلق لا علي الحوار بل علي الموجودين في الفرح، وهو أقرب للمحرض علي الرقص أو واصف للأحداث علي خشبة المسرح، ولا علاقة له بجو القصة أو الأمثولة نفسها، فنراه يعلق مباشرة :
" عايزتروح النت......أركب سوبر جيت
عايزك ماتركزشي...علشان ماتهيسشي
قول يا حسيني قول....سمعهم كده علي طول
ولع
جوجوجوجوجوجو......جوجوجوجوجوجو
إستخدام (جو) هنا وكما يقترح المدون هيثم يحيي أحد الذين تصدوا لتحليل الأغنية أنها تطوير لكلمة (روح) التي إشتهرت بها الأغنية الشعبية ، وهي الكلمة التي غالبا ما يرددها التباع(مساعد سائق الميكروباص) لتنبيه سائقه بإنتهاء تحميل وتفريغ العربة، فتصبح جو أي إذهب تثاقف ميكروباصي شهير للتأكيد علي معرفة الإنجليزية، وتمتلئ العبد والشيطان بتلك الروح التثاقفية، فخطاب العبد غالبا ما يستمد لغته من لغة الداعية الوعظية والتقليدية فيما الشيطان مثقف بلغة الطبقة الوسطي، ممسك بعامية الشارع كما بتفاصيل الفساد الخاصة بنفس الطبقة فيقول مثلا:
" الشيطان قال للعبد:
لو تشرب يامنيل
...حتحس إنك عيل
بقزازة كونياك ..الهم حينساك
آههه...ولع"
المدهش هنا أن الكونياك كمشروب كحولي قوي غير معروف كذوق لتلك الشريحة بل إن الموضوع وصل إلي إستحضار مشروبات أخري:
" وبقيت تلعب بوكر
وبتشرب جون ووكر"
فيرد العبد علي الشيطان :
" من بعد ما طاوعتك
مابقتش عارف أعيش
ودتني لحد النار
وهناك ماعرفتنيش"
لاحظ هنا كيف يكشف الشيطان عن روح عصرية في رده، وتلاعب بالعامية واللغة الدارجة المستخدمة يوميا داخل تلك الطبقة :
" ما تنفض وتهلس
ما تهرتل وتفيس
لو عايز تتنمرد
طب ما انت كويس
ماتطلع وتبقشش
ولا انت ابن لازينة
ما تولع وتحشش
ولا احنا في بنزينة"
فيرد العبد:
" حاسبلك المعاصي وازور رسول الله
وان جيتني حبعدك بآيات كتاب الله
وما دام حرجع أصلي
مش حتعرف توصلي
والناس بقي تتعلم
من كل اللي حصلي "
المدهش أيضا أن الأغنية التي إنتشرت بسرعة فائقة عبر المنتديات بقت مجهولة المصدر، ففيما عدا إسم محمود الحسيني لا يعرف الجمهور المستهلك لها في أغلبيته صورة محمود الحسيني نفسه، وكأن جزءا من سحرها بقاء مبدعها عصيا علي الصورة، أللهم وسط مجموعة ضيقة ممن شاهدوه في الأفراح الشعبية، وهو مايتناقض فعليا من عصرية الوسيط الغنائي الذي تلعب الصورة فيه في زمن الفيديو كليب الدور الأهم، لذا لم يبد غريبا –وإن بدي غرائبيا- أن يقدم جمهوره الأغنية علي موقع اليو تيوب ممنتجة علي مادة راقصة لفتيات أوربيات يرتدين ملابس ساخنة ويحاولن الرقص الشرقي!! وكأن الشيطان نجح فعليا في حواره الحقيقي أو كأن المعلق الساخر قد إنتصر منطقه حين قال:
" ماتقعدش جنب الحيطة
...الفرح بقي زيطة
حط الزيت ع الفول
...الفرح ولع قول
قول يانجم قول
ولع
جوجو...جوجو...".