سيبونى اتوه

كائنا ما كان ألا أوجد كان هو الأفضل

السبت، نوفمبر ٢٤، ٢٠٠٧

حاسس أنك وحيد ....أهلا بك في مدينة أنفاق إغتراب القاهرة


حاسس أنك وحيد ....أهلا بك في مدينة أنفاق إغتراب القاهرة
ممالك الخيال المشنوق داخل عربة المترو
هاني درويش
"حاسس أنك وحيد ..
علي الأقل في إتنين غيرك
بيبصوا علي الإعلان دا
حاول تلاقيهم ..
خليك أكتر فضول
خليك أكتر نوكيا"
هل كان مصمموا هذه الحملة الإعلانية يدركون بحق حجم الوحدة التي تنتاب راكب مترو الأنفاق في القاهرة؟.لو فكروا قليلا لأدركوا أن "نوكيا" وأخواتها تحديدا هم اكبر السياجات الإغترابية التي تحيط براكب المترو ، هم أكبر من يعطون نفس الراكب إحساسا مزيفا بأن وحدته التي تستمر عبر محطتي الركوب والوصول ليست كاملة ، فمن يرفع بهاتفه المحمول ويعلي من صوته مسمعا من حوله عبر المكالمة أنه ليس بوحيد ، من يستقبل مكالمة فيبتسم ويعلق علي الحوار بجمل تحيل إلي حواره العقلي ،كلاهما يكسر حاجز إغترابه الذي يجعله فيما قبل المكالمة وبعدها مجهولا للمحيطين من حوله ، شذرات من حوار الطرف الظاهر في المكالمة تنبء بنوعية ذلك المجهول ، لغته ، علاقته بالمتصل ، عمله وأحيانا إنشغاله بأمر ما ، أو تفكيره بمجمله ، ينصت المحيطون تقريبا في هذه المعلومات وقد خرجوا من عزلة إستراحاتهم علي جوانب المترو أو تعلقهم كالذبائح في الحلقات المدلاة من سقفه ، ينتبهون بلفتة عين لمعاينة الغامض العشوائي وقد تساقطت منه إعترافات ربما تقطع حواراتهم العقلية التي لن تخرج عن حدود ما ينتظرهم في محطات الوصول ، أو كيف تركوا الحياة قبل محطة الركوب ،فبمجرد دخول تلك العلبة المعدنية متدافعين من الأرصفة يتركون أجسادهم لعبث التزاحم الإضطراري وينصرف العقل إلي شؤونه ، وكأن في تسليم الأجساد وإحتكاكها المستسلم طوق نجاة للعقل ، يحكي فالتر بنيامين في كتابه الهام "شارل بودلير ...شاعر غنائي في عصر الرأسمالية العليا" كيف خلق الترام نقلة نوعية في شكل العلاقات الإجتماعية لركاب المدن ، ففترات الإنتظار الطويلة علي أرصفة محطات القطارات التي تسمح بقيام علاقات إجتماعية بين ابناء المواعيد الواحدة تحولت إلي غربة عنيفة مع ترام كهربائي سريع ينقل الركاب دون إنتظار إلي محطات الوصول كغرباء لن يلتقوا صدفة في أي يوم لاحق ، إحساس التربص بالآخرين المجهولين الذين يمثلون خطرا علي الفرد يتعاظم ،ويبقي النظر وإستعراض البصر مثقالا لتكوين إنطباعات سطحية عن الآخرين ، فيما الربط السريع الذي ينقل عمال الأقاليم من الضواحي إلي قلب المدينة المالي والبرجوازي يشيع في اجواء الراكبين للترام / المترو ذلك الإحساس بالقوة الجبرية لسلطة المدينة ، فعند بوابات الدخول إلي المحطات تنتهي سيجاراتك وبصاقك التي تعاقب عليها الغرامات القانونية ، وبهذه التذكرة الصفراء الملتقطة من شباك زجاجي عبر طابور منتظم يتحول الراكب إلي رقم بين محطتي الركوب والوصول ، تصبح التذكرة الصفراء بطاقة هوية مؤقتة تنظم علاقة المناخ التسلطي لنظام الأنفاق بركابه ، يترك الراكب عند أبواب المترو كل خصوصيته لينتظم كقطعة اللحم التي تتحول إلي سجق فوق سلالمه الكهربائية ، فاصل دقيق بين عالمين تبدأ بالتهيؤ له من مداخل المحطة وسلالمها الخارجية ، ثم الإقتراب من الشباك الزجاجي و"كوته" التي يحدث بها تبادل التذكرة بقيمتها المالية ،ثم اخيرا عند ماكينة الدخول ذات القضبان الدوارة التي "تختم" هويتك المتروية .
في مترو أنفاق القاهرة الذي يخدم نحو ثلاثة ملايين شخص يوميا علي أقل تقدير رسمي، إستفادت الدولة من حكمة قمع القادمين من الضواحي التي حكي عنها "فالتر " في باريس البواكي ، فنهايات الخطوط ( المرج ، المنيب ، حلوان ، شبرا الخيمة ) هي أنابيب دخول الريفيين لقلب المدينة ، من الصعيد (المنيب ، حلوان ) ومن الدلتا (المرج ،شبرا الخيمة ) يدخل الملايين يوميا للعمل بالقاهرة أو لتخليص أوراق مع الجهات المركزية ، للعلاج كما للترفيه ، ومنذ اللحظة الأولي لدخولك تلك المحطات تضعك المدينة عند عتبات القمع الأولي ، أنت مراقب بالكاميرات الأمنية ، ممنوع عليك حمل الأمتعة الثقيلة – دون حدود قانونية محددة بل وفقا لأريحية ضباط أمن المحطات -، ممنوع من التدخين ومن تفويت مترو ، من الحديث بصوت عالي أو الحركة المريبة – دون تحديد معيار قانوني واضح لما هو مناسب أو غير مناسب- ينتشر عساكر وأفراد الأمن السريين والعلنيين لمراقبة كل شاردة وواردة في عالم الرصيف فقط ، وبمجرد صعودك من الأبواب يمثل جسد المترو المعدني المندفع حاضنة لأجساد جري تهذيب سلوكها بتأن ، أجساد منحشرة لاأكثر تتشارك مسافات ضيقة لاتسمح حتي بكسر النظام ( اللهم في لحظات عدم الإزدحام النادرة التي يتفنن أطفال المدارس في اللهو بها داخل العربات وحينها تتصاعد لعنات الركاب الكبار سنا متندرين علي عبث الأجيال الجديدة) ، في وسط هذا المشهد يتأفف الجميع من التلامس اللاإرادي الحادث مع حركة المترو، يتبادلون أسفا بتقدير للأسف في مشهد مسرحي معتاد ، يتحول إلي معركة في بعض الأحيان لوكان التلامس عمديا من ذكر إلي أنثي ، أما في حالة العكس عندما تلامس إمراءة رجلا فهذا مسموح به ، يتزاحم الركاب علي التعلق بالمساكات المتدلية من قضبان رأسية تسري في جسد العربة ، ويتدفقون في تيارات تتناوب الوقوف أمام المقاعد المكتظة التي تعد بفرصة جلوس قريبة ، الكنبة العرضية في المترو الجديد ( خط شبرا /الجيزة ) والتي تتسع بالكاد لأربع جالسين مستريحين تستوعب جليس خامس بالتضييق علي الحمولة المحددة ، الجليس الخامس غالبا مالا تستريح موخرته بالكامل بل يبقي مشرئبا للخارج قليلا فيحدث هذا الخلل كسرا في صف المنتظرين أمام المقعد العرضي ، إذا كنت من أعضاء هذا الصف المنكسر سيواجهك الإعلان التالي علي شريحة أعلي المقعد:
"لسه شويه علي ما توصل .
ممكن تسأل اللي جنبك عن أخباره !
خليك أكتر إجتماعية
خليك أكتر نوكيا ."
يصفع هذا الأعلان وجوه الحاضرين ، ربما لأنه وهو يرصد ذلك الصمت الحجري للمتجاورين الغرباء يطرح حلولا تهكمية لا أكثر ، لقد صمم هذا الفضاء تحديدا لإعلاء هذا الصمت ، لتصبح الكتلة الواحدة الملتحمة كلا منفيا ، حتي لوخرج أحدهم من صمته سائلا من يجاوره عن اقرب محطة تصله مثلا بحي عابدين ، سيتبرع أكثر من شخص بإفهام المتسائل كيف الوصول إلي تلك المحطة ، غالبا ماسيكرر نفس الشخص سؤاله مع تناقص المحطات التي تقربه إلي مبتغاه، وكأنه قد تشكك في كل ماقيل له ، وسيعبر المؤكدون له علي إقتراب محطته عن نفاذ صبر مدهش قبل أن يتبرع احدهم قائلا : حتنزل معايا ، يحتاج الغريب – وهم كثر يرتدون الجلاليب من محطات الضواحي البعيدة- إلي دليل مديني ، ضرير بكامل عيونه المفتوحة يتأمل تتابع لافتات المحطات من النوافذ الزجاجية ، متوترا سيقترب من الباب ، وحتي لو إلتزم النصيحة وصاحب دليله العشوائي حتي مخرج محطته ، سينسي أو سيتعمد ألا يشكره ، فإحتمال أن يكون ضحية منتظرة للعبة أبن المدينة المتبرع بالنصيحة قائم ، ستصفح السماء وجهه وهو يصعد سلالم المخرج ، يتنفس الصعداء ويبصق بكامل حريته فقد نجا من مصير الموت إختناقا في هذا الأنبوب البشري .

صحفيو مصر بين بؤس السياسة وبؤس المهنة


مكرم ورفقاه ....ينقلون المعركة مرة أخري من السلم إلي الرصيف
هاني درويشأفرزت نتائج إنتخابات مجلس نقابة الصحفيين المصريين الأخيرة عدة ملامح لأزمة النخب المجتمعية التي تصدرت حتي فترة قريبة صدارة مشهد الصدام مع الدولة ، فالصحفيون المصريون البالغ إجمالي عددهم 5100 صحفي كانوا الأعلي صوتا في فترة الحراك السياسي الذي شهدته مصر في الأعوام الثلاثة الأخيرة ، وبدي مشهد إنتصارهم في دورتين متتاليتين علي قوائم الدولة ونقيبها بشارة تأسيسية لعلاقة جديدة بين الدولة و النقابات المهنية المغيبة إما بالتجميد كما حال نقابة المهندسين ،أو بالتهميش كما نقابة الاطباء ، أو التضييق كما الحال مع نقابة المحامين ، وأستبشر الجميع بإنتصار جلال عارف وتشكيلة مجلسه ذات الغالبية المعارضة في أن تلعب نقابة الصحفيين دور الرافعة التي بدورها ستدفع للأمام كسر سيطرة الدولة علي حيز المجتمع المدني ، خاصة وان تردي الأوضاع المالية لغني النقابات المصرية جعل من تسييس الفضاء المطلبي علكة في أفواه المجلسين السابقين ، فحدث إستبدال عنيف لفكرة النضال النقابي بفكرة النضال الواسع تحت شعار " ثوريون بلا ثورة علي سلم النقابة " ، وأصبح سلم المبني الفخم الذي يوشي بحجم فساد عهود الولاية الحكومية علي النقابة أقرب إلي ساحة إفتراضية لكافة أشكال الإحتجاج من جانب كل الحركات الإحتجاجية التي شهدتها مصر في الفترة الماضية ، بمعني آخر أن فضاء الإحتجاجات التي بدأت بجغرافيا متسعة –كالميادين الكبري- إنتهت بنحو عشرين سلمة من الجرانيت الأسود أمام النقابة أدمن خلالها المحتجون في منطقة دورهم الإحتجاجي علي حدود مراقبة كم من كاميرات الفضائيات الشهيرة ، وتبعا لتهافت ما أنتهت إليه معظم الحركات الإحتجاجية من خمود وتفتت – يمكن النظر هنا لما آلت إليه حركة كفاية مثلا- إنفض الزخم ليعاود الصحفيون المصريون حساباتهم المبنية علي المكسب والخسارة في معركتهم مع الدولة ، فتحت شعار " أحلي من الشرف مفيش " تمرد الصحفيون وأتوا في المجلسين السابقين بنقيب معارض ، لكن الأخير لم تبن له كرامة سواء في مواقف الصدام الحقيقة مع الدولة أو في خلخلة بنية العلاقة المشوهة للمهنة ومشتغليها ، ففي عصر جلال عارف عرف الصحفيون لأول مرة احكام الحبس بالجملة دون أن يدفع ذلك الثوريون النقابيون إلي التصعيد ضد الدولة بعقد الجمعية العمومية وحشد الصحفيون فعليا لواجهة الحقيقة ، بل وقبل ذلك وتحت ضربات المصالح المتعارضة لثوريو مجلس النقابة إنفض المجلس غلي ثلاث كتل رئيسية ، الأولي كتلة الإخوان ببرجماتيهم التاريخية التي حافظت علي تمثيلهم داخل لجان المجلس الحساسة – كلجنة الحريات ولجنة الصحة - ، والثانية تلك التشكيلة من الناصرييين والقوميين بدرجات طيف يسارية واضحة ، والثالث أعضاء موالون للدولة كانت كل مهمتهم خلال المجلسين تسجيل المواقف علي المجموعة المسيسية وتفعيل نشاطهم الخدمي الذي سرعان ما جنوا أرباحه لاحقا ، ووسط الفريق الثاني والذي احدث بدخوله لأول مرة تلك النكهة الحنجورية المسيسة شب حريق تضارب المصالح علي قضايا سؤ إستخدام السلطة فتلوثت سمعة الجميع – حين توسط مثلا عضو المجلس الناصري الشاب لمنح العضوية لأبنة صاحب الجريدة الخاصة التي يعمل بها وهي لاتعمل أساسا بمهنة الصحافة -، ونحن هنا نتحدث عن مناخ عام ربما يري فيه كثير من جموع الصحافيين أن ماتم إقحام النقابة فيه تم لصالح جهات حزبية وسياسية بلا بوصلة واحدة ، ومشهد عضو المجلس الإخواني محمد عبد الفدوس بميكرفونه الذي لايفرق معه نوع القضية طالما هناك شتيمة للنظام كان أبلغ دليل علي ما أصاب النقابة من " غواية فارغة " بالتظاهر ، دون فائدة واضحة – اللهم طق الحنك كما يقول اللبنانيون -ودون أن يشارك أو يوافق جموع الصحفيون علي ذلك ، أصبح سلم النقابة ككقاعاتها مؤجر لأي معارض لأي قضية ،لدرجة أن نقابي عمالي فاسد وموالي لأحد الوزراء إحتله ببلطجيته لضرب نقابي يساري ، لكن أكثر ما ضر الصحافيون من مجلس " الثورة " السابق كان تناغمه الفريد مع مصالح المؤسسات الصحفية الكبيرة ومجالس إداراتها ، وهو المعني أساسا وفقا لبرنامجه بفك قيود إرتباط النقابة بمؤسسات الدولة ، لكن الواضح أن ماتمثله تلك المؤسسات- تحديدا الأهرام والأخبار – من كتلة تصويتية كبيرة داخل الجمعية العمومية هو ما دفع كثيرون من ثوار طق الحنك إلي موالة بعضا من خرائط الفساد المؤسسي في تلك المؤسسات ، فكان مجلس "الطيب " جلال عارف أقرب لمن إرتدي بدلة واسعة ومشي خجلا من نفسه ، مجلس أقرب إلي نظرية بقاء الوضع علي ماهو عليه افضل من تدهوره ، وبينما خلت الكتل المعارضة الكبيرة من نقيب ذو شخصية كاريزمية ، تقدم مكرم محمد أحمد بهدؤ نحو منصب النقيب ، لم تدعمه الدولة في البداية وظل ينتظر وينتظر إشارتها ، فيما الدولة فعليا لاتملك مرشحا قويا بعد ان ضحت في حركة تغيير رؤساء مجلس مؤسساتها الكبيرة بآخر القيادات ذات المهابة والنفوذ والمال، راقبت الدولة كثيرا الصحفيون عن بعد ،وأدركت ان السنين العجاف " في زمن جلال عارف" قد شدت بطون جموع الصحفيون جوعا ، لم يقدم جلال عارف إلا بؤس السياسة وبؤس المهنة ، ولم يتبقي من بشائر الثورة إلا إستظلال الصحفيون بمصالحهم الشخصية ، بنفحة الزيادة التي قد تقررها الدولة في اي لحظة لأي مرشح كعظمة الكلاب التي ترميها لتجذب إنوفا أرهقها النباح ،ولم يؤخر الصحفيون الإستجابة ، نضجت المواجهة علي ماء فاتر ، تحدث رجائي عطية " مرشح المعارضة الناصرية واليسارية ضعيف الحضور" بكلام سابقه جلال عارف ، لكن في لحظة إنطفئت فيها الهمم لم يلق آذان صاغية ، وحتي من كانوا حوله كانوا مدركين صعوبة عودة الزمان إلي الوراء ، فيما اعلنها مكرم واضحة " أنا نقيب التفاوض مع الدولة ...ومن يريد نقيب الصدام فقد جني علي نفسه " ، وذلك بعد ان قدم أوراق ثبوتية للنظام بموقفه الباهت من أزمة حبس أربعة من رؤساء التحرير بحجة إشاعة مرض الرئيس ، وهي الأزمة التي وضعت المسمار الأخير في نعش المجلس المنصرم ، وكما يعرف مكرم كذلك كاحد الأعداء التاريخين لسيطرة الإخوان والمسيسين علي النقابة ، عرف سابقا – حين تولي النقيب لدورتين متتاليتين نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات- بمواقفه المهنية الجيدة ، وكل ذلك مع الأخذ في الإعتبار تكوين المجلس الجديد من كبري المؤسسات الصحفية – 4 أهرام ، 3 اخبار – يجعل من المجلس الجديد مجلس الخدمات النقابية الجيدة ، لذا لم يكن غريبا أن تمنح الدولة قبل الإنتخابات وعدا لمكرم –عبر رئيس الوزراء – برفع الأجور 200 جنيه مرة واحدة ، ولنا أن نتخيل قيمة هذه الزيادة علي الصحفي المعين حديثا في مؤسسة كالأخبار والذي يبلغ إجمالي اجره نحو 350 جنيها ( حوالي 70 دولار شهريا ، كما وعد مكرم شباب الصحفيين بمشروع سكني ، وجاء باقي الفائزين في عضوية المجلس من محرري صفحات الخدمات في الجرائد القومية ، كمحرر الإتصالات ومحرر التعليم ومحرر الداخلية ، وهم المحررون الذين يسبحون في محيطات الفساد المؤسسي الكبيرة ، بمعني آخر فقد صرخت الجماعة الصحفية صرخة صعايك السينما المصرية " عض قلبي ولا تعض رغيفي " وأدرك الجميع أن النضال لم يحفظ الكرامة الثورية خاصة أنه لانبل لمهنة فقيرة إقتصاديا ومهارتيا ، إختار الصحفيون مكرم ورجال لجنة الساسات في مجلس سيعيد الكرة إلي ملعب النضال علي الرصيف المقابل لسلم النقابة ، فهل تصدق نبؤة البعض بأن تاريخ النقابة لم يشهد إنجازا واحدا في أي مجلس معارض ، بينما تحققت كل الإنجازات في ظل مجالس الحكومة ؟ ... تاريخيا هذا ما حدث فقد إستطاعت الجمعية العمومية للصحفيين منع تمرير قانون الصحافة المهين منتصف التسعينيات في عهد نقابة إبراهيم نافع الحكومي ، ودخل مكرم بنفسه سجن طرة حين كان نقيبا وأضرب محتجا علي إعتقال صحفيين في أحداث الحديد والصلب نهاية الثمانينيات ، وهو ما يؤكد أن جموع الصحفيون المصريون لا يستعيدون وعيهم إلا تحت مطرق نقيب حكومي، ربما علي عكس الميكانيزم العام للشعب المصري الذي يرزخ لنحو 26 عاما تحت سلطة رجل واحد دون أن يسبب ذلك له أي غضاضة .

يونس شلبي .... رحيل من أنكرته الحياة طفلا ودمية


عن "حيرم " الإسم الذي لم نكرههه لكننا لم نحبه كفاية
يونس شلبي ...رحيل من أنكرته الحياة طفلا ودمية
هاني درويش
كنا صغارا ندرك أن الأسماء التي أطلقناها ساخرين علي بعضنا البعض ستبقي عالقة بنا للأبد ، لذا كان الخوف من أن يخرج الأسم الساخر من حدود معايرة الأهل إلي المدرسة خوف لاتعرف كيف نعالجه في ليالي الجمعة الرتيبة التي تسبق أول ايام الأسبوع الدراسية ثقيلة الظل ، كيف كان سيكون نصيبي من الضحكات إذا ما سرب أخي الصغير إسم "منخر " إلي أعدائي في الفصل ، إينعم كنت سأنتقم منه بتعميم إسمه "أبو راسين" لكن ذلك لم يكن مخففا من وقع أن يلاحظ زملائي وخاصة البنات منهم حجم منخاري الكبير ، تهالكت الأسماء سريعا عندما إستبدلناها في المرحلة الإعدادية بالدارج من شخصيات مشوهة قدمتها الدراما فكان هناك "حيرم " و" وحنفي الونش " و " علي بك مظهر" ، طبعا كانت تلك الأسماء تبدو مضحكة لو تخيلنا صاحبها الذي يحمل إسما خفيفا مثل "هاني "أو "تامر " وهي أسماء جالبة للسخرية بطبعها مع شيوع الأسماء التقليدية مثل "محمد " و "أحمد" داخل نفس الجيل ، هكذا مثلا يصبح "تامر" "حيرم " لمجرد أن رأسه الكبير وتلعثمه الهازل حين يحكي وكرشه المتدلي دون إفراط ، كانت جميعها تشبه "يونس شلبي " في مسلسل " عيون" ، لكن تسمية "تامر" ب"حيرم" لم تكن بالإزعاج الكافي لمن يحملها ، لانها ببساطة تتجاوز المفارقة الشكلية للإسمان ، حيث "حيرم" رغم هزلية الإسم والشكل كان طيبا – في المسلسل- مخدوعا وربما مقموعا ومن هنا كان التعاطف معه ، لا ليس التعاطف وحده بل الخوف من أن يكون مصيرك كمصير من إختصه الله بالذكاء العادي أو ما دونه بقليل ، وهذا تحديدا كان ملمح الكوميديا الفارقة التي قدمها " يونس شلبي " أجمل فناني جيله والذي رحل هذا الإسبوع عن عمر 66 عاما ، لم يكن يونس شلبي بين أبناء جيله ذلك النجم الذي يستمد رصيده مما هو أبعد من نفسه ، من صفاته الداخلية الحميمة التي تركزت في شخصية طفل لاهي لم يتجاوز الثانية عشر من عمره ، ذلك الطفل الذي لايكذب أبدا ، وإن إضطر للكذب بدي مثل طفل تلطخ وجهه بالمربي فجري إلي أمه صارخا وهو يحاول مسح وجهه بكم القميص " والله ياماما مش أنا اللي كلت المربي " ، لذا كان من الطبيعي أن لا تحمله تلك الموهبة لما هو أبعد من زغزغة ذلك الطفل المخبؤ داخلنا ، خاصا وان جيله الذي ظهر معه مثلا تنوعت به تلوينات للكوميدان الأكثر ذكورة ، نعم ذكورة وكأن الطفولة هي نقيض الذكورة ، ولنحلل مثلا مشهد هذا الجيل في مدرسة المشاغبين – العمل الأهم الذي قدم يونس ورفاقه مكرسا نجوميتهم أواسط السبعينيات- كانت الأدوار قد وزعت بعناية لتخلق ذلك التناغم المفترض في مدرسة ثانوية حكومية ، إبن رجل الأعمال الذكي الذكوري المختال "بهجت الأباصيري " –عادل إمام-الذي يمثل العقل(المخ) الشقي الناظم لمؤامرات الفصل ، ثم هناك في موازاة هذا الثقل تماما " مرسي الزناتي "- سعيد صالح- إبن المعلم الشعبي الذي يمثل العضلات في معادلة ( المخ والعضلات ) الحاكمة للسلطة داخل عصاية المراهقين ، بعيدا وفي قاع الشخصية الموازية المقهورة أحمد ، الفقير المتفوق الذي أكسبه وضعه الإجتماعي المتواضع سمت أبن الحلم الستيني المقهور في مجتمع الفصل ، وبين المستويين هناك الفنان عازف الجيتار المتمرد – هادي الجيار – وأبن الناظر المتلعثم – يونس شلبي -، والشخصيتان الأخيرتان بانتا – وفقا لما رسمه كاتب النص علي سالم – أقرب للديكورات المكملة في معادلة القوي المتطرفة داخل الفصل ، حتي عندما ترجم كل منهم علاقته في حلم إستعراضي بالمدرسة الحرون- سهير البابلي – كان اكثر الأحلام مفارقة هو حلم ابن الناظر ، يونس شلبي القصير ذو اللغد الدائري التقاطيع لم يكن اكثر من حلم فانتازيا علي شاكلة أحلام فيلليني العجائبية ، ملامحه الطفولية هي نقيض لكل القيم الإيروتيكية الذكورية ، لذا لم يكن غريبا أن تستثنيه السينما في مشاويره الطويلة (نحو 35 فيلما شارك فيه ) من أدوار البطولة ، جمده تكوينه البيولوجي عند حدود الطفل الكبير ، ذلك الطيب بلمسة بلاهة صافية كما كرس نفسه في المشاغبين ولاحقا في مسرحية العيال كبرت ، كان إبن الناظر أقرب في توزيعة ادوار المدرسة إلي إنتقام درامي من بيروقراطية الإدارة التي مثلها والده ، إنتقام كتابي من سلطة مخوخة فاشلة حتي علي إقناع إبنها بالإمتثال لأوامر النظام ، وكأنه بطفولته عد إنتقاما قدريا علي شاكلة فتوة الحارة الذي حلم بإبن يرث قوته ففاجئته الأقدار بإبن أبله ، حتي حين جنبته السينما مالا يتحمله وجعلت منه بطلا من الدرجة الثانية كما في "الكرنك" و"شفيقة ومتولي" كان وجهه الذي يشي بتلك المعالم نقيضا لأي مساحة ميلودرامية ، وكأنه علم منذ البداية ان مايملكه يقبع هناك في ذلك الطفل لا اكثر ن لم يبذل ذلك الجهد الذي بذله آخرون لتلوين أنفسهم ، سعيد صالح مثلا وهو الأكثر موهبة بين أبناء المدرسة إستطاع أن يتلون في شخصيات لاحقة ك"نزل أصيل " ، فيما احمد زكي كان الأكثر صبرا علي تفجير مالم تفجره المدرسة ليصبح فيما بعد أهم ممثل مصري ، وأستثمر عادل إمام تلوينة الذكوري الذكي ليحول نفسه لاحقا لأكثر الأبطال شعبية ببدلته الجينز ، بقي يونس شلبي سجين أبن الناظر أو " عاطف" في العيال كبرت الذي يحب بورتريه لسعاد حسني ، لكنه يحبها كمشاهد ادمن أفلامها ، يحبها كما يحب المشاهدين بطلات السينما ، لو راءها يوما ربما ترتعش يده ويغمي عليه قبل ان يسلم عليها ، هل تستطيع مثلا ان تتخيل مشهد إيروتيكيا بين قيمة صافية جنسيا كسعاد حسني ويونس شلبي ؟ ، أنه الخيال الصعب بل والمستحيل ، بل إنه في بعض الأفلام التجارية التي قدمها كبطل يحب مثل "التعلب والعنب " و" محطة الأنس "و"نعيمة فاكهة محرمة" كان أقرب إلي الزوج أو الحبيب المخدوع منه إلي الذكر المحبوب ، لذا كان طبيعيا أن يتخفي خلف شخصية "بوجي" الشهيرة التي ربما قولبت أخيرا روحه في دمية عشقها الأطفال في الثمانينيات من خلال مسلسل الأطفال الشهير "بوجي وطمطم " ، كانت نحافة بوجي لأول مرة لا تتناسب مع صوته الأخشن ، صوته الذي بدي لأول مرة ذكوريا أكثر من اللازم ، صوت لطفل عاقل وكأنه إستسلم اخيرا لمصيره بعد أن تعلق كثيرا بحلم أن يصبح كبيرا ، وتواصل عمله مع بوجي لسنوات طويلة لدرجة أن كثيرين ممن تفاعلوا مع المسلسل لم يكونوا قادرين علي الربط تاليا بين بوجي ويونس شلبي ، حيث اصبح بوجي الدمية أكبر وأكثر شهرة من الممثل القدير الذي إعتزل المهنة أو إرتضت المهنة لاحقا بإهماله ، لذا كانت برودة القلب التي واجهت نداءات زوجته المتعددة لعلاجه علي نفقة الدولة بعد إصابته بجلطات متعددة في الساق والرأس من أجل توفير نفقات علاجه على حساب الدولة أسوة بزملائه من الفنانين ، و خاصة بعدأن تخلت النقابة عنه و باع كل ما يملك لتغطية نفقات العلاج و الأدوية التي ارتفعت أسعارها بجنون ، حتى أن ثمن فاتورة " مستشفى المقاولون العرب " الذي أجرى فيه العملية الجراحية الأخيرة زادت على 30 ألف جنيه و لم يكن بإمكانه أن يتحملها ... هكذا لم تتحمله الحياة فلم يتحملها الطفل ورحل. .

في الخلاف بين جويل بينين ورؤوف عباس


رءوف عباس وجويل بنين ...المؤرخ عندما يتلبث سمت الراوي فجأة
عن الهوة العميقة بين مسارات تقاطعت وتوازت وعادت لتصطدم
هاني درويش

لاتدعي تلك المداخلة بأي شكل محاولة البحث عن تقييم جديد إسهام الأكاديمي اليهودي الأمريكي جويل بنين في كتاب " شتات اليهود المصريين" وهو عمل جدير بمساحة أخري آخري غير هذه السطور ، ولا تذهب أيضا إلي الدفاع عن التهم التي وجهها الباحث الأمريكي إلي المؤرخ المصري رءوف عباس فقد أفاض كلاهما في الحديث عن صيرورة علاقتهما الشائكة شخصيا و أكاديميا ، بل هي محاولة لقراءة قضية اخري خبأتها السطور المنفعلة لكلا الطرفين وبدت لقارئ إفتراضي يمثله كاتب هذه السطور قضية خطيرة ، وهي ببساطة كيف يمكن النظر إلي مؤرخين مختلفين النوازع والمناهج العلمية والمسيرات -بما تعنيه من تحولات في البوصلة الحياتية والإيدولوجية- التي تجعل من روايتهما للتاريخ المشترك مساحة لتفجر كل هذه العداءات ، حيث يبدو من الجزء المشترك الوحيد بين الرواتيتين أن كلاهما حمل للطرف الآخر لفترات طويلة تقديرا اكاديميا وإنسانيا تحول بدرجة أو أخري إلي عداء سافر فجرته الغواية الصحفية لزميلنا الصحفي محمد فرج حين ركز – بميل الصحفي أكثر من المحاور – علي نميمة معلوماتية تتعلق بذلك العداء المستتر فكان حواره مع جويل بنين أقرب فعليا إلي رسالة عداء سافرة موجهة إلي رءوف عباس ، فيما كان من المتوقع أن يهتم الحوار أصلا بأفكار الكتاب محل النقاش كما أوهمتنا المقدمة ، وعندما نتحدث هنا عن الغواية الصحفية نتحدث عن آفة حقيقة تتعلق بقدرة المحاور علي مقاومة إغراء المعلومات الفرعية الملتهبة التي تصحفن مادته أمام أسئلة الحوار الأهم بحيث تجرف الأولي الأخيرة ، ولايتبقي فعليا من الحوار غير العناوين البراقة المسطحة ، وبالعودة إلي قراءة روايتي المؤرخين الذين تجرءا فعليا علي تلبث سمت الرواة أخيرا خالطين الأكاديمي بالشخصي ، فمن الواضح من تحليل الشهادتان أن مسار التوافق الأكاديمي والنفسي للمؤرخين شهد لحظات من الود والتعاون ثم سرعان ماتحولت العلاقة إلي كابوس نفسي ومهني بعد أن ورث الطرفان طرقا مختلفة أكاديمية علي خلفية تحولات أيدولوجية موازية ، فرءوف عباس المتعاون عام 1971 مع باحثين إسرائيلين أمريكيين في لحظة المد القومي الزاعق لايقدم تفسيرا تاريخيا واضحا لتلك الأريحية الأكاديمية التي كانت يومها تحتسب تهاونا أيدولوجيا ووطنيا خطيرا ، وحتي مع إحتساب ذلك التأسي الرومانتيكي الذي وصف به المؤرخ المصري زيارة الباحث الأمريكي الذي تجاهل الإشارة لدوره في رسالته الجامعية لايتناسب مع روح " صفقة المؤرخين " التي حدثت في لقاءهما الثاني أواسط الثمانينات – وفقا لشهادة رءوف نفسه علي صفحات البديل - ، كما لاتتناسب تلك اللهجة العدائية المتبادلة – في الحوار والرد عليه – مع إستقبال المؤرخ الأمريكي لزميله المصري في بيته وتقديمه للمجتمع الأكاديمي الأمريكي في زيارة المؤرخ المصري في التسعينيات لأمريكا ، ثمة حلقة مفقودة بين كل ما تقدم وما كشفت عنه البديل في الحوار والرد ، واعتقد أن الهوة الشاسعة تلك لايمكن تفسيرها فقط بما أورده جويل بنين من حادثة معرفة رءوف عباس أن لأسرة الأول إمتدادات في إسرائيل –وهي في إعتقادي معلومة عادية لاتدفع لمثل هذا العداء المفاجئ كما أنها متوقعة – ولا يعود سببها لما فعله رءوف عباس برسائل هنري كوريل كما أكد جويل في حواره ، وأعتقد أن نقطة البدء لفهم هذا التحول ربما تعود لنقطة أقدم وأكثر حساسية من كل هذا ، وهي تحديدا موقف مؤرخي اليسار التقليدين من ميراث " العقدة اليهودية المؤسسة" ، و التي يمثل ذروة إحساسها السيزيفي بالذنب الموقف من هنري كورييل تلك الشخصية المستعصية علي الفهم ، وقد تقاطع المؤرخين المتصارعين تحديدا عندها في صفقتهما الشهيرة ، فقد ورث اليسار التقليدي ميراث مهانة التفسير الأولي الساذج لإشتراكية دولة إسرائيل وفقا لخريطة الطريق الستالينية الشهيرة ، وبات الدفاع عن مصير مشترك لنضال الطبقتين العاملة في كل من مصر وإسرائيل كأداة لحل المشكلة الفلسطينة إحساسا نخبويا يساريا في مواجهة واقع يتجذر فيه العداء بين مصر القومية من جهة وإسرائيل الإستعمارية من جانب ، وبدت ماكينة التبرير الإيدولوجي اليساري معطلة بالكامل عن فهم دولة إسرائيل وطبيعة دورها- اللهم إلا فصيلا يساريا صغيرا- حتي أعطي ذلك الفرصة لناصر ونظامه لضرب الحركة الشيوعية مع صعود مفاهيمه الشيفونية وصدامه الطبيعي مع الدولة العبرية ، وبقي حلم تحرر إسرائيل من الداخل عبر تثوير طبقتها العاملة المتحالفة مع الطبقة العاملة العربية مسيطرا علي مايبدو علي قطاع لابأس منه اليسار الإسرائيلي والمصري علي حد سواء ( لاحظ الإشارة إلي الراحل محمد سيد أحمد ويمكن كذلك تخيل الراحل لطفي الخولي في حوار جويل بنين) ، لكن جماعات المؤرخين اليساريين ذوي الأصول اليهودية وتحديدافي أمريكا إستطاعوا بلورة مفهوم الدولة الواحدة كحل نهائي للقضية الفلسطينية وفقا لمتابعتهم الأكاديمية النظرية من بعيد عن الصراع ، بل وإندمجوا أكثر في المناهج النظرية التي تعيد كتابة المنطقة من وجهة نظر جديدة تعلي من صوت الهامشي في تواريخ المنطقة ويمكن هنا تأمل ذلك التحول الذي قادوه في مجال دراسات الشرق الأوسط بدءا من السبعينيات وصاعدا ويمكن هنا ذكر كل من جويل بنين وزكاري لوكمان ، في الجانب الآخر نحي مؤرخو اليسار إلي إستنهاض مدرسة أقرب للوطنية القومية المصرية للنظر في التاريخ السياسي الحديث ، وهي مدرسة بطبيعتها تتشكك في النظرة الإستشراقية بطبعها ويمثلها هنا رءوف عباس نفسه ، لكن الخط الواصل بين التخصصين كثيرا ما تقاطع وتوازي وتعاون ثم اخيرا إنفصل تماما خاصا مع الهوة النظرية الواسعة التي باتت تتسع بين المنهجين ، أصبح مجال دراسات الشرق الأوسط بدءا من التسعينات يمر بأسؤ أحواله بعد أن ضيقت الحكومات الأمريكية المتعاقبة تمويله وإستسلم كثير من أساتذته للتعامل البرجماتي السياسي اليميني الداعم لربط الأكاديمية بمصالح أمريكا وإسرائيل في المنطقة ، والذي يبدو حاليا جويل بنين أحد دعائمه في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ، في حين أصبح سهلا علي رفاق الأمس ان يروا في حلفاء الأكاديمية اليسارية الأمريكية التقليدية عملاء لإسرائيل ، هكذا يمكن فهم تلك الروح الثأرية المتنامية بين جانبين كثيرا ما تبادلوا الشكوك وجاءت لحظة الحسم لتفجر اللآفا المحتبسة لعشرات السنين ، الأزمة الأخيرة والروايات المتعارضة تثبت أن المؤرخون هم آخر من يحق لهم الرواية فقد إعتادوا منهجيا أن ينتظروا الفترة التاريخية اللازمة لتأمل ظاهرة ما ، لكنهم هنا هم قلب الظاهرة و علي آخرون أن يحكوا عنهم لاحقا .

الخميس، نوفمبر ١٥، ٢٠٠٧



رمضان ... في الفراغات البينية لعنصري الأمة
الدين لله والقراءة للجميع
هاني درويش

للأستاذ عماد أنطون طلة من شاب مبكرا ، يظر هذا أكثر ما يظهر من خلل توزيع مناطق الشباب والشيخوخة بين أعضاء جسده ، له مثلا ذاك الوجه الذي يحمل شقاء إضطهاد أبناء ديانته منذ خمسة عشر قرنا ، فيما عيناه – في بعض اللحظات النادرة- تشع أحيانا ببريق طفولة أختنقت قسرا ، وحين قابلني فنان تشكيلي وأستاذ في فنون النشر الصحفي كان من دفعة الأستاذ عماد في كلية الفنون ، سألني عنه لابوصفه ذلك المصمم الفني التقليدي الذي يرسم صفحات المجلة بنظرية القص واللصق التقليدية التي إنتهت منذ ثلاين عاما ، بل كان يسألني عنه بحنين أبن الدفعة القديمة لأكثر أبناء جيله موهبا قبل أن ينطفئ عماد بقصة حبه لمسلمة بزواج من متطرفة مسيحية حرمت عليه الفن ومشاهدة التلفزيون رغم فراغ حياتهما الممتدة لبعض وثلاثين عاما من أصوات أخري، لم يمنع ذلك الحصار السيد عماد من أن يبقي علي يده شابة بشعر اسود يعارض بقايا جسده الذي ضرب شعره رماد صامت، أحيانا ما تنفلت يده فيرسم بورتريها غامضا – ربما تذكرا بأيام الموهبة الأولي – لكنه سرعان ما يمزق الوجه البادي التشكل بضربات عنيفة ، ضربات لاتتوافق مع سمته الهادئ وإبتسامته الحجرية اللانهائية ، تلاحظه جالسا بعد إنتهاء يوم العمل منتظرا مديره القمعي في عربته وقد أدار الموتور ليسخنها إنتظارا لحلول رئيسه المباشر الذي إنسحق أمامه منذ عشرين عاما ، هائما في نقطة عمودية فارغة أمامه فيما ادخنة السيارة موديل السبعينات تتصاعد ، عندما دخلت عليه في ثاني أيام رمضان وقد خلت قاعة المصممين وجدته وحيدا يقف في منتصف الحجرة وعلي وجهه علامات بؤس ربما تكون الأصدق منذ شاهدته لأول مرة ، سألته عن الزملاء فرد " كلهم راحوا يفطروا ...رمضان كريم " ، فسألته : وأنت حتعمل أيه؟ ، مالك شكلك متضايق، فرد : مفيش ...رمضان والواحد صايم ، سألته : أنت صايم ياعم عماد؟، إبتسم وقال : آه أصل الواحد بيحب يدخل في الأجواء الروحية دي مع الناس ...أصلي بحب الصيام ، كنت علي وشك ان أرد عليه " مش كفاية أنك بتصوم ثلاثة أرباع العام الصوم المسيحي الأرثوذكسي ، إلا اني تذكرت أن محاولة فك تلك التناقضات بشكل مباشر عادة ما تؤدي لكوارث وإنهيارات ، تركته وأنا المفطر المسلم عائدا إلي غرفتي المجاورة لغرفته وأنا أعلم أن الفاصل الخشبي بين غرفتينا سيسيمح بتواصل الحوار كلا في مخيلته ، ويخاف عماد تحديدا من أمثالي ممن لاملة ولادين لهم كما يسمونني ، لأن أمثالي المتحابين مع فكرة الدين من بعيد لبعيد والمقدرين لأهميته دون السقوط في حبائله لايملك هو أمامهم تبريرا ، وكأن لسان حاله يقوك : اللهم أعني علي أصدقائي – في هذه الحالة أنا - أما أعدائي( أعداء ديني) فأنا كفيل بهم ، أمثالي يوترون المسيحيون لأنهم لا يستطيعون تعريف أي معركة إلا بوجوهها المعروفة ، معركة صامتة تدور بين اي مسلم ومسيحي في الحيز العام ، معركة مفهومة ومشرعة ، لكن عماد أنطون لايعلم كيف يدعي أمثالي عدم التورط فيها أصلا ، لذا يحمل أمثالي أعباء كراهية مضاعفة من عماد أنطون، لأن الأخير يعتقد فيما أحزانه تتوالي أنه شهيد معركة أصيلة فيأتي إليه من خارج الملعب من يمر خفيفا ليهز فكرة المعركة والشهادة من الأساس، يتحد عماد اكثر بصفات عدوه ويراني خارجا عن الطائفة ( المعركة) بوصف المتنازعين في معارك التنابز الديني أبناء معركة واحدة ، حتي لو رفع كل فريق هلاله وصليبه ، حتي لو كانت فرصة الشهر الكريم تفصل في الحيز العام ضمنيا بينهما ، يحاول عماد ومن علي شاكلته التأكيد علي محبة العدو بالإمتزاج به بالصيام مرة ، وبملئ فراغات الصائمين في العمل في إطار " الأجواء الروحية " ، هذا تكنيك تتبعه طائفة واسعة داخل الخندق المسيحي ، فيما تلعب طائفة أخري علي فكرة ان الشهر الكريم فرصة لإبانة التمايز ، في مترو الأنفاق مثلا يفرض الصيام علي المسلمين ملامح عامة ، صرامة وإنهاك ووحدانية وفي معظم الأحيان نفاذ صبر عند اول المنحنيات ، هناك ثمة جفاف مشفوع دائما بكلمة " اللهم أني صائم " والتي لاتكفي وحدها لإطفاء حرائق الإحتكاك اللإرادي بين الناس ، وكأن الصيام يعطي مشروعية كي تتخفف نسبيا لامن ذنوبك وحدها بل وأيضا من حسناتك ، هناك مناخ من الإستعراض العام مناسب للشهر ، رنات الهاتف التي تحمل أدعية دينية وإعادة إكتشاف دعاء "مولاي " للنقشبندي في رنات مجسمة ، أصوات متداخلة من القراءات الجهرية بأصوات منغمة متباكية ، وصمت نوم وتثاؤب وإراحة للروؤس ، وكان الصيام إرتبط بالإنهاك العام ، في موازاة ذلك يظهر المسيحيون في ثوبين ، ثوب يدعي إستمرار المعركة (كما حال عماد أنطون) فينكفئ علي وجهه داخل كتاب ديني مسيحي يمعن في إظهاره للتأكيد علي شرف المعركة وإستمرارها بنفس قانونها الأساسي ، ونصف ينفلت مستوعبا كل الطاقة السلبية من حوله ليحولها إلي تألق في الحيز العام ، يصبح صوت المحادثات العادية التي تحوي ضحكا أو صوتا عاليا أو أريحية في لغة الجسد نغمة كاسرة في فضاء عربات المترو لتثاؤب المنهكين وهمهمات المتبتلين ، وكأن الطاقة قد سحبت بالكامل من جسد العربة لتطل في شرارات كهربية عند أحد الأبواب أو علي مقعد منزوي ، في الحالة الأولي هناك تنابز بالكتيبات والمصاحف في لغة صامتة ، وفي الحالة الثانية هناك كسر لإيهام المعركة بثنائية الحيوية والخمول ، يظهر هذا مثلا في لحظة الإفطار عندما تلاحظ في أنفاق المترو جري الصائمين – دائما من محطات قلب المدينة نحو أطرافها – وتمهل المسيحيين في المشي في الإتجاه العكسي – من محطات الأطراف نحو محطات القلب - ، الصائمين منهكون قد إنتهي يومهم يحاولون اللحاق بمشهد النهاية حول مائدة الطعام ، والمسيحيون متأنقون وكأنهم يستغلون فرصة خلو الشوارع من الناس للظهور متأنقين وقد إستعدو للسهر المبكر ، يتقاطع الطرفان أمام شباك التذاكر مثلا ، من يحاول اللحاق بآخر مترو ، ومن يوسع مكانا بثقة للمتعجل لأنه يستطيع الإنتظار ، من ينتظر خلاء المدينة ليتمدد وحده في ساعات الإفطار الخالية من المارة ، لا يتعجل في دفع التذكرة وكأنه يقدم لجسد الآخر ( العدو) فرصة الإنفلات كي يتحقق له إنفلاتا موازيا، إزاحة تخرج المجموع ليبقي الهامش مسيطرا ولو لساعتين ، هكذا تعرف لحظة الإفطار مشهد علي عكس الشائع في علاقة الطرفان ، الأقوي ينزوي ويدخل بياتا شتويا ليحيا الأضعف ربيع قصير ، أما عم عماد أنطون الذي يقف وحيدا فهو يعلم أن المعركة لانهائية ، وأن تكنيكه الثابت في إشاعة جو " الدين لله والمجلة للجميع" فهو مناسب كي يبقي لدي الطرفان أوهام أننا أبناء وطن واحد ، ليقول قائل مستلهما حكمة الأيام الخوالي : والله دا كان معانا عم عماد في الشغل ، بيصوم زي المسلمين ، ويتكسف ياكل في رمضان ، وكمان بيدخن في الحمام علشان ميجرحش شعور الصايمين ، ويشيل الشغل عن الناس،وفي الحج يطلب سبحة من اللي جاي من الحجاز " .

تاريخ الإستشراق الذي لم يكن يوما إلا في المخيلة


تاريخ الإستشراق ..الذي لم يكن يوما إلا في المخيلة
المركزية الأوروبية التي يؤكدها بن لادن ورفاقه
هاني درويش

لم يكن الإستشراق يوما إستشراقا ، بمعني أنه لم يكن فيما تعني اللغة إرتحالا من وجهة ثابتة نحو الشرق ، هكذا علق صديق مقرب فيما كنت أناقش معه بعضا من أفكار ذلك الكتاب الساحر " تاريخ الإستشراق وسياساته ..الصراع علي تفسير الشرق الأوسط " لزكاري لوكمان الصادر حديثا من دار الشروق في ترجمة بديعة للباحث السياسي المتميز شريف يونس، أحدد من البداية أنه مناقشة لبعض أفكاره لأن مجمل هذه الرحلة التي يقدمها الأستاذ البارز في قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة نيويورك تمور بالكثير من النقاط التي لابد من التوقف عندها طويلا ، فالكتاب كما يبدو من عنوانه الدال يمثل تاريخا للمصطلح عبر رحلة إكتشاف الغرب للشرق ، وهي الرحلة التي يؤكد المؤلف أنها رحلة ذهنية سافرت في خيالها نحو الشرق أكثر مما سافرت واقعيا إليه ، فالشرق الذي يتحدث عنه زكاري لوكمان ليس مجرد الإسلام، هو أي بقعة خارج مركزية الرؤي الأوروبية للعالم ، مركزية إكتشفت مبكرا موقعها كهوية شبه مميزة في مواجهة الغير الجغرافي مرة ، والغير الديني مرة ، ثم الغير الحضاري مرات ، لذا تبدو الرحلة في تاريخ الإستشراق رحلة في تلافيف العقل الغربي نفسه وهو يحيط قرنا تلو الأخر هويته بذلك السياج من المعرفة بالذات الذي يضع داخله منجز بشري ضخم من الإيجابيات فيما يرمي خلفه مانحا للغير – الآخر – كل مثالب البشر ، وهو ما يجعل الإستشراق أكثر من مجرد بحث يخصنا نحن كموضع لمثالب البشر ، يجعله ساحة مشرعة علي صراع من الهويات التي تحاول إحداها فرض تصوراتها علي الجميع ، وهي التصورات نفسها التي تسللت بخبث شديد حتي إلي داخل نخب من المثقفين واصبحت منطلقا ثابتا لخطاب تمايزهم الفكري في صراعهم مع الآخر ( الإستشراقي).
خطاب المركزية الأوروبية خطاب متأصل في عقل الأوربيين حتي قبل إدراكهم لكونهم أوربيون ، فاليونان القديمة التي قدمت فلسفتها وعلومها وأصبحت ركيزة أساسية في مسيرة تراكم إحساس الأوربيون بمركزيتهم لعبت منذ البداية دورا في تنقية مفهوم الهوية الأوروبية من الأغيار ، لم تعترف يوما بحجم – جاء الإعتراف متأخرا جدا- بأن نموها المضطرد كشعلة حضارية هو نتاج بلورتها لحضارات مابين النهرين والحضارة الفرعونية ، بل إنها مارست نفس الإقصاء المتعمد لجيرانها الأوربيون مرة بإسم متوسطية موقعها بين الشعوب الباردة الجاهلة شمالا والشعوب الحامية الكسولة جنوبا ، ومرات بإسم ديمقراطية نظامها السياسي الذي أكد باحثون كثر لاحقا زيف إدعاءه حين حلل المجتمع اليوناني الطبقي القائم علي ثنائية العبد والحر التاريخية ، ترتحل إذن تلك النواة الصلبة من لحظة اليونان الفارقة أوروبيا لتمارس منذ تلك اللحظة تمحورها عبر التاريخ ككل ثابت فيما كل ماعداها كل ثابت أخر في دونيته ، تأتي المسيحية لتعطي للمسحة الجغرافية الإستعلائية بعدها الديني فتقسم العالم توراتيا إلي أبناء يافث ( الأوربيون) الذين لابد لهم من الإنتصار علي أبناء سام ( في آسيا)وأبناء حام ( في إفريقيا) ، وحتي حين تتنافس أوروبا علي خطاب هويتها ذاته مع غنقسام العالم المسيحي إلي كنيستان إحداهما شرقية وأخري غربية، يتم إلصاق عيوب الشرق المأفون بالكنيسة الشرقية لمجرد مجاورته لهذا الشرق الغرائبي ، ويتحول الفخر الأثيني إلي عيب ومذلة يتم إلصاقهما بالكنيسة الشرقية ليتصاعد نحت التمايز الغرب شرقي حتي في داخل أوروبا ، يتمدد العالم جغرافيا من حول المركزية الجغرافية الأوروبية ويبقي الشرق شرقا حتي مع إكتشاف أعماق آسيا وقلب إفريقيا وظهور البحر المتوسط كبركة صغيرة يتضخم من حولها العالم ، ومع ظهور الإسلام في الجار الشرقي القريب البعيد تستمر مرحلة الجهل العمدي به ، تظهر حتي – كما يوضح زكاري- في التسمية ، ساراسيين أم هاجريين أم إسماعلييين ؟ ، ديانة توحيدية أم ثالوث وثني أم وثنيون اصفياء ؟، حتي من رحلوا إلي هذا العالم بغرض التجارة أو الرحلة قدموا منه بحكايات تثبت غرائبية هذا الجار النامي بإضطراد ، تجعله ذلك الآخر الدوني العجيب في وعي النخب كما في وعي الخطاب الشعبي ، وفيما أوروبا تدخل في غياهب عصورها الوسطي المظلمة وينمو الجار الإسلامي قارعا بصهيل أحصنته وقرقعة سيوفه أبواب مناطق المسيحية في أقاليم الإمبراطورية الرومانية المتحللة ، تبدو الأمبراطورية المسيحية الغربية شامتة في جارتها الشرقية المتحللة بل يري مثقفوا الغرب المسيحي أن في إنتقام الشرق الإسلامي المتخلف من الشرق المسيحي المتخلف هو الآخر معركة بين شرقين متخلفين ، وحتي مع تحور المفهوم الشرقي الفارسي المبهر والسحري لكنه المتخلف من جهة داخل المعني الإسلامي بعد فتح الإسلام للإمبراطورية الفارسية ، تتحول نقائص وعيوب ذلك الفارسي الذائب إلي القيمة الصافية في الحضارة الإسلامية ، يذكر لوكمان كيف أن مثقفي أوروبا الغربية إستصعبوا من البداية إحتساب ذلك المد الإسلامي لخصائص أصيلة في الدين المحمدي ، بل إنهم عزوا التقدم المضطرد في عصر الدولة العباسية مثلا إلي كون ملوكها في الباطن مسيحيون ، وأن ما انجز في عصور النهضة الإسلامية هو ببساطة نتاج حضارة فارس ذات الأصل الآري ، وكأن أوروبا حتي في لحظات ضعفها جعلت أسباب تفوق الشرق مختومة للأسف بمركزية الهوية الأوروبية ، يرتحل لوكمان إذن في نصوص وحوليات وكتب رحلات وتقارير سياسية أوروبية بحثا عن الرتوش المتراكمة عصرا تلو الآخر في صورة الشرق ، التي هي في مرآة الذات الأوروبية نفيا أو إثباتا لصورته عن ذاته ، وتأتي الحملات الصليبية المتتالية نحو الشرق لتربط بين المصالح الدينية الكنسية والمصالح السياسية لأمراء أوروبا بالخيال الشعبي للمواطنين الأوربيون ، حيث جردت الحملة تحت صليب الكنيسة وفقا لما رسمه الرحالة المأخوذين بسحر الشرق بأنهار عسله وذهبه الصافي ونساءه الشبقيات ورجالة قساة القلب علي أرض الحج المسيحي ، إنها الصورة أخيرا المفصلية في عداء بإسم الصليب التقدمي في مواجهة جهالة الشرق الوثني والتي يدفع ذكاري بأنها حكمت الصورة الذهنية الإستعمارية اللاحقة في تعامل أوروبا مع الشرق أو أي شرق آخر سواء في أسيا البعيدة او في إفريقيا المجهولة أو أمريكا المستكشفة بعد عصور ، لكن هزائم الحملات الصليبة لا تمنع أوروبا من إغتصاب مواطن الفخر الشرقي فهاهم ينسجون الأساطير حول صلاح الدين الذي هزمهم ، بل ويقتنصونه من قلب سيرورة الشرق في حكايات شعبية تؤكد أنه إما ولد لأم مسيحية أو أسر بمسيحيته علي فراش الموت ، وهذا الميكانيزم من إنتزاع إيجابيات الآخر لتحسين صورة الذات سيجد أكبر دليل عليه حين تراقب أوروبا آخر ترنيمات البجعة الإسلامية ممثلة في الدولة العثمانية ، حيث التأرجح بين الإعجاب الذي يعزو كل فضائلها لصفات أوروبية أصيلة والتأكيد علي مثالبها التي إكتسبتها بإرتباطها بالدين المحمدي ، فنهضة الدولة العثمانية كما يري الخطاب الإستشراقي كان علي يد العبيد المسيحيون بالولادة المجلوبين من أقاليم التوسع العثماني ، وأن إنهيار الدولة العثمانية جاء مع سيادة العنصر التركي شيئا فشيئا علي تركيبة الدولة،
هنا ومع لحظة النمو لأوروبا الغربية المتمثلة في عصر نهضتها ، حين مالت الإمارات الصغيرة للتوحد في دول قومية وبزغ من قلب المرحلة الإقطاعية التحلل من سلطة الكنيسة وجدت أوروبا نفسها أقرب لبلورة أخيرة لصورتها المثالية ، صورة مفادها أنه بما ان(ننا) أنجزنا المهمة التاريخية بالتقدم والعقلانية فنحن الأولي بسيادة العالم ، جغرافيا تتفتح تحت ضربات السفن التي تلف العالم فتكسر مركزية العلاقة القديمة بشرق محيط لأوروبا – رحلات إكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح والوصول إلي الهند - ، وضربة حظ لمغامر آخر تكتشف العالم الجديد ، هنا يؤكد زكاري لوكمان أن الخطاب الإستشراقي القديم والتقليدي كان ولا يزال أسير ذلك التعميم المدهش الذي يري في الشرق كلا ثابتا جوهرانيا لايتغير بفعل الزمن أو الجغرافيا ، شرق فارسي كان أو إسلامي يجري تلخيصه في معالم ثابتة مثلما يري في نفسه غربا ثابتا ممتد منذ الحضار اليونانية إلي ديمقراطية جورج بوش ، شرق يجري الحديث فيه عن " الشخصية الإسلامية " أو " المسلم " كمفردة تجمع لاتفرق بين حضارات وأقاليم شتي ولغات وثقافات متنوعة ، فيما الغرب نفسه بحدوده الأوروبية النامية والمرتكزة علي مفهوم العرق قبل الديانة يتسع ليشمل متناقضات أوروبا ويوحدها في مصطلح واحد هو الغرب ، هذا الميل إلي التركيز علي نواة صلبة لاتاريخية ومصمتة هو قلب نظرية المركزية الأوروبية المرتحلة منذ قرون ، والتي فيما هي تشكل العالم وفقا لإزدواجات تعميمية مبسطة ، تخلق نقيضها وتبلوره وربما تقنعه بأنه شرق ، وتأتي الحداثة الصناعية والرأسمالية التي صعدت بالغرب لتؤكد هذا التمييز القسري ، ويأتي العلم المكتشف في نهضته الكبري ليدفع بالهوية الأوروبية إلي أقصي تطرفاتها تمايزا ، فطالما إستاطعت أوروبا إنجاز هذه النقلة دون غيرها – دون أن تدري كذلك أنه علي حساب غيرها بالأساس- فهي بالسليقة تحتوي علي صفات نقية دفعتها لإنجاز مشروع الحضارة الحديثة ، وتأتي نظرية التطور لداروين والثورة الصناعية من قبلها لتلعب دورا في تحويل هذا التمايز في المخيلة إلي ثروات كبري ، فبإسم هذا التمايز يساق العبيد من إفريقيا لخدمة التطور الرأسمالي النامي في الأمريكيتين ، وتحت حمي نفس القناعة يجري إقتسام العالم بين الأوربيون ، هكذا يلتحم خطاب الإستشراق بالمصالح الإقتصادية ويتحول من مجرد تراكم في المخيلة الأوروبية إلي أهم أداة في مشروعها لإستعمار العالم ، وللتأكيد علي عمق هذا الخطاب يسلط لوكمان الضؤ علي تخلل هذا الخطاب حتي بين أبناء النزعة الرومانتيكية في خطاب القرن الثامن والتاسع عشر ، فصاحب " روح القوانين " أول من لفت الإنتباه لمصطلح الإستبداد الشرقي ، وجوته في أعماله المهووسة بالروحانية الشرقية – فاوست نموذجا- يكرس لغرائبية وسحر هذا البعيد القصي ، ويقدم كذلك كيف تخلل هذا الخطاب الإستشراقي بني خطاب المفكرين الماديين الجدليين كهيجل وماركس فيما عرف بتخريجة " نمط الإنتاج الآسيوي " التي وجد ماركس أنها أحد أسباب إنجاز مهمة التطور البرجوازي والرأسمالي في أوروبا وصعوبة إنجازها في أسيا أو الشرق ، وهي أكثر المثالب النظرية في الوعي الماركسي الذي بدي يبشر في هذا المنحي بضرورة وأهمية الإستعمار كمخرج لشعوب الشرق من حلقة الإستبداد والموات الإقتصادي السياسي ، ولا يعني إستمرار خطاب التمايز الإستشراقي عبر مراحل التاريخ آلية منضبطة ووحيدة لرؤية الغرب بشكل قاطع فالكاتب يورد أمثلة منذ البدايات لخطاب مواز وإن كان ضعيفا وشاحبا في رؤي الغرب للشرق فيه بعض الموضوعية ، وإن بقي الخط العام لخطاب الإستشراق أبنا للتعميم الأجوف والأكاذيب واللاعلمية ، ومن تشكل مصطلح الإستشراق كمناخ عام لرؤي أورويا عن نفسها إلي ظهور المصطلح بشكل علمي مؤسسي في الجامعات الأوروبية ينتقل لوكمان إلي العصر الحديث الذي إرتبط فيه علم الإستشراق بمصالح السياسة الإستعمارية بشكل مباشر ، وخاصا في العالم الأنجلو ساكسوني ، فإنجلترا حكمت كثير من دول الاشرق وأمريكا تورطت بداية القرن العشرين بمصالحها في نفس الملاعب الجغرافية ، فظهر علم دراسات المناطق في أمريكا أبنا شرعيا لمؤسسان راسمالية كبري أصبحت في أشد الحاجة لمتخصصين في أقاليم الخامات والإستهلاك السلعي ، لذا ليس غريبا أن يكون روكفلر وفورد وكارينجي أساطير الرأسمالية الأمريكية أول من دعموا مراكز الأبحاث لدراسات الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الولي وحتي الآن ، لكن زكاري أيضا يشير إلي حركة المقاومة التي بدأت منذ نهاية الستينيات في تلك المراكز مع تفجر مدارس نقد الإستعمار والمركزية الأوروبية عارجا علي إدوارد سعيد وكثيرا من المناضلين الذين يحاولون مواجهة ذلك المصطلح الظالم لمعظم دول العالم ، وتبدو الأزمة الحقيقية في تأمل هذا الكتاب الذي وجهه الباحث إلي القارئ الأمريكي " العادي " أنه يضع كثيرا من الملح علي جراح القارئ العربي المتخصص ، فكثير مما إحتواه يؤكد أن فيما الغرب يراجع مفهوما مؤبدا عن صورته ننحو نحن في طبعتنا الإسلاماوية والقومية إلي التأكيد علي أن الإسلام والعروبة هوذلك الجوهر الثابت الجامد منذ قرون وكأننا نؤبد ما يفعله بنا الغرب بتصديق الصورة وتطبيقها علي أنفسنا ، خاصا إذا ما عرفنا حجم الهوة التي باتت تضيق بن مار يراه الأخرين عنا وماصرنا نحتفي بدموية أسامة بن لادن علي تصديقه في أنفسنا ، وهو مايؤكد أن خطاب الإستشراق يواجهه خطاب إستغراب لن نجد وقتا بين الحرائق لنقده أو مراجعته ن وهذه هي المصيبة لو عرفنا.

حين كان الخطاب الرئاسي مناسبة للفرح العام


حين كان الخطاب الرئاسي مناسبة للفرح العام
والله زمان ياسادات .....ياملك البهججة
هاني درويش
لم أستطع يوما تفسير بكاء أمي الملتاع يوم وفاة الرئيس السادات ، إنقطع الإرسال فجأة ففتحت أمي الراديو وجلست تبكي ، سألتها "مش ياماما السادات دا...اللي حبس بابا " ، فأجابت "بس ياأبني حرام كدا يروح غدر "، مرت سنوات عديدة حتي فهمت مغزي تلك الدمعات القصيرة التي زرفتها في مناسبة كانت جديرة بالزغاريد ، أمي كعادة الشعب المصري في تلك الأيام – وفي كل الأيام حتي الآن- كانت لاتستطيع أن تطبق مقياس معاناتنا الشخصية علي شخصية بحجم الرئيس ، لم تعترف يوما بأن القبض علي أبي تم في عصر السادات ، ولم تفلح محاضرات أبي الكفاحية في إفهامها أن النمو المبالغ فيه لثروة" أم فوزي "الدلالة هي نتاج لسياسات الرئيس المؤمن ، أو أن إزدياد ثروة "أبو تامر" من سفرياته الطويلة لبورسعيد وحضوره بشنط الشامبو ومعجون الأسنان هو تخريب للإقتصاد القومي – لا الوطني طبعا حيث كانت التعبيرات القومية لازالت شائعة - ، لأن أمي السيدة التي لم تأكل من "عنب " الثورة شيئا ، تمنت أن يفلح آخرون في أكل "بلح" الإنفتاح ، حتي لو حقد الحاقدون ، امي لاتختلف كثيرا عن الملايين الذين أحبوا السادات بإخلاص ، رجل إستطاع أن ينقل بلد من مرحلة الخنادق و"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" إلي إنتظار الملايين لخطاباته بأكياس الفول السوداني وأكوام اللب ، فقد كانت خطابات الرئيس المؤمن مناسبة فارقة للضحك من القلب ، ففيما كان ناصر يدفع الناس للخروج إلي الشوارع منتفخي الأوداج ، كان خطاب الرئيس السادات فرصة لإتساع الأشداق والإرتخاء علي الكنب وتمديد السيقان علي إتساعها ، لذا كان طبيعيا أن يكون مادة محببة للكاريكاتير ، بحكم تكوينه الفسيولوجي ولغة جسده الطاغية الحضور وتلوينات صوته ، هذا بعيدا عن تحليل مضمون منتجه الكلامي الذي يمزج بين الغمز واللمز علي طريقة حكائين المصاطب الشعبية ، والرطانة السياسية المشخصنة التي لاتفرق بين الوطن والرئيس ، بين الحاكم المتلبس سمت كبير العائلة المصرية وبين المسافة المفترضة مع جمهور يمثل جسد متباين الأعضاء والوظائف ، خطابات السادات التي كانت أمي تسمعها كانت موجهة إليها ، إلي تلك الحكمة "الفكيكة" التي يتحدث بها أب إلي أبناءه ، يسمح لهم بالسخرية عليه من خلف ظهره ، لكن نحنحته من بير السلم كافية لإسكات الضحك العالي في الدور الثاني ، هكذا كانت أمي تتابع بشغف سخريته من القذافي وبريجينيف في جلسة مجلس الشعب عندما وقف يقول :”..... أظن كلنا شايفين بعينا المحاور اللي بيعملها ...أا أا.....الإتحاد السو ....فيتي ...أا ...أا......وفي الخطاب الأخير..أنا جاي أهوه ..بتاع بريجينيف أاا أاا ... موضح وقايل...وإبتدي يقسم العالم العربي أاا..أأاا ....خلاف التقسيمة بتاعة التصنيف ...بتاع الرجعي والتقدمي ..لأ( بنبرة عالية قاطعة مع رفع اليد) أااا ....أااا بي ...بيقسم التقسيمة بتاعتوه هواه...لأنوه ...أااا...معمر القذافي قال عليه...أا .. (يضم يده وهو يعد كما من يتعلم العد) الملحد ...أاا..أاا ...الكافر ....الإستعمار الجديد ...طيب ( يفتح يده خالية) ...دلوقتي علاقته مع معمر القذافي سمن علي عسل ....طيب ( يضم يده بقائمة إحتمالات) ...ياهل تري..أااا أأأا....معمر هوا اللي قلب..( يشير بإصبعه الكبير لأسفل بينما يتمايل برأسه ) ولا... الإتحاد السوفيتي هوا اللي أآآمن؟.....( يمط رأسه لليمين موجها بصره لشخصية متخيلة وكأنه ينتظر الإجابة منصتا فيما الضحك والتصفيق يتصاعد ... الصورة تنقل ضحكات وإهتزازات الصف الأول من نواب مجلس الشعب فيما نائبه يتأكد من عدد الضاحكين حوله قبل أن يبتسم بتثاقل ثم تعود الكاميرا إلي المنصة ) ...يعني الحقيقة أااا....أأأ ....العملية ...فا ....(صمت ) ".
لااستطيع أن اصف مقدار البسمة التي كانت تعلو وجه أمي في تلك اللحظة ، بسمة أعتقد أن الكثيرون من ابناء هذه الفترة قد شاركوها فيها ، فالسادات رغم حجم النتائج المهولة لسياساته التي ندفع اثمانها حتي الآن إستطاع أن يجمع علي الأقل من الكاريزما نصيب لابأس به ، كاريزما كان يحتاجها شعب مفطور في أباه ، شعب يعلم أنها فرصة الأخ الكبير لملئ عباءة أوسع منه قليلا ، عباءة تحتاج إلي من يقدم إسكتشا هزليا، مثل من يلقي نكتة حارقة في سرادق عزاء كبير ، لذا كان طبيعيا أن تترقرق عيناي كلما تابعت مع أبي جلساته الليلية بجانب كاسيت الثمانينات الشهير ماركة ناشيونال 747 ذا الزرار الأحمر ، بينما في فسح الدراسة نتبادل الشريط الساخر بنكاته الحارقة بصوت ماعرف يومها بالممثل الشاب أحمد ذكي ، الآن أسترشد بخيال صديقي الروائي الجميل ياسر إبراهيم الذي رأي أن "ناصر" كان يمسك بمطواة قرن غزال في جيب بنطاله اليمين فيما هو يلقي خطاب التنحي ، وأحمل كل الإسكتشات الكوميدية للرئيس المؤمن لساعات الكآبة الصافية بحثا عن إبتسامة أمي ، أمي التي لم تري من بعدها خطابا واحدا للرئيس النائب ، ولم يجد أبي موضوعا يصلح للنقاش معها ، تحية لملك البهججة ...وحشتنايا أأاا...أااا يا راجل.